مَنْ أَشْعَلَ النِّيرَانَ فِي أَجْرَانِ الْقَمْحِ ؟


كَنَسْرٍ سَقَطَ جَرِيحًا عَلَى جَنَاحَيْهِ النَّازِفَيْنِ فَوْقَ صَخْرَةٍ وَسَطَ أَشْجَارِ النَّخِيلِ يَجُرُّ عَنْتَرٌ رِجْلَيْهِ حَامِلاً فَوْقَ ظَهْرِهِ غُبَارَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَضَاهَا خَادِمًا أَبْنَاءَ قَرْيَتِهِ الَّذِينَ وَقَفُوا فِي دَهْشَةٍ يُتَابِعُونَ فَرَسَهُ الْجَامِحَ يَصْهِلُ غَاضِبًا مُكِرًّا نَحْوَ أَجْرَانِ الْقَمْحِ الْبَعِيدَةِ وَرَاءَ الْحُقُولِ 000
مَطْرُودًا عَلَى حِصَانِهِ الأَبْيَضِ يَخْرُجُ عَنْتَرٌ مَهْزُومًا لا يَمْلِكُ إِلا أَنْ يُغَادِرَ دِفْءَ الْبُيُوتِ مُوَدِّعًا شَوَارِعَهَا الضَّيِّقَةَ ، نَاظِرًا إِلَى سُطُوحِهَا الْمُعَرَّشَةِ بِأَعْوَادِ الْحَطَبِ وَبَقَايَا قَشِّ الْقَمْحِ وَكِيزَانِ الذُّرَةِ 000
مُقْسِمًا أَنْ يَعُودَ مُنْتَقِمًا يَسْتَسْلِمُ لِدُمُوعِهِ الْمُتَسَاقِطَةِ فَوْقَ صَدْرِهِ مُتَلأْلِئَةً كَالنَّدَى ، مَمْزُوجَةً بِحَبَّاتِ عَرَقِهِ النَّازِلِ مِنْ جَبِيْنَهِ الْمَشْدُودِ كَوَتَرِ الْقَوْسِ 000
تَبْكِي وَرْدَةُ لاطِمَةً خَدَّيْهَا ، تُهِيلُ الْغُبَارَ عَلَى وَجْهِهَا جَالِسَةً عَلَى رُكْبَتَيْهَا ، ضَارِبَةً بِيَدَيْهَا فَوْقَهُمَا ، صَارِخَةً فِي ذُهُولٍ لا تُصَدِّقُ أَنَّ حُلْمَهَا يَمُوتُ أَمَامَ عَيْنَيْهَا يَلْفَظُ أَنْفَاسَهُ الأَخِيرَةَ خَلْفَ حِصَانِ عَنْتَرٍ الَّذِي يَكِرُّ جَامِحًا مُخْتَفِيًا وَرَاءَ حُقُولِ اللَّيْمُونِ 000
يُقَهْقِهُ مَنْدُورٌ فِي سُخْرِيَةٍ غَامِزًا بِعَيْنَيْهِ الْوَاسِعَتَيْنِ لِلْعُمْدَةِ الْجَالِسِ فَوْقَ بَغْلَتِهِ كَشَجَرَةِ جُمَّيْزٍ ، يَشُقُّ الزِّحَامَ دَافِعًا الْوَاقِفَاتِ بِرِجْلَيْهِ يَمِينًا وَيَسَارًا 000
ـ يَا أَهْلاً يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ ، يَا أَهْلاً وَسَهْلاً 0
ـ يَا وَلَدُ يَا صَابِرُ ، اضْرِبِ الْوَاقِفِينَ كَالْبَهَائِمِ بِعَصَاكَ يَا وَلَدُ !!
ـ حَاضِرٌ يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ 0
يَبْتَعِدُ الْوَاقِفُونَ مُسْرِعِينَ ، يُقَهْقِرُونَ دَافِعِينَ خِزْيَهُمْ أَمَامَ أَرْجُلِهِمْ ، مُتَفَادِينَ الْعِصِىَّ الَّتِي تَرْتَفِعُ فِي الْهَوَاءِ هَابِطَةً عَلَى أَجْسَادِهِمْ مُوجِعَةً فِي غَيْرِ رَحْمَةٍ ، لا يَفْقِدُونَ الأَمَلَ فِي عَوْدَةِ عَنْتَرٍ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ جَبَرُوتِ الَّذِينَ لا يَمَلُّونَ مِنْ إِذْلالِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى بَقَايَا أَرْغِفَةٍ يُلْقِيهَا السَّيِّدُ ، يُغَمِّسُونَهَا بِعَرَقِهِمْ فِي وَجَعٍ لا يَنْتَهِي 000
ـ يَا صَبَاحَ الْخَيْرِ يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ 0
ـ أَهْلاً يَا مَنْدُورُ 0
ـ الآنَ يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ الْقَمْحُ أَصْبَحَ لِي كَمَا وَعَدْتَ 0
ـ أَيُّ قَمْحٍ يَا مَخْبُولُ ؟ اسْكُتْ أَحْسَنُ لَكَ ، أَوْ أَقْطَعُ ـ وَاللهِ ـ لِسَانَكَ فِي الْحَالِ !!
ـ لَكِنَّنِي دَفَعْتُ ثَمَنَهُ لَكَ مُقَدَّمًا يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ لِتَتَفَاهَمَ أَنْتَ مَعَ الْفَلاحِينَ !!
ـ سَأَرُدُّ لَكَ مَا دَفَعْتَ 000 مُرَّ عَلَيَّ الأُسْبُوعَ الْقَادِمَ فِي الدَّوَّارِ 000 مَعَ السَّلامَةِ يَا مَنْدُورُ !!
ـ وَلِمَاذَا يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ ؟
ـ لأَنَّنِي بِعْتُهُ ، وَقَبَضْتُ ثَمَنَهُ ضِعْفَ مَا دَفَعْتَ مَرَّتَيْنِ يَا شَاطِرُ0
ـ وَلِمَنْ بِعْتَهُ يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ ؟
ـ لِلْغُولِ يَا أَخِي ، ارْتَحْتَ الآَنَ ؟
ـ لِلْغُولِ يَا حَضْرَةَ الْعُمْدَةِ ؟ أَنَسِيتَ مَا صَنَعَهُ مَعَكَ الْعَامَ الْمَاضِي ؟
ـ لَيْسَ لَكَ دَخْلٌ يَا أَخِي ، أَنَا حُرٌّ ، هَيَّا امْشِ مِنْ هُنَا ، لا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ الآَنَ ، هَيَّا هَيَّا !!
000000
000000
000000
حِينَ يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَغُطُّ الْقَرْيَةُ فِي نَوْمِهَا ، يَسْتُرُ ظَلامُهُ الدَّامِسُ بُيُوتَهَا الَّتِي تَتَشَوَّقُ إِلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ الشَّاحِبِ فَوْقَ الرُّبَى كَمِنْجَلٍ صَدِإٍ ، مُتَسَلِّلاً فِي انْحِنَاءٍ إِلَى سُطُوحِهَا السَّاكِنَةِ كَوَجْهِ عَجُوزٍ فِي التِّسْعِينَ 000
وَرَاءَ أَجْرَانِ الْقَمْحِ يَسْهَرُ بَعْضُ الْفَلاحِينَ الْبُسَطَاءِ ، يُطْلِقُونَ كِلابَهُمْ تَنْبُحُ فِي اللُّصُوصِ وَرَاءَ الْحُقُولِ 000
يَلْتَفُّونَ مُلْتَصِقِينَ يَطْلُبُونَ الدِّفْءَ حَوْلَ بَقَايَا أَعْوَادِ الْحَطَبِ الْمُشْتَعِلِ ، يَلْتَقِطُونَ كِيزَانَ الذُّرَةِ الْمَشْوِيَّةَ وَاضِعِينَ بُرَّادَ الشَّايِ فَوْقَ لَهِيِبهَا الْهَادِئِ 000
يَزْدَادُ نُبَاحُ الْكِلابِ فِي مُحَاوَلَةٍ لِتَنْبِيهِ الْجَالِسِينَ إِلَى هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَحَاطُوا تِلْكَ الْحَسْنَاءَ خَالِعَةً ثِيَابَهَا الْمُبْتَلَّةَ ، مُسْتَسْلِمَةً لِنَهْشِهِمُ الْمَسْعُورِ فِي جَسَدِهَا النَّاعِمِ ، نَائِمَةً فَوْقَ أَعْوَادِ الْقَمْحِ ، غَائِبَةً فِي انْتِشَاءٍ 000
عَلَى الْجَانِبِ الآَخَرِ يَجْلِسُ بَعْضُ الصِّبْيَانِ يُدَخِّنُونَ مُقَهْقِهِينَ يَتَعَجَّبُونَ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ هَؤُلاءِ الْعَفَارِيتُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْجِنِّيَّةِ الْفَاتِنَةِ رَاضِيَةً بَيْنَ الْحُقُولِ 000
يُتَابِعُونَ مِنْ بَعِيدٍ كَاتِمِينَ أَنْفَاسَهُمْ تُدَاعِبُهُمْ خَيَالاتٌ لا تَتَوَقَّفُ 000
000000
000000
000000
حِينَ يُؤَذِّنُ الْفَجْرُ تَخْلُو الْحُقُولُ وَالأَجْرَانُ إِلا مِنْ بَعْضِ الْعَصَافِيرِ النَّشِيطَةِ تُبَكِّرُ مُلْتَقِطَةً حَبَّاتِ الْقَمْحِ 000
يَنْهَضُ الْفَلاحُونَ إِلَى الْمَسَاجِدِ كَعَادَتِهِمْ عَائِدِينَ إِلَى بُيُوتِهِمْ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى حُقُولِهِمْ حَامِلِينَ فُؤُوسَهُمْ وَمَنَاجِلَهُمْ يَجُرُّونَ الْمَحَارِيثَ وَالأَبْقَارَ الْجَائِعَةَ نَحْوَ فَدَادِينِ الْبِرْسِيمِ الْخَضْرَاءِ 000
ـ يَا عَبْدَ الصَّبُورِ ، النَّارُ يَا رَجُلُ !!
ـ أَيْنَ يَا وَلَدُ ؟
ـ هُنَاكَ تَشْتَعِلُ نَاحِيَةَ أَجْرَانِ الْقَمْحِ 0
ـ الْحَقْ يَا صَابِرُ !!
ـ أَسْرِعْ يَا مَحْمُودُ !!
ـ يَا عَزِيزُ 0
ـ النَّجْدَةَ يَا رِجَالُ !!
ـ أَسْرِعُوا يَا شَبَابُ !!
يُهَرْوِلُونَ فِي تَخَبُّطٍ نَحْوَ النِّيرَانِ الَّتِي تَمْتَدُّ زَاحِفَةً نَحْوَ بُيُوتِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَتَتْ عَلَى مَحْصُولِ الْقَمْحِ لِهَذَا الْعَامِ 000
يُحَاوِلُونَ يَائِسِينَ مُحَاصَرَةَ اللَّهِيبِ الْمُتَطَايِرِ نَحْوَ أَعَالِي الْبُيُوتِ الطِّينِيَّةِ 000
تَفْزَعُ النِّسَاءُ فَوْقَ السُّطُوحِ حَامِلاتٍ جِرَارَهُنَّ يَدْفَعُونَهَا فَوْقَ أَعْوَادِ الْحَطَبِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهَا النِّيرَانُ 000
يَرْتَعِشُ الأَطْفَالُ خَائِفِينَ فَوْقَ سَلالِمِ الْبُيُوتِ الْخَشَبِيَّةِ يَخْشَوْنَ أَنْ يَظَلُّوا وَحْدَهُمْ فِي الدَّاخِلِ وَلا يَجْرُؤُونَ أَنْ يَصْعَدُوا فَوْقَ السُّطُوحِ 000
تَجْرِي وَرْدَةُ وَحْدَهَا حَامِلَةً وِعَاءً مَمْلُوءً بِالْمَاءِ بَيْنَ صُفُوفِ الْمُتَزَاحِمِينَ حَوْلَ النِّيرَانِ 000
ـ اسْتُرْهَا يَا سَتَّارُ ، يَا مُنَجِّي مِنَ الأَخْطَارِ !!
ـ يَا لَطِيفُ ، الْطُفْ يَا لَطِيفُ !!
ـ انْزِلْ يَا وَلَدُ ، ادْخُلْ حُجْرَتَكَ 0
ـ يَا رَبِّ !!
تَصْرُخُ الصَّبَايَا مُسْتَغِيثَاتٍ مَفْزُوعَاتٍ ، يَتَمَاسَكْنَ قَلِيلاً مُشَجِّعَاتٍ شَبَابَ الْقَرْيَةِ أَنْ يَصْمُدُوا لِلَّهِيبِ 000
يَمْلأُ الدُّخَانُ سَمَاءَ الْقَرْيَةِ ، تَهْدَأُ تَحْتَهُ أَلْسِنَةُ النِّيرَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا 000
تَلْتَفِتُ وَرْدَةُ إِلَى وَجْهِ عَنْتَرٍ مُشْرِقًا بَيْنَ الزِّحَامِ فَوْقَ حِصَانِهِ الأَبْيَضِ 000
تَبْكِي الصَّبَايَا مُتْعَبَاتٍ نَازِلاتٍ لِلسَّاحَاتِ مُتَنَهِّدَاتٍ يَسْتَقْبِلْنَ ـ بِالأَحْضَانِ ـ الْعَائِدِينَ مِنَ الْحَرِيقِ الَّذِي خَمَدَ بَعْدَ سَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ 000
يَتَسَاءَلْنَ مُخَبِّئَاتٍ رُؤُوسَهُنَّ بَيْنَ أَيدِيهِنَّ الرَّقِيقَاتِ نَاظِرَاتٍ إِلَى بَعْضِهِنَّ حَيَارَى فِي دَهْشَةٍ لا تَزُولُ : مَنْ أَشْعَلَ النِّيرَانَ فِي أَجْرَانِ الْقَمْحِ ؟