إن القضاء هو سلطة الله العادل سبحانه وتعالى في الأرض وهو تفويض من هذه السلطة لإقامة شريعته المنصفة على الأرض وتحقيق مبدأ الخلافة الذي اختص الإنسان فيه // إني جاعل في الأرض خليفة // ولكي تتحقق هذه الخلافة وهذه السلطة فيجب بداية أن تتفهم طبيعة من يتعامل معها وأن تكون قادرة على احتوائه والنفاذ لداخله كما تفهم العدالة الإلهية طبيعة النفس البشرية التي خلقتها وتسامح وتعاقب وتغفر حسب كل نفس قال تعالى (( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ماتوسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )) وبالتالي على سلطة الأرض أن تحاول أن تقترب من متعاملها ولا تألو في ذلك جهداً .
وبداية نقسم ضرورة
أهمية علم النفس في القضاء إلى قسمين :
1 ـ أهميته في مجال تكوين اللبنة الأساسية التي تشكل
القضاء وهي القاضي الذي يتولى بأحكامه وقراراته مصائر أفراد المجتمع و ربما حتى حياتهم أو إعدام هذه الحياة .
2 ـ دور علم
النفس والطب النفسي في حماية المتهم والمجني عليه معاً وتحقيق العدالة المنشودة .
أولاً : دور علم
النفس والطب النفسي في تكوين القاضي لبنة القضاء الأولى :
إن تعيين رجل
القضاء لدينا يتم فقط على أسس مادية بحتة ترتكز على التأكد من معلوماته القانونية واسترجاعه لما تمت دراسته على مقاعد الجامعة ثم يخضع لتدريب لا يتضمن منهج علم النفس مطلقاً ولا تخضع شخصية هذا القاضي نفسه للدراسة النفسية والتقييم النفسي فنحن كما نعلم أن المرض النفسي يختلف عن المرض العقلي الذي يودي بالعقل وهذا مكشوف وواضح للعيان لكن الخطورة تكمن في الأعراض النفسية التي تعتري الشخصية البشرية والتي قد يؤدي تجاهلها والاستخفاف بها إلى استفحالها و تحولها لمزمنة مستعصية على الشفاء وقد تكون لها انعكاسات خطيرة على الشخص نفسه وعلى من حوله رغم أنه اجتماعياً يقيم في إطار الأشخاص المسؤولين عن تصرفاتهم لكن علمياً ربما هذه المسؤولية منقوصة تبعاً لنقص في قدراته النفسية وبالتالي لايصلح لتولي مسؤولية كبرى كالقضاء كما أنه قد يعكس اضطراباته النفسية على عمله وهذا العمل ليس أداة جامدة أو قطعة أثاث قد لا تكون مشكلة لو خربت لكنه عمل يحدد مصائر أفراد ومستقبل حياتهم وربما أدوى بهذه الحياة نهائياً وبالتالي إن لشخصية القاضي السوية نفسياً دور كبير في تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع هذه السوية الشخصية لا تقل أهمية عن خبرته القانونية الأكاديمية والعملية .
كما أن تأهيل القاضي نفسياً لعمله وتدريبه على سبر غور الأنفس واكتشاف عيوبها وبالتالي مداخل التعامل معها والغوص لأعماقها لسبر كنهها هو حق من حقوقه هو شخصياً على السلطة التي قامت بتعيينه وواجب عليها تفرضه عدالة القانون و ضمان حقوق التقاضي فالشخص الذي يتولى مهمة
القضاء قد لا يسعفه النص القانوني دائماً لحل أي مشكل وصحيح أن هذا النص يغطي بعض الجوانب لكن هناك ما هو أهم من ذلك كله ألا وهو الشخص الماثل أمام سلطة القضاء لا سيما في الدعاوى الجزائية والتي تتعلق بالإنسان شخصياً بحياته والاعتداء عليها أو على عرضه وشرفه هنا النقطة الأصعب في التعامل والقضاء فهذا الشخص قد يكون فناناً في التحايل و إخفاء شخصيته الأساسية بما لا يدركه سوى المطلع على أسرار علم النفس ودراسة الشخصية وبالتالي طرق اختراق حصونها والتعامل معها وهنا تبرز حاجة القاضي الكبيرة لتأهيله وتزويده بخبرة علم النفس ليستطيع معرفة الشخصية الماثلة أمامه وتشريحها وبالتالي الوصول للحقيقة منها ولو حاولت إخفائها هذه الضرورة ذاتها يحتاجها رجل الشرطة والمحقق والسجان كونهم يشكلون السواعد المكملة للقضاء كما أن رجل القضاء والذي بيده تقرير مصير قد يعتمد على أقوال أشخاص في الدعوى غير المتداعيين وهم الشهود فعلى القاضي التمتع بقدرة عالية على استنباط الحقيقة من أقوالهم ودراسة ملامح وجوهم وتعابيرها وقسماتها أثناء الإدلاء بالشهادة لتبين مدى مصداقية وصحة ما يدلون به ودفعهم لقول الحقيقة رغم ممانعتهم وهذا أيضاً يحتاج لتأهيل نفسي علمي جيد كل ما تقدم يؤكد ضرورة دراسة شخصية متولي القضاء ووضعه نفسياً تحت المجهر قبل اتخاذ القرار بتعيينه للوصول بجهاز قضائي أقرب للصحة والعدالة ومن ثم تأهيل هذا القاضي وتسليحه بالمعرفة النفسية لضرورة القيام بعمله على الوجه الأكمل وإدراك كنه المتقاضين والوصول للكشف عن الحقائق ومن حيث النتيجة إحقاق الحق الذي هو غاية التقاضي الأولى وسر سلطة لقضاء في الأرض .
ثانياً : دور علم
النفس والطب النفسي في حماية المتهم والمجني عليه معاً وتحقيق العدالة المنشودة :
إن اللجوء لعلم
النفس والطب النفسي في القضاء هو ضرورة ملحة لتحقيق العدالة وحتى تكون الأحكام مبينة على مراعاة كافة الظروف حتى المجهولة منها ظاهراً وعياناً للقاضي و للمجتمع وربما للمتهم الجاني نفسه الذي لا يدرك سبب ما ارتكبه من أفعال وجرائم وقد يكون في داخله شخص آخر مختلف عن الشخص الماثل أمام القضاء وغريب عن الحالة التي ارتكب بها فعله غير القانوني مما يجعل عدم الالتفات لدراسة شخصيته هذه ظلماً له وخروج عن مبدأ العدالة كما إن الإعراض عن دراسته نفسياً من حيث البيئة الاجتماعية التي خرج منها ومدى انعكاس ظروفها على شخصيته وصحته النفسية أيضاً هو ظلم له وجنوح عن مبدأ العدالة ونحن لا نقصد أبداً إيجاد المبررات لإفلات أي مجرم من قبضة العدالة الحق لكن نعني وضع الأمور في نصابها الصحيح وعدم المبالغة في الاقتصاص من مجرم ربما لو وضع أي منا في ظروفه الاجتماعية والنفسية والمادية لقام بذات الفعل أو أعنف وأقسى منه وهذا ما نقصده بضرورة إنصاف هذا المجرم في محاكمته والإحاطة بكافة العوامل التي أدت به لارتكاب ما ارتكب ومن ثم تطبيق النص القانوني . من جانب آخر قد نكون مضطرين لاستخدام قواعد علم النفس والطب النفسي لحماية المجني عليه واسترداد حقوقه ومعاقبة من تطاول على هذه الحقوق ويريد أن يفلت من العقاب بداعي عدم التوازن النفسي والتعذر بأساليب مصطنعة وهمية للتظاهر بعدم السوية والمرض للإفلات من أن يطاله القانون و العقوبة وعدم معرفة القاضي مبدئياً بهذه الأولويات واستجابته لمحاولات المتهم قد يشكل ظلماً للمجني عليه وعدم إنصافه وهنا يأتي دور الطب النفسي والخبرة الطبية فالقاضي مهما أوتي من علم لن يلم بكافة مناحي العلوم وبالتالي عليه الاستعانة بأهل الخبرة كما جاء في نصوص القانون والمستمد أصله الشرعي من قوله تعالى (( فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) وأهل الذكر هم أهل الخبرة والاختصاص في كل مجال وليس المجال الديني الشرعي فقط وبالتالي فلجوء المحكمة لإجراء الخبرة الطبية على الجاني وربما يحتاج الأمر لدراسة وضع المجني عليه ومدى مساهمته في وقوع الفعل هذه الخبرة مع استيفائها لشروطها اللازمة سوف تسهم كثيراً في تحقيق العدالة بين الأطراف فلا تغفل ظروف الجاني النفسية والاجتماعية وانعكاسها على ارتكابه للجرم فيعاقب بأكثر مما يستحق كما لا يعطى فرصة للتذرع بها أكثر مما يجب لهضم المجني عليه حقوقه و محاولة الإفلات من العقاب مما يؤكد الضرورة الملحة لتواجد علم النفس والطب النفسي في ساحة القضاء كجانب مهم أهمية نصوص القانون والاجتهادات القضائية .
وكي لا نطيل في هذا البحث علماً بأنه ما زال الكثير ليقال في هذا المجال فإنني أعتبر ما ورد هو مقدمة لنقاش مطول يسهم فيه الأساتذة الزملاء في إثراء الموضوع بمزيد من الأفكار والتحليل والله من وراء القصد .