دكتور غنام
قناة دكتور أكرم على يوتيوب

آخـــر الــمــواضــيــع

النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: " أم المعتز " لنزار قباني

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2009
    المشاركات
    520

    افتراضي " أم المعتز " لنزار قباني


    نزار قباني
    أم المعتز

    1

    عندما كانتْ بيروتُ تموتُ بينَ ذِراعَيَّ
    كسَمَكَةٍ اختَرَقَها رِمحْ
    جَاءَني هاتفٌ مِن دِمَشقَ يقولْ:
    "أمُّكَ ماتَتْ".
    لم أستوعبِ الكلماتِ في البدايَهْ
    لم أستوعبْ كيفَ يمكنُ أنْ يموتَ السمَكُ كُلُّهُ في وقتٍ واحدْ ..
    كانتْ هناكَ مدينةٌ حبيبةٌ تموتْ .. إسمُها بيروتْ
    وكانتْ هناكَ أمٌّ مُدهِشَةٌ تَموتْ .. إسمُها فائزَة ..
    وكانَ قَدَري أن أخرُجَ من موتٍ ..
    لأدخُلَ في موتٍ آخَرْ ..
    كانَ قَدَري أن أُسافِرَ بينَ مَوتَيْنْ ...



    2

    كلُّ مَدينةٍ عربيّةٍ هي أمّي ..
    دمشق ، بيروت ، القاهرة ، بغداد ، الخرطوم ،
    الدار البيضاء ، بنغازي ، تونس ، عمّان ، الرياض ،
    الكويت ، الجزائر ، أبو ظبي وأخواتِها ..
    هذهِ هيَ شَجَرةُ عائلتي ..
    كلُّ هذهِ المدائنِ أنزَلَتْني مِنْ رَحْمِها
    وأرضَعَتْني من ثَديِها ..
    وملأَتْ جيوبي عِنباً ، وتيناً ، وبرقوقاً ..
    كلُّها هَزَّتْ لي نَخلَها .. فأكَلْتْ ..
    وفَتَحَتْ سماواتِها لي .. كَرَّاسَةً زَرقاءْ ..
    فَكَتَبْتْ ..
    لذلكَ ، لا أدخلُ مدينةً عِربيّةً .. إلا وتُناديني :
    " يا وَلَدي " ...
    لا أطرقُ بابَ مدينةٍ عربية ..
    إلا وأجدُ سريرَ طفولتي بانتظاري ..
    لا تنزُفُ مدينةٌ عربية إلا وأنزفُ معها ..
    فهلْ كانتْ مصادفةً أن تموتَ بيروتْ ..
    وتموتُ أمّي في وقتٍ واحدْ ؟


    3

    يعرفونَها في دمشقَ باسم (أمّ المعتزّ).
    وبالرغمِ من أنَّ اسمها غيرُ مذكورٍ في الدليلِ السياحيّ
    فهيَ جزءٌ من الفولكلورِ الشاميّ.
    وأهميّتُها التاريخيّةُ لا تَقِلُّ عن أهميَّةِ (قصرِ العظم)
    و(قبرِ صلاحِ الدين) و(مئذنةِ العروس)
    ومزارِ (محي الدين بن عربي)
    وعندما تصلُ إلى دمشقَ ..
    فلا ضرورةَ أنْ تسألَ شرطيَّ السيرِ عن بيتِها ..
    لأنَّ كُلَّ الياسمينِ الدمشقيِّ يُهَرهِرُ فوقَ شُرفَتِها ،
    وكلُّ الفُلِّ البلديِّ يَتَرَبّى في الدلالِ بينَ يديها ..
    وكلُّ القططِ ذاتِ الأصلِ التركيِّ ..
    تأكلُ .. وتشربُ .. وتدعو ضيوفَها .. وتعقدُ اجتماعاتِها ..
    في بيتِ أمّي ..


    4

    نسيتُ أنْ أقولَ لكمْ ، إنَّ بيتَ أمّي كانَ معقِلاً للحركةِ الوطنيّةِ في الشّامِ عامَ 1935. وفي باحةِ دارِنا الفسيحةِ كانَ يلتقي قادةُ الحركةِ الوطنيّة السورية بالجماهير. ومنها كانت تنطلقُ المسيراتُ والتظاهراتُ ضدَّ الانتدابِ الفرنسي ..

    وبعدَ كلِّ اجتماعٍ شعبي، كانت أمّي تُحصي عددَ ضحاياها من أصُصِ الزّرعِ التي تحطّمتْ.. والشّتولِ النادرةِ التي انقصَفتْ .. وأعوادِ الزنبقِ التي انكسَرَتْ ..

    وعِندما كانت تذهبُ إلى أبي شاكيةً لهُ خسارَتها الفادحة، كان يقولُ لها، رحمهُ الله، وهوَ يبتسمُ:

    (سجّلي أزهاركِ في قائمةِ شهداءِ الوطن... وعوضكِ على الله...)

    وتختجلُ أمّي من سخريّةِ أبي المبطّنة، ولكنها في نفسِ الوقت، تشعرُ بهزّةِ عنفوان، لأنَّ بيتَها صارَ بيتَ الوطنية.. ولأنَّ أزهارَها ماتتْ من أجلِ الحرية...


    5

    أمّي لا تتعاطى العلاقاتِ العامّة، وليسَ لها صورةٌ واحدةٌ في أرشيفِ الصحافة.
    لا تذهبُ إلى الكوكتيلات وهي تلفُّ ابتسامتَها بورقةِ سولوفانْ ..
    لا تقطَعُ كعكَةَ عيدِ ميلادِها تحتَ أضواءِ الكاميراتْ ...
    لا تشتري ملابسَها من لندن وباريس ، وترسلُ تعميماً بذلكَ إلى من يهمّهُ الأمر ...
    لا توزّعُ صورها كطوابعِ البريدِ على محرّراتِ الصفحاتِ الاجتماعية
    ولم يسبقُ لها أن استقبلَتْ مندوبةً أيّ مجلةٍ نسائية، وحدّثتها عن حبّها الأوّل .. وموعدِها الأوّل .. ورجُلِها الأوّل ..
    فأمّي (دّقّـةٌ قديمة) .. ولا تفهمُ كيفَ يكونُ للمرأةِ حبٌّ أوّلٌ .. وثانٍ .. وثالثٌ .. وخامسُ عَشَرْ ..
    أمّي تؤمنُ بربٍ واحدٍ .. وحبيبٍ واحدٍ .. وحبٍ واحدٍ ..


    6

    قهوةُ أمّي مشهورة ..
    فهيَ تطحنُها بمطحنتِها النّحاسيّةِ فنجاناً .. فنجاناً ..
    وتغليها على نارِ الفحمِ .. ونارِ الصبر ...
    وتعطّرُها بحبِّ الهالْ ..
    وترشُّ على وجهِ كلِّ فنجانٍ قطرتينِ من ماءِ الزّهرْ ..
    لذلكَ تتحوّلُ شرفةُ منزلِنا في الصّيف ..
    إلى محطّةٍ تستريحُ فيها العصافيرْ ..
    وتشربُ قهوتَها الصباحية عندنا ..
    قبلَ أن تذهبَ إلى الشّغْل ..


    7
    وزارةُ زراعةٍ كانتْ هذهِ المرأة ..
    ومن كَثرةِ الأزهارِ ، والألوانِ ، والروائحِ التي أحاطت بطفولتي كنتُ أتصوَّرُ أنَّ أمّي .. هي موظّفةٌ في قسمِ العطورِ بالجنّة ..


    8

    بموتِ أمّي ..
    يسقطُ آخرُ قميصِ صوفٍ أغطّي بهِ جسدي
    آخرُ قميصِ حنانْ ..
    آخرُ مظلةِ مَطَرْ ..
    وفي الشّتاءِ القادمْ ..
    ستجدونَني أتجوّلُ في الشوارعِ عارياً ..


    9

    كلُّ النساءِ اللواتي عرفتُهُنّ
    أحبَبْنَني وهُنَّ صاحياتْ ..
    وحدَها أمّي ..
    أحَبَّتْني وهيَ سَكْرى ..
    فالحبُّ الحقيقيُّ هوَ أنْ تَسْكَرْ ..
    ولا تَعرف لماذا تَسكرْ ..


    10

    أمّي متفشّيَةٌ في لُغَتي ..
    كلّما نسيتُ ورقةً من أوراقي في صحنِ الدّارْ ..
    رشَّتها أمّي بالماءِ مع بقيّةِ أحواضِ الزّرعْ ..
    فتحوّلتِ الألِفُ إلى (امرأة) ..
    والباءُ إلى (بنفسجة)
    والدالُ إلى (دالية)
    والراء إلى (رمّانة)
    والسّينُ إلى (سوسنة) أو (سمكة) أو (سُنونوَّة)
    ولهذا يقولونَ عن قصائدي إنها (مكيَّفَةُ الهواءْ)
    ويشترونَها من عندِ بائعِ الأزهارْ ..
    لا مِنَ المكتبة ...


    11

    كُلّما سألوها عن شِعري ، كانتْ تُجيبْ :
    " ملائكةُ الأرضِ والسّماءِ .. ترضى عليه ".
    طبعاً ... أمّي ليستْ ناقدةَ شِعرٍ موضوعيّة .
    ولكنّها عاشقة . ولا موضوعيّةٌ في العشق .
    فيا أمّي . يا حبيبَتي . يا فائزة ..
    قولي للملائكةِ الذينَ كلَّفتِهِمْ بحراسَتي خمسينَ عاماً، أن لا يتركوني ..
    لأنّي أخافُ أن أنامَ وحدي ...

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    المشاركات
    90

    افتراضي


    أحاول منذ الطفولة رسم بلادٍ

    تسمى مجازا بلاد العرب

    تسامحني إن كسرت زجاج القمر...

    وتشكرني إن كتبت قصيدة حبٍ

    وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى

    ككل العصافير فوق الشجر...

    أحاول رسم بلادٍ

    تعلمني أن أكون على مستوى العشق دوما

    فأفرش تحتك ، صيفا ، عباءة حبي

    وأعصر ثوبك عند هطول المطر...

    2

    أحاول رسم بلادٍ...

    لها برلمانٌ من الياسمين.

    وشعبٌ رقيق من الياسمين.

    تنام حمائمها فوق رأسي.

    وتبكي مآذنها في عيوني.

    أحاول رسم بلادٍ تكون صديقة شعري.

    ولا تتدخل بيني وبين ظنوني.

    ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني.

    أحاول رسم بلادٍ...

    تكافئني إن كتبت قصيدة شعرٍ

    وتصفح عني ، إذا فاض نهر جنوني

    3

    أحاول رسم مدينة حبٍ...

    تكون محررةً من جميع العقد...

    فلايذبحون الأنوثة فيها...ولايقمعون الجسد...

    4

    رحلت جنوبا...رحلت شمالا...

    ولافائده...

    فقهوة كل المقاهي ، لها نكهةٌ واحده...

    وكل النساء لهن إذا ما تعرين

    رائحةٌ واحده...

    وكل رجال القبيلة لايمضغون الطعام

    ويلتهمون النساء بثانيةٍ واحده.

    5

    أحاول منذ البدايات...

    أن لاأكون شبيها بأي أحد...

    رفضت الكلام المعلب دوما.

    رفضت عبادة أي وثن...
    /////

المواضيع المتشابهه

  1. " أطفال الحجارة " قصيدة لنزار قباني
    بواسطة صفاء عطاالله في المنتدى القصة والشعر
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-17-2012, 07:11 PM
  2. " متى يعلنون وفاة العرب ؟ " قصيدة لنزار قباني
    بواسطة صفاء عطاالله في المنتدى القصة والشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-10-2010, 10:37 PM
  3. " قصيدة اعتذار لأبي تمام " لنزار قباني
    بواسطة صفاء عطاالله في المنتدى القصة والشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-08-2010, 02:09 PM
  4. " كل عام وأنت حبيبتي " قصيدة لنزار قباني
    بواسطة صفاء عطاالله في المنتدى القصة والشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-06-2010, 11:39 PM
  5. " مهما تعددت النساء ، حبيبتي" قصيدة لنزار قباني
    بواسطة صفاء عطاالله في المنتدى القصة والشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-24-2010, 10:44 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •