هَذَا الْوَلَدُ الأَسْمَرُ وَحِصَانُهُ الأَبْيَضُ


هَدَأَتْ طَلَقَاتُ الْمَدَافِعِ الثَّقِيلَةِ ، وَتَوَقَّفَ أَزِيزُ الطَّائِرَاتِ الْمُحَلِّقَةِ ، وَلَمْ تَعُدْ تُطْلَقُتِلْكَ الصَّوَارِيخُ الْمُرَوِّعَةُ ، وَتَرَاجَعَتْ لِلْوَرَاءِ دَبَّابَاتُ الْعَدُوِّ الْمُزَمْجِرَةُ ، وَتَتَابَعَتْ جَثَامِينُ الشُّهَدَاءِ فِي الْعَرَبَاتِ الْمُدَرَّعَةِ الْكَبِيرَةِ مُفَتَّحَةً أَمَامَهَا أَبْوَابُ الْمَقَابِرِ الْحَزِينَةِ ، وَعَادَ الْجُنُودُ بَعْدَ مَعْرَكَةِ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى أَحْضَانِ أُمَّهَاتِهِمْ يُخْفُونَ ذُعْرَهُمْ بَيْنَ صُدُورِهِنَّ الْحَانِيَةِ فِي بُكَاءٍ لا يَنْقَطِعُ 000
خَرَجَتِ الصَّبَايَا مُمْتَلِئَاتٍ بِالأَشْوَاقِ الْمُلْتَهِبَةِ ، يَنْتَظِرْنَ الْعَائِدِينَ فِي جِرَاحِهِمْ مِنْ أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ ، مُتَأَهِّبَاتٍ لِلَحْظَةِ الْعِنَاقِ الَّتِي لَنْ تَنْتَهِيَ 000
شَاحِبَةَ الْعَيْنَيْنِ ، تَجُرُّ أَحْزَانَهَا زَيْنَبُ ، بَاحِثَةً عَنْ رَأْسِهَا تَحْتَ رِجْلَيْهَا الْمُتْعَبَتَيْنِ ، تَدْفَعُ الْخُطَى مُتَثَاقِلَةً فَوْقَ الرَّصِيفِ الذَّابِلِ كَفَرْعِ بُرْتُقَالٍ فِي مَوْسِمِ الْخَرِيفِ ، مُسْتَسْلِمَةً لِذِكْرَيَاتِ فَارِسِهَا الأَسْمَرِ الَّذِي أَبَى إِلا أَنْ يَتَقَدَّمَ الصُّفُوفَ حَامِلاً وَجْهَهُ الْمَلائِكِيَّ الْبَرِيءَ ، مُقْسِمًا أَلا يَعُودَ حَتَّى يُحَرِّرَ تُرَابَ الْوَطَنِ الْمَسْلُوبِ ، فَيَعِيشَ عَزِيزًا فَوْقَهُ أَوْ يَمُوتَ وَهُوَ كَرِيمٌ يُدَافِعُ فِي عِزَّةٍ عَنْ أَوْطَانِهِ الْجَرِيحَةِ 000
000000
000000
000000
دَخَلَ اللَّيْلُ بُيُوتَ الْمَدِينَةِ السَّاكِنَةِ مُتَسَلِّلاً يُخْفِي أَوْجَاعَهَا ، جَاثِمًا فَوْقَ قُلُوبِ سَاكِنِيهَا حَتَّى الصَّبَاحِ الَّذِي لا يَجِيءُ 000
ـ يَا ابْنَتِي ، لا تَعْتَرِضِي عَلَى قَضَاءِ اللهِ !!
ـ سَوْفَ يَعُودُ يَا أُمِّي 000
ـ مَضَى يَا ابْنَتِي عَامَانِ وَلَمْ يَعُدْ 0
ـ ثِقَتِي فِي اللهِ كَبِيرَةٌ يَا أُمِّي 0
ـ لَكِنَّكِ مَا زِلْتِ صَغِيرَةً يَا ابْنَتِي 000
ـ عُمْرِي كُلُّهُ مِلْكٌ لَهُ هُوَ 000 هُوَ يَا أُمِّي 00
ـ أَنْتِ لَمْ تَأْكُلِي شَيْئًا مُنْذُ الصَّبَاحِ يَا ابْنَتِي 0
ـ بَعْدَ قَلِيلٍ يَا أُمِّي 000 بَعْدَ قَلِيلٍ 000
ـ بِاللهِ عَلَيْكِ ، كَفْكِفِي دُمُوعَكِ مِنْ أَجْلِ أُمِّكِ يَا ابْنَتِي 000
ـ حَاضِرٌ يَا أُمِّي 000 سَأَكْتُمُ آَلامِي فِي صَدْرِي إِلَى أَنْ يَجِيءَ قَرِيبًا 000
000000
000000
000000
كَوَرْدَةٍ فِي مَوْسِمِ الْخَرِيفِ ذَبُلَتْ فَوْقَ فَرْعِهَا ، تَجِفُّ زَيْنَبُ أَمَامَ دَهْشَةِ أَهْلِ الْحَارَةِ الطَّيِّبِينَ ، يَحْمِلُونَ كُلَّ صَبَاحٍ مَا يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ ، مُتَوَدِّدِينَ إِلَى زَيْنَبَ 000
يُظْهِرُونَ عَطْفَهُمْ وَأَشْوَاقَهَمُ الْمَكْتُومَةَ نَحْوَهَا فِي حَيَاءٍ ، طَامِعِينَ أَنْ تَنْظُرَ الأَرْمَلَةُ الْحَسْنَاءُ إِلَى أَحَدِهِمْ ، خَارِجَةً مِنْ أَحْزَانِهَا الَّتِي طَالَتْ لَتَبْدَأَ حَيَاةً جَدِيدَةً 000
ـ الآَنَ يَا ابْنَتِي يُمْكِنُكِ أَنْ تَخْتَارِي أَحَدَهُمْ ، وَكُلُّهُمْ يَرْغَبُونَ مُخْلِصِينَ ، يَنْتَظِرُونَ قَرَارَكِ الأَخِيرَ 000
ـ يَا أُمِّي ، أَلَنْ يَنْتَهِيَ هَذَا الْحَدِيثُ ؟ قُلْتُ لَكِ أَلْفَ مَرَّةٍ سَوْفَ يَجِيءُ ، هُوَ لَمْ يَمُتْ ، سَيَعُودُ حَتْمًا يَا أُمِّي 000
ـ يَا ابْنَتِي ، شَبَابُكِ لَنْ يَدُومَ 000 اسْمَعِي كَلامِي 000 بَعْدَ غَدٍ لَنْ يَأْتِيَ الْخَاطِبُونَ 000 ابْدَئِي ثَانِيَةً مِنْ أَجْلِ أُمِّكِ يَا ابْنَتِي !!
ـ مُسْتَحِيلٌ أَنْ أَغْدُرَ بِهِ 000 مُسْتَحِيلٌ أَنْ أَخُونَهُ 000 الْمَوْتُ أَهْوَنُ يَا أُمِّي 000
أَنَسِيتِ كَلامَهُ وَمَا قَدَّمَ لَنَا ؟ أَنَسِيتِ لِمَاذَا لَمْ يَعُدْ حَتَّى الْيَوْمِ ؟ كَلا ، وَأَلْفُ كَلا يَا أُمِّي 000
ـ لَكِنْ يَا ابْنَتِي مِنْ حَقِّكِ الزَّوَاجُ ، وَلَنْ تَسْتَطِيعِي الْبَقَاءَ وَحْدَكِ لِلأَبَدِ 000
ـ يَا أُمِّي أُفَضِّلُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ فِي يَوْمٍ وَيَرَانِي عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ 000 هَلْ هَذَا جَزَاؤُهُ يَا أُمِّي ؟
سَيَظَلُّ مُحَلِّقًا فَوْقَ جَسَدِي ، مُدَاعِبًا رُوحِي ، آَخِذًا قَلْبِي إِلَى حَيْثُ يَكُونُ 000 وسَوْفَ يَأْتِي يَا أُمِّي 000 إِنِّي وَاثِقَةٌ مِنْ مَجِيئِهِ 000
ـ كَمَا تَشَائِينَ يَا ابْنَتِي 0
000000
000000
000000
بَعْدَ كُلِّ فَجْرٍ ، تَفْتَحُ النَّافِذَةَ ، مُطِلَّةً بِرَأْسِهَا فِي شَغَفٍ ، تَتَطَلَّعُ إِلَى أَوَّلِ الطَّرِيقِ ، تَرْقُبُ ـ فِي اشْتِيَاقٍ ـ لَحْظَةَ أَنْ تَطَأَ الرَّصِيفَ قَدَمَاهُ ، لِتَقْفِزَ سَلالِمَ الْبَيْتِ قَفْزَةً وَاحِدَةً ، مُرْتَمِيَةً فَوْقَ صَدْرِهِ ، فَاتِحَةً ذِرَاعَيْهَا لِحُضْنِهِ الدَّافِئِ فِي حَرَارَةٍ لا تَنْطَفِئُ 000
الذِّكْرَيَاتُ تَتَدَاعَى فِي فَرَحٍ ، الذِّكْرَى تَدْفَعُ بِالذِّكْرَى عَلَى قَلْبِهَا الْمُرْتَعِشِ 000
تَمُدُّ ذِرَاعَيْهَا فِي اسْتِرْخَاءٍ ، مُبْتَسِمَةً كَشَجَرَةِ نَبْقٍ طَالِعَةٍ بَيْنَ حُقُولِ الْقَمْحِ 000
عَلَى ظَهْرِهَا تَتَّكِئُ أَعْضَاؤُهَا ، نَابِضَةً تُلامِسُ شَفَتَيْهِ السَّاخِنَتَيْنِ 000
تَثْنِي سَاقَيْهَا فِي شَوْقٍ كَجَدْوَلٍ يَشُقُّ طَرِيقَهُ بَيْنَ أَشْجَارِ الرُّمَّانِ ، يَمُرُّ مُنْسَابًا ، يَرْوِي ظَمَأَ حُقُولِ الْوَرْدِ 000
يُدَاعِبُهَا فِي انْتِشَاءٍ 000
يَصْعَدَانِ شَجَرَةَ تُوتٍ وَارِفَةً 000
ـ هِيهِ يَا ابْنَتِي ! أَيْنَ أَنْتِ ؟
عَشْرُ سَنَوَاتٍ مَرَّتْ وَلَمْ يَعُدْ ، وَمَا زِلْتِ فِي عِنَادِكِ ، تَصُدِّينَ الْقَادِمِينَ 000 ألَمْ تَمَلِّي يَا ابْنَتِي مِنْ وَحْدَتِكِ الْبَائِسَةِ ؟ صَدِّقِينِي يَا ابْنَتِي لَنْ يَعُودَ 000
ـ لَمْ يُفَارِقْنِي لَحْظَةً وَاحِدَةً يَا أُمِّي 000 أَشْعُرُ بِهِ وَحْدَهُ يَأْخُذُنِي كُلَّ مَسَاءٍ إِلَيْهِ 000 يَضُمُّنِي فِي عَطْفِهِ ، ذَائِبَةً بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ فِي حُنُوٍّ ، مُشْتَاقَةً فِي رِقَّةٍ بَالِغَةٍ 000
ـ أَفِيقِي يَا ابْنَتِي قَبْلَ أَنْ يَمُرَّ الْقِطَارُ 000
ـ مَعَهُ وَحْدَهُ مَا زِلْتُ قَادِرَةً أَنْ أَكُونَ نَفْسِي مِنْ غَيْرِ مَسَاحِيقَ يَا أُمِّي ، وَأَقْنِعَةٍ زَائِفَةٍ 000
ـ الأَمْرُ ِللهِ يَا ابْنَتِي ، الأَمْرُ ِلله 000
000000
000000
000000
تَفْتَحُ نَافِذَةَ الْحُجْرَةِ فِي لَهَفٍ 000
تَطُلُّ بِوَجْهِهَا الْجَمِيلِ فَاتِنَةً 000
تَتَسَمَّعُ صَهِيلَ الْفَرَسِ الأَبْيَضِ يَأْتِي مِنْ وَرَاءِ الْحُقُولِ الْبَعِيدَةِ 000
تُهَرْوِلُ حَافِيَةً فَوْقَ الرَّصِيفِ فِي غَيْرِ تَوَقُّفٍ 0
ـ انْتَظِرِي يَا ابْنَتِي !
ـ أَسْمَعُهُ يَا أُمِّي قَادِمًا كَالرِّيحِ عَلَى شَاطِئِ التُّرْعَةِ 000 يَتَجَاوَزُ الأَرْصِفَةَ الْبَارِدَةَ 000
ـ الْمَطَرُ ثَقِيلٌ هَذَا الصَّبَاحَ يَا ابْنَتِي ، وَأُمُّكِ مُتْعَبَةٌ لا تَسْتَطِيعُ اللِّحَاقَ بِكِ 000
ـ ارْجِعِي إِلَى الْبَيْتِ يَا أُمِّي 000 جَهِّزِي غَدَاءَنَا 000 إِنَّهُ قَادِمٌ بَعْدَ قَلِيلٍ 000أُقْسِمُ سَوْفَ يَعُودُ يَا أُمِّي 000
ـ عَلَى مَهْلِكِ يَا ابْنَتِي ، فَلَيْسَ سِوَى الأَمْطَارِ الْغَزِيرَةِ وَحْدَهَا وَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ 000
تَوَقَّفِي يَا ابْنَتِي 000

000000
يَعْلُو الصَّهِيلُ مِنْ بَعِيدٍ 000
تَتَقَارَبُ الْخُطَى حَثِيثَةً فِي اشْتِهَاءٍ 000
ـ عُودِي إِلَى الْبَيْتِ يَا أُمِّي 000 كُونِي فِي انْتِظَارِنَا 000 سَنَعُودُ حَتْمًا يَا أُمِّي 000
000000
000000
000000
حَامِلَةً جَسَدَهَا الْمُرْهَقَ ، تُحَاوِلُ أَنْ تَسْبِقَ ظِلَّهَا الْمَكْسُورَ فَوْقَ الرَّصِيفِ 000
تَتَجَاوَزُ أَوْجَاعَ الرُّوحِ ، مُحَلِّقَةً بَيْنَ أَشْجَارِ الرُّمَّانِ كَنَوْرَسٍ جَرِيحٍ ، ضَلَّ الطَّرِيقَ إِلَى سِرْبِهِ ، نَازِفًا فَوْقَ الْمُحِيطِ ، سَاحِبًا جَنَاحَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الشَّاطِئِ فِي سَلامٍ 000
تَرْتَجِفُ كَعُصْفُورَةٍ تَحْتَ الأَمْطَارِ 000
تُسْرِعُ نَحْوَ الصَّهِيلِ 000
ـ عُودِي يَا ابْنَتِي !!
000000
000000
يَبْتَسِمُ الْفَارِسُ النَّبِيلُ كَالْقَمَرِ بَازِغًا بَيْنَ أَعْوَادِ الْقُطْنِ 000
فِي سُرُورٍ تَرْتَمِي بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ الْمَفْتُولَيْنِ كَشَمْعَةٍ تَذُوبُ رَاغِبَةً فِي فَانُوسِ طِفْلٍ يَجْرِي خَلْفَهُ الصِّغَارُ فَوْقَ الرَّصِيفِ 000
ـ عُودِي يَا ابْنَتِي !!
0000000
0000000
تَنْعَسُ آَمِنَةً هَادِئَةً 000
تَحْتَضِنُ فَارِسَهَا الأَسْمَرَ 000
يَخْتَفِيَانِ بَيْنَ أَعْوَادِ الذُّرَةِ 000
يَصْهِلُ الْفَرَسُ الأَبْيَضُ صَائِلاً مِنْ وَرَاءِ الْحُقُولِ 0