عَادَ إِلَيْهَا عَقْلُهَا وَفَرَّتِ الْعَصَافِيرُ هَارِبَةً



وَقَفَتْ مَشْدُوهَةً تَمُدُّ يَدَيْهَا مِنَ النَّافِذَةِ الْمُثَبَّتَةِ دَاخِلَ جُدْرَانِ حُجْرَةِ نَوْمِهَا 000

تُحَاوِلُ ـ فِي اسْتِمَاتَةٍ ـ أَنْ يَطُلَّ رَأْسُهَا
مِنْ فُتْحَةٍ ضَيِّقَةٍ فِي وَسَطِهَا ، مُتَشَبِّثَةً
بِالْقُضْبَانِ الْحَدِيدِيَّةِ الْمُوَزَّعَةِ بِإِحْكَامٍ عَلَى
شُبَّاكِهَا ، كَعُصْفُورٍ ـ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ آخِرَ
أَنْفَاسِهِ ـ أَرَادَ ـ غَيْرَ مُسْتِسْلِمٍ ـ أَنْ يُحَلِّقَ ،
مُلامِسًا نَسَمَاتِ السَّحَرِ النَّدِيَّةَ بِجَنَاحَيْهِ
الرَّقِيقَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَصْطَدِمُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ
بِقُضْبَانِ قَفَصِهِ الذَّهَبِيِّ 0


كَأَنَّهَا تَرَى شَجَرَةَ التُّوتِ الْوَارِفَةَ خَلْفَ الْمَنْزِلِ
لِلْمَرَّةِ الأُولَى ، بِأَوْرَاقِهَا الْخَضْرَاءِ الدَّاكِنَةِ ،
وَثِمَارِهَا الْمُوَزَّعَةِ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ الأَسْوَدِ
وَالأَحْمَرِ فِي تَنَاغُمٍ مُسْتَحِيلٍ ، وَفُرُوعِهَا
الْمُتَشَابِكَةِ كَأُمٍّ تَحْتَضِنُ صِغَارَهَا عِنْدَ
عَوْدَتِهِمْ لِلْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنْ دُخُولِهِمُ الْمَدْرَسَةَ ،
مُتَأَمِّلَةً طُفُولَتَهُمْ وَهُمْ يُسْرِعُونَ بِحَقَائِبِهِمُ
الْجَدِيدَةِ 0


تُنْصِتُ فِي دَهْشَةٍ لِزَقْزَقَةِ الْعَصَافِيرِ ، وَهِيَ تَتَنَقَّلُ فِي تِلْقَائِيَّةٍ مِنْ غُصْنٍ إِلَى غُصْنٍ 000
يُدَاعِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا 000


تَنْقُرُ ـ فِي بَرَاءَةٍ ـ حَبَّةَ تُوتٍ نَاضِجَةً 0

000000

000000

000000


تَسْتَسْلِمُ لِدَغْدَغَاتِ النَّسَائِمِ الْمُدَاعِبَةِ لِخُصَلِ شَعْرِهَا الْبُنِّيِّ الْكَثِيفِ ، مُتَأَمِّلَةً قُرْصَ الشَّمْسِ ،
وَهُوَ يَتَّضِحُ فِي لُطْفٍ شَيْئًا فَشَيْئًا بَيْنَ الْغُيُومِ ،
مُطِلاً بِدِفْئِهِ نَاشِرًا حَرَارَتَهُ ، وَأَشِعَّتَهُ الذَّهَبِيَّةَ فَوْقَ سَنَابِلِ الْقَمْحِ 0


فِي لَحْظَةِ إِفْضَاءٍ كَامِلَةٍ تَفْتَحُ صَدْرَهَا لِعُصْفُورٍ يُغَرِّدُ فَوْقَ شَجَرَةِ التُّوتِ فِي نَقَاءِ الْمَلائِكَةِ 0

تَتَحَسَّسُ مَشَاعِرَهَا الْمُتَوَهِّجَةَ بَيْنَ جَنْبَيْهَا ، سَارِيَةً إِلَى أَعْضَائِهَا الْمُشْتَعِلَةِ كَوَقْعِ الْقُبْلَةِ الأُولَى 0

تَحْتَضِنُ ـ فِي رِفْقٍ ـ بِنْتًا فِي السَّادِسَةَ عَشْرَةَ
تَسْكُنُ رُوحَهَا عِنْدَمَا كَانَتْ تَسْتَيْقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ
مُهَرْوِلَةً إِلَى شَجَرَةِ التُّوتِ لِتَصْعَدَ فِي خِفَّةٍ إِلَى أَعْلَى فُرُوعِهَا ، مُتَنَاوِلَةً حَبَّاتِهَا الشَّهِيَّةَ 0


بَعْدَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً يَلْتَقِيَانِ تَحْتَ ظِلالِهَا
الْمَدِيدَةِ 000


قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كَابْتِسَامَتِهَا الْمُنَوِّرَةِ فَوْقَ وَجْهِهَا
النَّقِيِّ 000


تَفُكُّ ضَفَائِرَهَا الْمَجْدُولَةَ عَابِثَةً بِشَعْرِهَا الْحَرِيرِيِّ النَّاعِمِ فِي مُحَاوَلَةٍ لاسْتِعَادَةِ الْمَشْهَدِ الأَخِيرِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِكَ الْقِزْمُ أَصَابِعَهَا ، بَعْدَ
وَدَاعِهَا لِلْبِنْتِ الَّتِي تَسْكُنُهَا ، مُغَادِرَةً إِلَى أَحْضَانِهِ الْبَارِدَةِ 0


ـ الْعَقْلُ يَا رَضْوَى 000الْعَقْلُ يَا حَبِيبَتِي !

ـ مَاذَا تُرِيدِينَ يَا أُمِّي ؟

ـ هُوَ رَجُلٌ طَيِّبٌ يَا ابْنَتِي

ـ طَيِّبٌ يَا أُمِّي

ـ وَعَاقِلٌ يَا ابْنَتِي

ـ وَعَاقِلٌ يَا أُمِّي

ـ وَثَرِيٌّ يَا ابْنَتِي

ـ وَثَرِيٌّ يَا أُمِّي

000000

000000

000000

لا تُرِيدُ أَنْ تَتَذَكَّرَ الآنَ لَيْلَةَ الزِّفَافِ ،
وَهَذِهِ السَّنَوَاتِ الْعِشْرِينَ الضَّائِعَةَ مِنْ
شَبَابِهَا سُدَىً ، عِنْدَمَا أَفْسَدَ عَقْلُهُ الْحَكِيمُ كُلَّ
مَشَاعِرِهَا الْبَرِيئَةِ ، فَلَمْ يَعُدْ يَرَاهَا إِلا كُلَّ
لَيْلَةٍ حِينَ يَغُطُّ فِي نَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ تُحْضِرَ لَهُ طَعَامَ الْعَشَاءِ 000


000000

000000

000000

لَمْ تَدْخُلِ الشَّمْسُ حُجْرَةَ نَوْمِهَا ، وَلَمْ يَعْرِفْ
فِرَاشُهَا الدِّفْءَ قَبْلَ الآنَ عِنْدَمَا فَتَحَتْ نَافِذَتَهَا لِلْهَوَاءِ الْمُنْعِشِ مِنْ جَدِيدٍ ، وَتَنَفَّسَتْ رَائِحَةَ التُّوتِ عَلَى صَدْرِهَا ، فَانْتَشَتْ عَصَافِيرُ الْحَدِيقَةِ بَائِحَةً بِأَسْرَارِهَا 0


يُمْكِنُهَا ـ الآنَ ، وَقَبْلَ أَنْ يَعُودَ قِزْمُهَا الْجَمِيلُ بَعْدَ أُسْبُوعَيْنِ ـ أَنْ تَقِفَ مُعَرَّاةً أَمَامَ الْمِرْآةِ مُتَحَسِّسَةً مَلامِحَ أَوْجَاعِهَا فِي هُدُوءٍ 0

كَأَنَّ لِلرُّوحِ عَوْدَةً ، تَدُبُّ الْحَيَاةُ فِي عُرُوقِهَا ، كَوَاحَةٍ فِي لَيْلَةِ صَيْفٍ تَحِنُّ لأَمْطَارِ الشِّتَاءِ000

000000

000000

000000

لِلنِّيلِ أَنْ يَمُرَّ الآنَ ـ إِنْ أَرَادَ ـ بِسَيْلِهِ الدَّافِقِ ، وَطَمْيِهِ السَّاخِنِ بَيْنَ رِجْلَيْهَا فِي ارْتِيَاحٍ 000

لِلْعَصَافِيرِ الشَّقِيَّةِ أَنْ تَنْقُرَ سُبَاطَةَ الْبَلَحِ ، وَتَسْتَعِيدَ طَزَاجَتَهَا فِي جُنُونٍ 000

لِشَجَرِ الْمَنْجُو أَنْ يَبْدَأَ حَفْلَتَهُ مُسْتَعِدًّا لِعَصِيرِ ثِمَارِهِ اللَّيِّنَةِ فِي اشْتِيَاقٍ 000

لِلْمَاءِ أَنْ يُغَادِرَ الْجَدَاوِلَ فِي ابْتِهَاجٍ 000
لِلْمَرَاكِبِ أَنْ تَتْرُكَ الشُّطُوطَ فِي انْتِشَاءٍ 000
دُقَّ الْبَابُ 0


دَخَلَ الرَّجُلُ الْقِزْمُ 0

صَمَتَ الْهَاتِفُ 0

أَغْلَقَتْ نَافِذَةَ حُجْرَتِهَا 0

هَيَّأَتْ نَفْسَهَا لِلنُّعَاسِ 0

تَعَرَّى مُقْتَحِمًا أَشْجَارَ التُّوتِ 0

طَلَّتْ صُورَةُ عَقْلٍ مَرْسُومٍ فَوْقَ الْجُدْرَانِ ،
وَفَرَّتِ الْعَصَافِيرُ هَارِبَةً 0