مجلة المحاماة - العدد الأول
السنة الحادية والثلاثون

الغنائم البحرية
بحث لحضرة صاحب السعادة الأستاذ أحمد صفوت باشا المحامي
(1)

لم تعرف الغنائم البحرية في الشرق الأوسط ولا في التاريخ الإسلامي لأن فتوحات بلاد الإسلام كانت كلها برية حتى استتبت الدولة العثمانية في قارة أوروبا وصار لها أسطول بحري.
ولم تعرف في مصر إلا في عهد محمد علي فقد جاء ذكرها في كتاب صفحة من تاريخ مصر في عهد محمد علي (الجيش المصري البري والبحري) للأمير عمر طوسون في صفحة 132 في الكلام على السفن والتجارة ما يأتي:
(فانتظمت طوائف السفائن وصارت نظاماتها تحاكي النظامات البحرية بالأساطيل الأوروبية ونقل ما كان بتلك السفن من الملاحين الغير النظاميين إلى سفنه المسماة بميزة قرصان التي حصل لها إدارة خاصة).
وكان بين إنجلترا والممالك الشمالية بأوروبا وأمريكا أيضًا وبين أمير الجزائر (المسلم) معاهدة حتى آخر القرن الثامن عشر على أن يحمي أمير الجزائر مراكبها في البحر الأبيض المتوسط من القرصان مقابل جزية سنوية تدفعها إليه بريطانيا.
لكن يظهر أن الغنائم البحرية وقتئذٍ كانت تؤخذ أسلابًا فلم تكن لها صفة الغنائم البحرية في المعنى الحديث التي يجب أن يحكم بصحتها.
ماهية الغنائم البحرية:
تقضي قواعد الحرب الحديثة باحترام الملكية الفردية في الحرب البرية دون البحرية.
ففي الحروب البحرية يجوز ضبط أموال أفراد الأعداء في البحار وأيضًا أموال المحايدين الموجهة إلى بلاد العدو.
أما في الحرب البرية فيجب عدم الاعتداء على أملاك جميع الأفراد في البلاد المحتلة سواء كانوا من الأعداء أم من المحايدين وعدم الاستيلاء عليها إلا مقابل دفع تعويض عنها.
وتتميز الغنائم عن الأسلاب بأن الأسلاب Butin هي ما يؤخذ من أموال العدو في المواقع الحربية بحرية كانت أو برية وهذه تنتقل فيها الملكية بالاستيلاء عليها.
أما الغنائم البحرية فهي حالة ضبط أموال أفراد العدو (لا الدولة المحاربة)، وأيضًا أموال المحايدين الموجهة إلى بلاد العدو.
وضبط أموال أفراد العدو وأموال المحايدين في البحار مقيد الآن بقيود كثيرة تحدد الأحوال التي يجوز فيها هذا الضبط والأحوال التي لا يجوز فيها، ولذلك أصبح واجبًا على من يضبط غنيمة أن يعرض أمرها على محكمة الغنائم في الدولة التابع هو لها لتحكم بصحة الضبط والاغتنام أو بعدم صحته فإذا حكم بصحة الضبط والاغتنام أصبحت الغنيمة الآن ملكًا للدولة - وكانت قديمًا تصبح ملكًا للفرد الذي ضبطها.
والحكم صحة الضبط والاغتنام ينقل ملكيتها إلى الغانم وينزعها من ملك صاحبها الأصلي، فيعتبر الحكم سندًا منشئًا لملكيتها للغانم ضد صاحبها وضد الكافة تحترمه محاكم سائر الدول وبدون صدور حكم بذلك من محكمة غنائم تبقى ملكيتها لصاحبها الأصلي.
وإذا حكم بعدم صحة الضبط يفرج عن الغنيمة وتسلم لصاحبها الأصلي.
وأصبح ذلك قاعدة مقررة في الغنائم فيقال (لا غنيمة إلا بحكم) فيجب الحكم بها:
أولاً: ليثبت الغانم سندًا لملكيته بالحكم حتى يمكنه التصرف في الغنيمة بالبيع للغير.
ثانيًا: ليطمئن ذوي الحقوق على الغنيمة بالمحاكم على أن حقوقهم لا تغتصب بل تؤخذ طبقًا لقواعد مقررة.
ثالثًا: رعاية لحسن العلاقات بين الدول فلا تتعدى دولة على حقوق رعايا غيرها في غير الأحوال التي يجيزها القانون الدولي.
رابعًا: وثمت سبب رابع كان له الأهمية العظمى في نشوء هذه القاعدة وهو أن أمراء البحار كان له عشرها فلكي يتحصلوا على هذا العشر يجب أن يحكم بصحة الغنيمة في مواجهتهم بأنهم ضبطوها ويحكم لهم بالقدر المقررة من ثمنها الذي يستحقونه.
وقد نشأت هذه القاعدة بالعادة تدريجيًا من زمن قديم في أوائل العصور الوسطى منذ القرن الثاني عشر أو قبل ذلك.
وأساسها أن البحار لم تكن تخضع إلى سلطة تحفظ الأمن فيها بين السفن وكانت التجارة البحرية محاطة بمخاطر جسيمة من جراء لصوص البحار في السلم ومن جراء مراكب العدو في الحرب.
وكان من عادة الملوك والأمراء إذا كان لهم حق قبل الغير لم يصلوا إليه بالطرق السلمية أن يبيحوا أموال أعدائهم لرعاياهم وأن يفوضوهم بالانتقام للملك ولأنفسهم من العدو باستباحة أمواله فيكون الأفراد من بينهم جماعة يجهزون سفنًا ويخرجون في البحر للتعرض لتجارة العدو وأمواله.
وكان هذا التفويض يصدر من الأمير في حالة الحرب أمرًا عامًا لجميع رعاياه، وفي أحوال السلم يصدر إلى جماعة من رعاياه مقيدًا لمدة من الزمن محددة للحصول من أموال العدو على قدر معين يفي بالضرر الذي أوجب الأخذ بالثأر، فلم يكن الغرض منه الاعتداء ابتداءً على أموال العدو بل الاستيلاء عليها تعويضًا لضرر سبق أن حصل من قبل هذا العدو من الأمير نفسه أو من قبل رعاياه ولم يعدل فيه من قبل الأمير العدو أو من قبل محاكمة ولم يعوض الضرر الذي نتج عنه.
وكان الأمر في حالة الحرب يسمى (نفيرًا) lettres de marques والتفويض في حالة السلم يسمى (ثأرًا) lettres de represailles.
ولم يكن ذلك من أول الأمر قاصرًا على البحار بل يشمل في الحالتين أموال العدو في البر والبحر.

التعدي
النفير في حالة الحرب

إذا قامت حرب نفر أهل كل إمارة إليها فيجهز أفراد منهم على حسابهم حملة بحرية على أموال العدو يأسرونها وعلى تجارة المحايدين معه يمنعونها وكان هؤلاء يسمون Corsaires ومنها جاء لفظ القرصان إلا أنهم يتميزون عن لصوص البحار Pirates بأنهم:
1 - يحملون أمرًا من أميرهم، واللصوص لا يحملون أمرًا.
2 - أنهم لا ينفرون إلا في حالة حرب، ولصوص البحر يقطعونه في السلم والحرب معًا.
3 - أنهم يتبعون التعليمات والقواعد الرعية في هذا الشأن فلا يتعرضون إلا لأموال العدو ولتجارة المحايدين غير الجائزة مع العدو، في حين أن اللصوص يتعرضون لأموال جميع التجار ولا يتبعون قانونًا.
4 - عليهم أن يقدموا مغانمهم إلي ديوان البحرية، أما اللصوص فيمتلكون ما يسرقونه.
لكن هؤلاء القرصان ما كانوا ينفرون إلى الحرب بدافع الوطنية بل بدافع المصلحة الشخصية في الغنائم، ولذلك انحط كثيرون منهم في أعمالهم إلى درجة اللصوص فارتكبوا مآثم كثيرة روعت بعضها كثيرًا من الممالك.
وكان القائمون بتجهيز المراكب لهذا الغرض أحيانًا يحلفون البحارة قبل استخدامهم إيمانًا مغلظة أن لا يشهدوا على مآثمهم ولا يفشوا أسرارهم وكان من أحطها أن يتفاهم هؤلاء القرصان مع مركب من أعدائهم فيأسرونها برضائها حتى إذا حكم لهم باغتناها اقتسموها مع بحارتها.
ولم يكونوا مسؤولين عن أعمالهم إلا إذا انحطوا إلى درجة اللصوصية وثبت ذلك عليهم فيعاقبون عقاب اللصوص بالشنق.
وكان يترتب على سوء تصرفاتهم أن يطالب الذين نهبت أموالهم بحقهم لدى الدولة التي يتبعها هؤلاء القرصان، ونشأت عن ذلك مشاكل بين دول ذلك العصر.
ولذلك بدأت حركة مقاومتهم في جميع الدول فسنت قوانين تمنع رعايا دولة من خدمة دولة أجنبية في القرصنة وتمنع إصدار النفير إلى أجانب بغير رضاء دولتهم.
ثم فرض على القرصان الحصول على إذن من ديوان البحرية حتى يتأكد الديوان من كفاية التجهيزات البحرية وتقديم ضمانة شخصية من شخص معتمد يكفل التعويضات والغرامات التي قد يحكم بها على هؤلاء بما لا يزيد عن 1500 جنيهًا، كما فرض على القادة ثم على جميع البحارة أن يقسموا يمينًا باحترام القوانين والقواعد المرعية.
وما زالت القيود تفرض وتزاد حتى شملت أيضًا:
1 - تحريم الاتفاق مع أصحاب الغنيمة على مفاداة مجلس الغنائم.
2 - تحريم إغراق الغنيمة في البحر إلا في أحوال خاصة.
3 - وجوب استحضار شهود الغنيمة من أصحابها.
4 - وجوب استحضار جميع أوراق السفينة المغتنمة.
5 - إحضار اثنين أو ثلاثة من كبار رجال السفينة أسرى.
وكان يجوز للقرصان قبول الفدية عن الغنيمة ونظرًا لاحتمال التلاعب في ذلك منع قبول الفدية في سنة 1780 في فرنسا.
أما استحضار الأسرى فكان الغرض منه الحصول على فدية لفك أسرهم.
أما استحضار شهود الغنيمة وأوراق المركب فكان القصد منه حماية حق أمير البحار في نصيبه في الغنيمة.
ثم كان على القرصان أن يرسوا بالغنيمة في البناء التي خرجوا منها وجهزوا فيها، وسبب ذلك أنه كان لأمير البحر نصيب في الغنيمة وكان في فرنسا وفي إنجلترا عدة أمراء بحار كل في إحدى الموانئ الكبرى، فلكيلا يغمط حق أحدهم نص على إحضار غنائم كل تجهيرة في الميناء التي جهزت فيها.
وكانت الغنائم تحفظ في المراكب حتى تباع إلا ما يخشى عليه من البقاء فيها فهذا يودع لدى شخص معتمد أو يخزن في مخزن ذي ثلاث مفاتيح - مفتاح يبقى مع أمير البحر ومفتاح مع القرصان وآخر مع أصحاب الغنيمة أو نائب الملك.
ثم كان عليهم أن يقدموا تقريرًا مكتوبًا بإحصاء الغنائم وبيان ظروف ضبطها ويقوم موظفو أمير البحر باستجواب القباطنة ثم الضباط ثم البحارة ومن يكون معهم من شهود الغنيمة أو من الأسرى ثم تترجم الأوراق المضبوطة على كل سفينة ثم يرسل هذا التحقيق إلى مجلس الغنائم.
وهذه الأحكام لم تنشأ كلها إلا تدريجيًا - من القرن الثاني عشر إلى الثامن عشر - فكلما ظهر سبب لحكم منها أجرى هذا الحكم بأمر عالٍ حتى تكون مجموعها قواعد القانون الدولي بهذا الخصوص في القرن الثامن عشر بني علي ثلاث قواعد:
1 - لا قرصنة بغير إذن صادر من الدولة وإلا اعتبر صاحبها من لصوص البحر Pirate قبل دولته وقبل الذين يعتدى عليهم في البحر فيحل قتله.
2 - يحق للقرصان في هذه الحالة أن يطلبوا الحكم لهم بمغانمهم.
3 - لا يمتلكون مغانمهم قبل الحكم لهم بها.
فمن هذه الإجراءات نشأت قاعدة (لا غنية بغير حكم)، وعلى كل حال فإن القرصنة المشروعة سواء في السلم أو في الحرب قلت ابتداءً من القرن الثامن عشر وحرمت نهائيًا بمعاهدة باريس في 16 إبريل سنة 1856 ومن يحترفها من بعد يعتبر من لصوص البحار Pirates يوحل قتله.