بحث حول جريمة التوسط والتوصية والرجاء صورة من صور الفساد الإداري
جريمة

التوسط
والتوصية والرجاء

صورة من صور
الفساد الإداري

المقدمة

أصبح
الفساد الإداري في الوقت الحاضر داء سرطاني ينخر في جسم الأمم والشعوب ويهدد أركانها ويعطل مسيرتها التنموية وتقدمها العلمي، مما دعاها إلى التصدي إليه بشكل جماعي عبر إبرام العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية . ولم يقتصر الفساد على نشاط محدد بل ظهر في صور متعددة وتعدى إلى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسواها . لذلك قام بعض المختصين في معالجة الفساد إلى عده ظاهره وليس فعل، حيث إن التحديد الدقيق لمفهوم (الظاهرة) يمكن أن يعبر عنه على أنه تواتر حدوث الحالة وتكرار وقوعها بين الحين والآخر، فعلى هذا المنوال نجد أن ما أستجد وقوعه من حوادث يسمى حالة أو حادثاً، في حين أن ما تواتر وتكرر حدوثه يسمى ظاهرة، كما أن الظواهر لها ما يميزها من السمات التي تكاد تبدو متشابهة بين كل حدث متكرر من أحداثها، والفساد كفعل له صفة الاستمرارية والتكرار وبتوفر معظم حوادثه على صفات وقواسم مشتركة، أكتسب ما يجعله مستوفي لشروط الوصف على أنه ظاهرة، وبحكم كون المجتمع السياسي هو الوسط الذي ولدت ونمت في كنفه تلك الظاهرة، إذن هي من قبيل الظواهر السياسية. لذا فأن الفساد يشكل ظاهرة إجرامية او سلوك منحرف عن قواعد السـلوك الاجتماعي السائدة في المجتمع ، وذلك تأسيسا على إن السلوك الإجرامي ليس محض واقعة يجرمها القانون ، ولكنه سلوك يصدر من إنسان يعيش في بيئة معينة ووسط مجتمع معين ، ومن ثم فهو سلوك اجتماعي منحرف ، لذلك فان دراسة أسباب ودوافع الفساد يعطي التفسير لهذه الظاهرة وبالتالي فان تفسير هذه الظاهرة ينطبق عليه ما يقال عن تفسير الظاهرة الإجرامية بصفة عامة حيث يقرر علماء الجريمة إنها لا ترجع إلى مصدر واحد أو مصدرين بل تنبع عن مصادر عديدة متنوعة ومتشابكة ومعقدة، وبالمثل فالفساد المالي والإداري ، كظاهرة إجرامية لها خصوصيتها بين غيرها من الظواهر الإجرامية الأخرى ، ليس فعلا منعزلا أو عرضيا ولكنه ثمرة تضافر عوامل عديدة تحركه وتحدد تكوينه وهيئته وظهوره[1]، وفي ضوء ما تقدم ظهرت تقسيمات عدة للفساد مقترنة بسبب النشاط الذي يتخلله ومنها ما يلي : ـ

1.
الفساد السياسي :

إذ أصبح
الفساد يتسلل إلى كل أشكال الأنظمة الحاكمة ومنظومتها، ولم يقتصر على نظام ملكي دون جمهوري أو رئاسي دون برلماني، كما لا يتعلق بمذهب فكري أو سياسي دون غيره، بل نجده لدى معتنقي المذهب الاشتراكي كونه يتدخل في كل الأمور المتعلقة بالأفراد من الخدمات الأساسية، إلى السلطات الحاكمة كالسلطة العسكرية وحماية البلاد والدفاع والأمن وسواها . إلا أن مدى الفساد الأوسع هو الأنظمة الشمولية والدكتاتورية والاستبدادية، وذلك لتركيز جميع السلطات بيدها سواء كان الحاكم فرد أو مجموعة من الأفراد . وهذا يؤدي بدوره إلى منع أبناء الشعب من ممارسة حقوقهم السياسية ويحد من حرياتهم ويصادر إرادتهم في الاختيار ، المتمثل بالانتخابات أو حرية السكن والتعبير عن الإرادة وما شابه ذلك . وهذه الصورة من الصور الفساد الذي يتفرع منه وينتج عنه الفساد المالي والإداري .

2.
الفساد الاقتصادي :

وهو
الفساد الذي يؤدي إلى فشل الأنظمة الاقتصادية في معالجة المشاكل الاقتصادية وعدم القدرة على توفير الحاجات الأساسية للفرد وسوء العمل في مراكز الإنتاج القومي المتمثلة بالصناعة والتجارة والسياحة وغيرها من مصادر الإنتاج . وهذا النوع من الفساد يؤدي إلى انخفاض مستوى دخل الفرد مما ينعكس سلبا على منظومة المجتمع القيمية ويؤدي إلى استشراء الظواهر الجرمية ومنها الفساد الإداري والمالي .

3.
الفساد الاجتماعي :

وهو
الفساد الذي يصيب قيم وأخلاقيات المجتمع ويتجاوز على ثوابته العقائدية والتاريخية التي ورثها أسلافه العظام . لان الحضارات لم تنهض، إلا بقيم وثوابت اجتماعية سادت في المجتمع، وجعلت منها ركائز ينهض بها التقدم والتطور، الذي يؤدي إلى نشوء الحضارة، وهذا النوع من الفساد يحطم هذه القيم ويعدم الأخلاق، مما يبيح لكل فرد أن يعتدي على حقوق الآخرين دون رادع من ضمير أو قيم اجتماعية , ويسهم هذا النوع من الفساد في نشر الفساد المالي والإداري بشكل كبير وواسع . مما دعا المختصون إلى ملاحظته وإعداد برامج تربوية وتثقيفية للتصدي له داخل المجتمع .

4.
الفساد الإداري :

وهو
الفساد الذي يصيب المؤسسات والهيئات الإدارية لأجهزة الدولة، وارتبط هذا النوع من الفساد بالوظيفة العامة والموظف العمومي . إذ لا يمكن الحديث عن الفساد الإداري دون ربطه بموظف أو وظيفة حكومية، حتى أصبح الموظف هو الفاعل المتفرد في ارتكاب جرائم الفساد الإداري . إذ يرى القانون الإداري إن الوظيفة في بداية نشأتها كانت عبارة عن صلة شخصية بين الحاكم والموظف، الذي يتم اختياره من قبل الحاكم، من بين الموظفين المقربين إليه دون الحاجة إلى معرفة كفائتة أو قدرته أو هل يوجد شخص أكثر كفاءة منه . وهذا النوع يكثر في الأنظمة الشمولية التي يكون فيها الحاكم مستبد وذو سلطة مطلقة[2] ثم تطورت الوظيفة إلى أن وصلت إلى ما عليه الآن، من كونها حق من حقوق الإنسان ونصت عليها العديد من المواثيق الدولية وكذلك دساتير الدول الحديثة ومنها الدستور العراقي الذي أشار إلى تشكيل مجلس خدمة متخصص بشؤون الوظيفة[3] ، وعلى الرغم من التطور الذي حصل في مفهوم الوظيفة أو الموظف العام الحكومي وكثرة القوانين والأوامر التي تنظم أعماله وسلوكه، إلا إننا نجد أن صور الفساد الإداري متوفرة في الأداء الوظيفي وبأشكال متعددة، منها ما ذكرته القوانين العقابية وعدت كل فعل من هذا القبيل هو جريمة يعاقب عليها القانون مثلما ورد في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1999 المعدل أو في القرارات الأخرى التي لها قوة القانون . ويعد من صور الفساد الإداري تلك التي اكتفى المشرع العراقي بعدها مخالفات إدارية تجزى بعقوبات تأديبية مثل الإنذار والفصل والعزل وعلى وفق ما ورد في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14 ) لسنة 1991 المعدل[4]. ومن بين الأفعال المتعلقة بالوظيفة ما أشار إليه الباب السادس من قانون العقوبات العراقي في المواد (307 ـ 341 ) وذكر الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة وهي (الرشوة، الاختلاس، تجاوز حدود الوظيفة ) وهذا التوصيف لا يعني قصر جرائم الفساد الإداري بهذه الصور من الجرائم، إذ تعتبر العديد من الجرائم الأخرى غير التي ذكرت ، من صور الفساد الإداري منها على سبيل المثال لا الحصر (جريمة تزوير المحررات الرسمية ,التوسط أو الرجاء أو التوصية، السرقة ، استغلال النفوذ) وغيرها مما ذكر في القوانين العقابية، وفي هذا البحث سأتناول (جريمة التوسط أو الرجاء أو التوصية) في القانون العراقي كونها صورة من صور جريمة الفساد الإداري مع المقارنة ببعض التشريعات العربية . حيث تعد هذه الجريمة من أكثر الصور المتداولة في الحياة اليومية للأفراد ويؤدي هذا النشاط إلى ترسيخ الفساد الإداري في أنشطة الدولة، كافة لأنه سوف يؤدي إلى سرقة حقوق الآخرين والاعتداء على المال العام وقيم المجتمع، لأن هذا الاعتداء لم يكن لولا سعي بعض ذوي النفوذ إلى إلزام الموظف بأداء عمل نتيجة لتوسط أو توصيه أو رجاء على خلاف السياق العام للعمل الإداري، مما يؤدي إلى حرمان شخص آخر، أما من الانتفاع بالخدمة التي يقدمها ذلك الموظف من خلال عمله، أو تعيين شخص هو ليس الأكفأ بين أقرانه، وذلك إما بمقابل مال أو وجاهة له على حساب الآخرين، مما يؤدي وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، ويؤدي إلى تعطيل المنظومة الإدارية وتردي الخدمة العامة وظهور حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي، التي هي نتاج الفساد الإداري . ومن خلال هذه الديباجة حول ( جريمة التوسط أو التوصية أو الرجاء) التي عدها المشرع جريمة يعاقب عليها القانون، بالإضافة إلى كونها مخالفة للقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة في المجتمع ولكثرة تداولها في حياتنا اليومية من خلال استغلال ذوي النفوذ لنفوذهم في السلطات أو الوظائف التي يعتقد البعض إنها مهمة، على الرغم من ان كل الوظائف تعد مهمة من خلال تقديمها الخدمة للمواطن .