بحث حول قوة الأحكام الجنائية أمام المحاكم المدنية
أثر الحكم الجنائي
أمام المحكمة المدنية:
يتناول بحثنا في هذا الموضوع بيان المسائل الآتية:
الأولى: فقه
المحاكم المصرية فيه.
الثانية: آراء علماء القانون الفرنسوي وفقه
المحاكم الأفرنسية.
الثالثة: مذهب القانون المصري وكيف يجب تطبيقه في هذا المقام.
1 - فقه
الأحكام المصرية
قد يندفع المترافعون مع مصلحتهم فيرى كل منهم أن هذه مسألة بسيطة، الرأي الصحيح فيها ما كان موافقًا لطلباته، فإذا عثر على حكم يؤيد رأيه قال إن هذا ما أجمعت عليه الأحكام، وفي هذا من النقص في البحث وتعقيد مأمورية القاضي ما لا يسهل معه [(1)] وجهها الصحيح.
الواقع أن المسألة دقيقة معقدة، وقد اختلفت فيها
الأحكام اختلافًا بينًا، بل قد اختلفت فيها الدائرة الواحدة، فقضت برأي ثم عدلت إلى نقيضه.
في 31 أكتوبر سنة 1901 قررت محكمة الاستئناف (دائرة المستر بوند) أن الحكم الجنائي لا أثر له
أمام المحكمة المدنية وهذا نص أسباب الحكم حرفيًا:
(حيث إنه لا يوجد نص في القانون يقضي بجعل
المحاكم المدنية مرتبطة بالأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية فيسوغ إذن لهذه المحكمة أن تنظر في دعوى تزوير العقد بالطرق المدنية).
(وحيث إن عبد الحافظ محمد أحد المستأنفين لم يطلب من هذه المحكمة الحكم بتعويض كما طلب
أمام محكمة الجنح بصفته مدعيًا بحق مدني بل إن غاية ما يطلبه هو تزوير العقد) (المجموعة الرسمية السنة 4 عدد (15) صحيفة نمرة 37 – 39).
ظاهر من هذا البيان أن واقعة الدعوى التي صدر فيها الحكم أن دعوى التزوير
الجنائية كانت قد تعلقت أمام القضاء الجنائي وأن النزاع فيها كان منظورًا بين المتمسك بالعقد وبين المدين فيه، وكان هذا الأخير داخلاً في الخصومة مدعيًا بحق مدني، فصدر الحكم بالبراءة في وجه الخصمين، ثم لما جاء دور المرافعة المدنية طعن المحكوم ضده بالتزوير مرة أخرى أمام المحكمة المدنية فقررت محكمة الاستئناف أن الحكم الجنائي الصادر في الدعوى العمومية وفي الدعوى المدنية معها لا قيمة له أمامها، لا لأنه صادر بالبراءة وأحكام البراءة هي وحدها التي لا يحتج بها أمام المحاكم المدنية كما يقول البعض استدلالاً بأقوال علماء القانون الفرنسوي، بل بناءً على ذلك المبدأ العام المقرر في الحكم بكل جلاء ووضوح وهو استقلال كل من القضائين الجنائي والمدني عن بعضهما استقلالاً لا يجعل لأحكام أحدهما أثرًا أمام الثاني لاختلاف الخصومة موضوعًا وسببًا، وإذا رجعنا إلى هذا المبدأ الأصلي في تحديد أركان الأحكام الانتهائية فلا فرق بين أحكام البراءة وأحكام العقوبة.
في سنة 1904 عرض الموضوع نفسه على جلسة أخرى (دائرة سعد زغلول) فذهبت إلى نقيض ما ذهبت إليه الدائرة السابقة، بل وبالغت في الرأي إلى حد الاحتجاج بالحكم الجنائي
أمام المحكمة المدنية وخضوع هذه المحكمة له وأن صدر بالبراءة خضوعًا مطلقًا في جميع تقريراته، حتى في ما خرج عن اختصاص المحكمة الجنائية كالتقرير بصورية العقد.
غير أن هذا الحكم وحيد في نوعه بل لا نجد له مثيلاً لا في
الأحكام الأفرنسية ولا في آراء العلماء هناك فإنهم يرجحون كما سنرى الارتباط بالحكم الجنائي إذا صدر بالعقوبة، أما حكم البراءة فلا يعتد به، ثم إنهم مع اتفاق جمهورهم على هذا المبدأ يحددونه بأن يكون ما حكم فيه القاضي الجنائي داخلاً ضمن اختصاصه المحدد بوقائعه المعروفة وليست صورية العقد منها.
في 13 فبراير سنة 1909 عرضت المسألة على محكمة النقض والإبرام (رئاسة المستر بوند أيضًا) فاضطرب رأيها في الموضوع، فقررت في الحكم مبدأ ثم خرجت في التطبيق عن قبول نتائجه القانونية، لهذا رأينا الحكم لا يقبل من المدعي المدني الرجوع إلى دعوى التزوير
أمام محكمة الجنح بعد الحكم فيها مدنيًا بناءً على استقلال القضائيين، بل قضى بأن المحكمة الجنائية يجب عليها أن تحترم الحكم المدني ولكن في علاقات الخصمين المترافعين وحدهما فللحكم قوة الشيء المحكوم فيه فيما يختص بالحق المدني، أما فيما يختص بالتزوير الجنائي وهو موضوع الدعوى العمومية فالحكم المدني لا أثر له بناءً على استقلال القضائين فقبلت الدعوى العمومية وقضت بعدم قبول الدعوى [(1)].
قد يفهم أن هذا ليس عدولاً عن مبدأ الحكم الأول، لأن في قبول الدعوى العمومية تأييدًا لاستقلال المحكمة
الجنائية وعدم خضوعها لحكم المحكمة المدنية، وهذا معنى استقلال القضائين عن بعضهما ذلك الاستقلال المقرر في حكم سنة 1901.
غير أن هذا خطأ لأن حكم سنة 1901 قبل النزاع المدني بين نفس الخصمين اللذين ترافعا
أمام المحكمة الجنائية وصدر الحكم في خصومتهما، وفي الموضوع المتفرع عن نفس الواقعة التي كانت محلاً للمرافعة الجنائية فكان يجب على هذا أن تقبل مرافعة المدعي المدني أمام المحكمة الجنائية رغمًا عن مرافعته أمام المحكمة المدنية فعدم قبول الدعوى قيد من قيود الاستقلال الذي تقرر في الحكم الأول.
وأظهر من هذا أن المبدأ المقرر في حكم سنة 1901 إنما سببه القضائي اختلاف الخصومتين
أمام القضاء الجنائي والمدني موضوعًا وسببًا، فإن الخصومة الجنائية موضوعها تعويض والمدنية موضوعها نفس الحق المدني المتنازع عليه في ذاته، وسبب الخصومة الجنائية واقعة وسبب الخصومة المدنية رابطة قانونية مستفادة من عقد متنازع فيه، ووضع النظرية على هذا الأساس – وهو أساس متين - يقتضي أن لا يكون للحكم المدني أثر أمام المحكمة الجنائية.