من خلال كل ما تقدم شرحه، يمكن القول، بأن القانون الجنائي يلعب دورا مهما في إرساء حماية قانونية مهمة لبرامج الحاسوب. فإذا كانت قواعد القانون المدني، تحمي البرامج مدنيا من خلال مقتضياتها، فإن القانون الجنائي هو الذي يكفل للبرامج، سدا منيعا ضد كل الانتهاكات.
ويبقى علي أن أتطرق إلى نقطة أخرى، لا تخلو من أهمية في مجال
حماية برامج الحاسوب، ويتعلق الأمر، بمدى ما تكفله قواعد القانون الجنائي من حماية للبرامج، والتعرف على مواقف الفقه والقضاء من المسألة، وهذا ما سأخص به المبحث الموالي.

المبحث الثاني: مدى كفاية
قواعد القانون الجنائي في حماية المصالح وحفظ النظام العام:إذا كان المشرع المغربي قد جرم أعمال التقليد والقرصنة ، فإنه قد فسح أمام كل متضرر من هاته الأعمال حق إثارة الدعوى الجنائية، بإثبات تقليد برنامجه أو قرصنته. بعبارة أخرى، عليه إثبات العمل المادي المعاقب عليه، والواقع على ملكيته الفكرية. على أن الطبيعة المعقدة لبرامج الحاسوب، تجعل الكثير من القواعد القانونية الجنائية لا تتمكن من احتواء كل حالات الاعتداءات على البرامج. مما يوجب سن قواعد تجريمية جديدة، كفيلة بمسايرة التطورات في مجال المعلوميات وتستطيع إضفاء حمايتها على برامج الحاسوب. ويعود السبب في ذلك، إلى أن الجرائم المعلوماتية لها عناصرها المتميزة عن الجرائم الأخرى، نظرا للطبيعة القانونية الخاصة للمال المعلوماتي المعتدى عليه، فهو ذو طبيعة مزدوجة: مادية وتتمثل في دعامته المادية وأخرى معنوية وتتمثل في البرنامج في ذاته.
وسأحاول البحث في مختلف المواقف القانونية التي أدلت بآرائها من حيث مدى نجاعة القواعد التجريمية الكلاسيكية في
حماية برامج الحاسوب (المطلب الأول). وسأعمل أيضا على تبيان دور الهيئات الوطنية والدولية في حماية برامج الحاسوب من كل أشكال القرصنة (المطلب الثاني).

المطلب الأول: مدى نجاعة القواعد التجريمية الكلاسيكية في
حماية البرامج
لقد ثار خلاف فقهي كبير في العديد من الدول، حول مدى قدرة
قواعد القانون الجنائي توفير حماية قانونية فعالة لبرامج الحاسوب. والسبب في ذلك، يكمن في طبيعة برنامج الحاسوب نفسه: فهو مؤلف من البرنامج التنفيذي، ومن البرنامج المكتوب بإحدى لغات البرمجة وهو البرنامج-المصدر. وليستطيع التجاوب والعمل مع أجهزة الحاسوب، لابد من ترجمته إلى اللغة الوحيدة التي يفهمها وهي لغة الآلة، حيث يتحول من برنامج-مصدر إلى برنامج-هدف. وبذلك، لا يستطيع أي إنسان مهما علت ثقافته العلمية-ولو كان معلوماتيا- أن يفهم لغة الآلة، إلا من كان من خبراء برمجة الأجهزة المصنعة داخل الحواسيب، بعد جهد وتعب كبيرين.
إن الاعتداء على
برامج الحاسوب يتضمن من جهة، اعتداءا على حقوق المؤلف الذي أَهدَر ماله وجهده ووقته من أجل تأليف وإنشاء برنامج، كان من الممكن حين تسويقه أن يحصل على أرباح، تمكنه من القيام باستثمار جديد في مجال تأليف وتسويق البرامج. لكن أمله يتحطم وجهوده تتلاشى، حينما يعتدي أحد على حقه بسرقة برنامجه أو باستنساخه وتقليده. لا مجال للقول بأن الخسارة بسيطة ويمكن تداركها -لكن الواقع أكبر من ذلك- فالضرر الذي سيطال مؤلف البرنامج ومنتجه، لن تنحسر دائرته بينهما بل ستمتد لتشمل المجتمع ككل.
فالقرصنة والتقليد والنسخ غير المشروع، أصبحت آفة خطيرة على الاقتصادي الوطني والدولي على السواء، ولها عواقبها الوخيمة على سير وتطور مجال صناعة البرامج، على المستويين الوطني والدولي. وتتمثل بالأساس في التخوف من الاستثمار في مجال خطير، قد يكون نعمة كما قد يكون نقمة على المستثمر فيه. وأيضا في إهدار الكثير من الجهد الفكري الإبداعي لطاقات بشرية عديدة، تعمل لساعات طويلة، من أجل وضع برنامج للحاسوب يكون مصدر ربح مادي سريع لقراصنة البرامج والمقلدين. وبذلك فإن القرصنة "تقتل الإنتاج وتجعل الشركات المنتجة للأعمال الفكرية، في وضعية صعبة جدا، ناتجة عن المنافسة غير المشروعة التي لا حد لها، ولا يمكن التغلب عليها" ، كما أنها متطورة بتطور الأجهزة التكنولوجية التي تسهل على القراصنة عملهم ولا مجال لوقفها، مما قد يؤدي لا محالة، إلى اضمحلال الإبداع والإنتاج الفكري على السواء. وأخطار جرائم القرصنة على أنواعها، لا تمس فقط بالحقوق الشخصية لمؤلف برنامج الحاسوب، بل تمتد إلى المجتمع ككل، كما رأينا.
فالبرامج سواء منتجة محليا أو مستوردة تخضع للضريبة، والمبالغ التي تجنيها وزارة المالية من الجبايات عليها مهمة جدا، تمكن من قيام الدولة باستثمارات اجتماعية واقتصادية. ولن تمكن القرصنة مصلحة الجبايات من استخلاص الواجبات المستحقة لها، مما يعني أنها تضر حتى بمصالح الدولة. من هنا، تظهر لنا أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه
قواعد القانون الجنائي، في حماية برامج الحاسوب وحقوق مؤلفيها وأصحاب الحقوق عليها.
إن السؤال الذي يطرح هنا وبإلحاح، يتعلق بمدى قدرة
قواعد القانون الجنائي في الحد من جرائم القرصنة بأشكالها. ويمكن القول، بأن الكثير من الأدبيات القانونية في العديد من دول العالم، تباينت أجوبتها عن هذه المسألة. فما هي المواقف التي اتخذتها الآراء القانونية المغربية والمقارنة من المسألة هذا ما سأتطرق إليه من خلال الفقرتين التاليتين.

الفقرة الأولى: المواقف القانونية من
قواعد القانون الجنائي في مجال حماية برامج الحاسوب:
إن نقطة الخلاف التي دارت بالأساس، تمحورت حول أركان جريمة التعدي (جريمة القرصنة بأنواعها). وقد تباينت الآراء، بين من يرى توفر ركن التعدي في جريمة سرقة معلومات البرنامج، وبين من لا يرى فيه أي خطورة. مما جعل المواقف تتباين، بخصوص الأخذ أو التخلي عن
قواعد القانون الجنائي.

- موقف
القانون المقارن من قواعد القانون الجنائي في مجال حماية البرامج:لقد ثار خلاف فقهي كبير في كل من إنجلترا وأمريكا وفرنسا، حول مدى توفر عنصر الاعتداء على أسرار البرنامج. فذهب رأي إلى أنه ليس في الأمر أي اعتداء، مادام من صفة الاعتداء أو جريمة السرقة عموما، أن يكون فيها العمل ماديا. وعليه، من الصعب إقناع القاضي الذي ارتبط ذهنه بمفهوم التعدي المادي وبالتالي أن يقتنع بوقوع جريمة السرقة المعنوية هذه، لأنه تصرف افتقد إلى عنصر الخطأ، وفق مفهومه المتعارف عليه فقها وقانونا وقضاء .
ورأى اتجاه فقهي آخر، أن "المعلومات -وضمنها بطبيعة الحال تلك التي يتضمنها البرنامج- أي الصورة المحمولة للبيانات ليست محل استئثار، فهي حق للعامة يمكن تداولها والانتفاع بها دونما تمييز، ومن ثم لا يمكن أن تكون محلا للحماية" . ويؤكد هذا الفقه، على أن الدخول إلى برنامج الحاسوب والاعتداء على المعلومات والتعليمات التي يتضمنها، دون أن يقع اعتداء مادي على دعامة البرنامج -والتي قد تكون قرصا صلبا أو مرنا أو قرص ليزر…- لا يقع تحت طائلة المسؤولية الجنائية، لأنه لا يحرم صاحب البرنامج من استعماله. بمعنى أن ما يعتبر فعل تعد، هو ذاك الواقع على الدعامة المدونة عليها المعلومة لسرقتها وإتلافها. ولعل أساس هذا الموقف، هو أن كل تشريعات العالم التي حمت برامج الحاسوب، لم تحط المعلومات بأي حماية، ولو بموجب قوانين الملكية الأدبية والفنية أو قوانين الملكية الصناعية . اتجاه فقهي آخر يرى "أن سرقة أسرار ومعلومات البرامج، يمكن تشبيهها بسرقة حق الاستعمال " le vol d'usage "، مادام الاستعمال ليس عنصرا ماديا" .
الواقع، أن سرقة برامج الحاسوب لم تقع لا على حق الملكية ولا على حق الاستعمال، لكن على الشيء المعنوي المدمج في دعامة مادية. ويمكن الاستدلال على ذلك، من خلال موقف للقضاء المغربي في حكم للمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء ، من جريمة سرقة استعمال خطوط الهاتف، حيث اعتبر أنها سرقة وإن كانت واقعة على شيء معنوي. وعليه، يمكن القول بأن جريمة سرقة معلومات وأسرار برامج الحاسوب، هي سرقة مادية متوافرة الأركان والشروط.
على أن ما يلاحظ أنه لحد الآن، لم تهتم التشريعات بالتفكير في وجوب تقرير حماية معلومات البرامج، وفق نفس القانون الذي يحمي البرامج في صورتها النهائية. فمن الخطورة بمكان، اعتبار أن الخرائط التدفقية للبرامج والتي لا تزال على دعامة ورقية، وكذا البرنامج-المصدر، والبرنامج-الهدف، أو خوارزمياته، مجرد أفكار لا تحظى بأي قيمة قانونية؛ ولا أحد يدري خطورتها غير المبرمج والمصمم والمنشئ لها.
إن الموقف الفقهي السابق، من الخطورة بمكان الأخذ بصلاحيته، لجعله مجال المعلوميات عموما ومجال "صناعة برامج الحاسوب" خصوصا، مجالا حرا للمنافسة فيه، لما في ذلك من طابع تشويق وتنافس بين شركات صناعة البرامج. ولعل خطورة هذا الموقف، هي التي حذت بالعديد من الفقه والقضاء في العديد من الدول، إلى مناشدة المشرع الجنائي للتدخل لتجريم الاعتداء على المعلومة في ذاتها .
ومع ذلك، البرامج وإن كانت غير محمية بمقتضى القوانين الجنائية، فإن حمايتها بمقتضى قوانين حق المؤلف أو قوانين الملكية الصناعية، تضمنت فصولا خاصة بالعقوبات لكل من ينتهك حق المؤلف عموما -وبطبيعة الحال المؤلف المعلوماتي- ليحظى هو أيضا بحماية مصنفه وحقوقه على برنامجه من أن يعتدى عليها دون وجه حق.

- مواقف الفقه المغربي، من مدى كفاية قواعد القانون الجنائي
في تحقيق حماية فعالة لبرامج الحاسوب:
إذا كان المشرع المغربي قد جرم أعمال التقليد والقرصنة ، فإنه قد فسح أمام كل متضرر من هاته الأعمال حق إثارة الدعوى الجنائية، بإثبات تقليد برنامجه أو قرصنته. أي إثبات العمل المادي المعاقب عليه، الواقع على ملكيته الفكرية. لكن، هل النصوص التشريعية في المجال الجنائي، تستطيع مواجهة التطور التكنولوجي المعلوماتي؟.
لقد تطرقت بعض آراء الفقه المغربي إلى بحث ما تطرحه المعلوميات، من مشاكل في الواقع العملي. كما حاولت سبر أغوار القانون الجنائي من حيث مدى قدرته على مسايرة التطورات التكنولوجية عموما، ومجال صناعة برامج الحاسوب خصوصا. ويمكن القول، بأن الفقه المغربي، منقسم بهذا الخصوص، إلى إتجاهات ثلاثة:
الإتجاه الأول: يعتقد أصحابه بإمكانية معالجة ما استجد من الجرائم المعلوماتية، عن طريق القواعد التجريمية العامة، في انتظار قيام المشرع الجنائي بوضع أسس جديدة للجرائم الحديثة. وأثناء ذلك، "على القاضي اعتماد القواعد العامة في التجريم ومحاولة إدخاله لقواعد تتناسب ومبدأ الشرعية الجنائية" .
الاتجاه الثاني: يرى أن القانون الجنائي المغربي، "لا يتوفر إلا على قواعد تقليدية بالية في الجريمة والعقاب، والتي أصبحت متجاوزة وغير متناسبة وخصوصيات الجريمة المعلوماتية" ، مما يستوجب تدخل المشرع بقواعد تجريمية جديدة.
أما الاتجاه الثالث: فقد ذهب إلى أن "الأفعال الإجرامية المرتبطة بالمعلوميات، لا تستوجب بالضرورة تفريد نصوص تجريمية خاصة. وما على القضاء سوى تأويل النصوص العامة، شريطة معرفته بالمبادئ الأولية للوسائل المعلوماتية، خاصة وأن هذه الأفعال الجرمية تضر بالنظام العام" .
وبذلك، الجرائم المعلوماتية لها عناصرها المتميزة عن الجرائم الأخرى -وإن كانت الجرائم على أنواعها، تشترك جميعا في ذات الشروط والعناصر- نظرا للطبيعة المزدوجة، للمال المعلوماتي المعتدى عليه، والمتمثلة في: طبيعة مادية وهي دعامته، وأخرى معنوية تتمثل في برنامج الحاسوب.
وفي غياب تدخل المشرع الجنائي المغربي، من أجل تكييف هذا النوع الحديث من الجرائم، من الصواب الأخذ بالقواعد العامة للتجريم، كأساس يعتمد من أجل إيجاد حلول لنوازل خاصة بالجرائم المعلوماتية، كلما طرحت على القضاء المغربي. ولا بد من الآن، التفكير في الحلول التشريعية المناسبة، بوضع نصوص خاصة بجرائم المعلوميات، سيرا على نهج العديد من دول العالم ومنها فرنسا والولايات المتحدة.