تجريم الرشوة الانتخابية في ظل القانون المصري
إن التقارب الكبير بين الرشوة المنصبة على الوظيفة العامة وتلك الماسة بإرادة الناخبين وبنزاهة العملية الانتخابية جعل الشارع الانتخابي يستمد ملامح سياسته العقابية من نظيره الجنائي الذي برع في معالجة الرشوة الوظيفية جنائياً بشكل محكم ويبين تأثر المشرع الانتخابي بنظيره الجنائي إذا ما وضعنا مواد تجريم الرشوة الواردة بالمدونة العقابية مع فقرات المادة 41 من قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 لسنة 1956 تحت مجهر واحد. ففي حين نصت المادتين 103، 104 من قانون العقوبات على أن كل موظف عمومي طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه يعد مرتشياً ورصدت له عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة فضلاً عن الغرامة نجد أن الفقرة الثالثة من المادة 41 من قانون الانتخاب قد سارت على ذات النهج مستخدمة ذات الألفاظ حيث جرمت فعل كل من قبل أو طلب فائدة لنفسه أو لغيره لإبداء الرأي على وجه خاص أو الامتناع عنه. ومن ذلك يتضح أن النصوص السابقة عنت بمخاطبة المرتشي وحصر صور سلوكه الواقعة تحت طائلة التأثيم.
كما أن استقراء المادة 107 من المدونة العقابية والفقرة الثانية من المادة 41 آنفة الذكر والنظر إليهما من خلال ذلك المجهر المقارن يظهر اتفاقهما على مخاطبة الراشي وحصر صور سلوكه المادي المنوطة بالتأثيم حيث جاء نص المادة 107 ليقرر عقاب الراشي بالعقوبة المقررة للمرتشي وجاء نص الفقرة الثانية من المادة 41 ليجرم كل من أعطى آخر أو عرض أو التزم بأن يعطيه فائدة لنفسه أو لغيره كي يحمله على إبداء الرأي على وجه خاص أو الامتناع عنه.
بيد أن الشارع الجنائي قد اتسم بالدقة متفوقاً على نظيره الانتخابي عندما عمد إلى تجريم فعل الوسيط بلفظ صريح راصداً له عقوبة مماثلة لعقوبة المرتشي حيث نص على ذلك بوضوح في المادة 107 بقوله (يعاقب الراشي والوسيط بالعقوبة المقررة للمرتشي) ونحسب أن هذا كان أمراً ضرورياً ملحاً متفقاً وضرورة وضوح النص الجنائي ومتفقاً وطبيعة جريمة الرشوة التي غالباً ما لا تكتمل إلا بمساهمة هذا الثالوث (الراشي و الوسيط و المرتشي) وقيام كل منهم بالدور المنوط به.

و لقد كان حرياً بالشارع الانتخابي أن ينص صراحة على تجريم فعل الوسيط الذي يتعاظم دوره على مسرح جريمة الرشوة الانتخابية حيث عادة ما يعمد المرشح إلى وسيط من ذات عشيرة مجموعة من الناخبين أو تربطه بهم علاقة جيرة أو عمل أو قرابة ليكون بمثابة حلقة الوصل بينه وبينهم سيما إذا كان هذا المرشح يفتقر الشعبية التي تمكنه من القيام بهذا الدور بنفسه فيتحقق بذلك مأربه في التأثير على إرادتهم، ونرى أنه لم يكن كافياً أن يستفاد هذا التجريم من عموم ألفاظ الفقرة الثانية من المادة 41.
وعلى صعيد أخر يتضح أن المشرع المصري لم يهتم بالحفاظ على حرية الناخبين بنفس القدر الذي التزم به نظيره الفرنسي في هذا المجال ففي حين أفرد المشرع الفرنسي خمسة مواد في قانون الانتخاب لديه لتنظيم هذا الأمر ضمنها تجريم أفعال الرشوة الجماعية التي تستهدف التأثير على جماعة أو طائفة من الناخبين وضمنها نص يضاعف العقوبة المرصودة للجريمة إذا كان الجاني موظفاً عاماً نجد أن المشرع المصري أجمل كل ما يتعلق بالتأثير المباشر على حرية الناخبين في التصويت في مادة وحيدة ضمن القانون رقم 73 لسنة 1956 المعدل وهي المادة "41" آنفة البيان.


النطاق الزمني للرشوة الانتخابية
الفعل أو الأفعال التي تندرج في مفهوم الرشوة الانتخابية كما تكون سابقة على التصويت وهذا هو الفرض الغالب يمكن أن تكون لاحقة عليه كذلك ويبين ذلك من خلال تجريم الشارع الوعد بتقديم الفائدة. أما الرشوة أو المكافئة اللاحقة وعلى عكس حالها في نطاق الرشوة الوظيفية فإنها تخرج من نطاق التجريم في الرشوة الانتخابية حيث خلا القانون الانتخابي المصري من نص مشابه لنص المادة 105 من قانون العقوبات الذي نص على أن كل موظف عمومي قبل من شخص أدى له عملاً من أعمال وظيفته أو امتنع عن أداء عمل من أعمالها أو أخل بواجباتها، هدية أو عطية بعد تمام ذلك العمل أو الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات وظيفته بقصد المكافأة على ذلك وبغير اتفاق سابق يعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد عن خمسمائة جنيه.
ولقد كان حرياً بالمشرع أن يفرد نصاً عقابياً لتجريم المكافئة اللاحقة التي يقبلها الناخب كجزاء عما أداه من تصويت لصالح مرشح معين أو الامتناع عن ذلك ويفترض هذا الفعل الحري بالتأثيم أن تصويت الناخب على وجه معين أو امتناعه عنه قد تم دون اتفاق سابق على هذا العمل أو الامتناع عنه بينه وبين المرشح ولكنه بعدما أتاه من تصويت وامتناع يجيء قبوله للعطية كمكافئة عما أداه، وهذا الفعل رغم ندرة إمكانية حدوثه على هذا النحو وصعوبة إثباته إلا أن شموله بالتجريم سيحقق ولا ريب ضمانة بالغة المثالية لنزاهة العملية الانتخابية وهو ما يهدف إليه الشارع من تجريم تلك الرشوة.


الشرط المفترض في جريمة الرشوة الانتخابية
الشرط المفترض في الجريمة هو أمر سابق على توافر الأركان وبالتالي فهو ليس جزء من أركان الجريمة ومع ذلك فهو أمر ضروري لا تقع الجريمة إلا بوجوده وهو في هذا يتفق مع الركن في أنه يترتب على انعدامه انعدام الجريمة حتماً ويتمثل هذا الشرط في جريمة الرشوة في صفة مقترفها (12).

أ - صفة الراشي
على خلاف الصورة الأصلية لجريمة الرشوة في المدونة العقابية والتي تتطلب صفة خاصة في مرتكبها وهي صفة الموظف العام والتي هي بمثابة الشرط المفترض في جريمة الرشوة الوظيفية وفقاً لما نصت عليها المادة 103 من قانون العقوبات المصري (كل موظف عمومي طلب لنفسه أو لغيره أو أخذ وعداً ... إلخ).
نجد أن الأمر مختلفاً ففي جريمة الرشوة الانتخابية حيث لا تتطلب صفة خاصة في الراشي فيستوي أن يكون الراشي أحد المرشحين في الانتخاب المعني أو أن يكون غيره ممن لا تتوافر بشأنه هذه الصفة وذلك لعموم صياغة المادة 41 من قانون الانتخاب المصري والذي جاء به كل من أعطى آخر أو عرض أو .... إلخ) .

ب - صفة المرتشي
إذا كان الأمر كذلك كما سلف بالنسبة للراشي في جريمة الرشوة الانتخابية إلا أنه يختلف بالنسبة للمرتشي وهو ذلك الذي أخذ أو طلب أو قبل الفائدة أو العطية أو الوعد بهما حسبما جاء بنص الفقرة الثانية من المادة 41 من قانون الانتخاب المصري، حيث يتعين أن تتوافر بشأنه صفة الناخب أي أنه يجب أن يكون أحد أعضاء هيئة الناخبين وذلك وقت مقارفته للسلوك الإجرامي المؤثم دون توقف على استمرار تمتعه بهذه الصفة بعد تمام السلوك. ومن ثم فإن صفة الناخب تعد شرطاً مفترضاً في جريمة المرتشي في الرشوة الانتخابية ولا قيام لهذه الجريمة ولا اكتمال لنموذجها القانون بغير تحقق هذه الصفة.

ج - صفة الوسيط
لا يشترط بالنسبة للوسيط في الرشوة الانتخابية تحقق أي صفة فيه فقد يكون أحد أعضاء هيئة الناخبين أو غيره لا فرق ومثله في ذلك مثل الوسيط في جريمة الرشوة الوظيفية وهو ذلك الذي يتوسط لصاحب المصلحة لدى الموظف العام للقيام بعمل من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه.
و في مجال الرشوة الانتخابية فهو وعلى نحو ما سبق ذلك الشخص الذي يمثل حلقة الوصل بين المرشح والناخب.


المخاطب بالتجريم في الرشوة الانتخابية
من المتصور أن يكون الجاني في الرشوة الانتخابية هو المرشح ذاته أو أحد من الغير و قد يكون مرتكب الرشوة واحداً من أنصار المرشح الذي يجتهد لصالح فوز المرشح الذي يناصره فيعمد إلى إرشاء الناخبين للتصويت لصالح من يناصر، كما أنه من المتصور وعلى النقيض أن يكون الراشي أحد أعداء المرشح والذي يجتهد إلى عدم فوز هذا المرشح فيقوم بإرشاء الناخبين ليعزفوا عن انتخابه وفي صورة ثالثة قد يكون هناك وسيطاً بين المرشح والناخب حيث يعمد المرشح إلى استعمال وسيطاً لتوصيل الفائدة للناخب لحملة على التصويت لصالحه ولعل النص التجريمي حسم أمر تجريم المرشح الراشي والناخب المرتشي ولكن هل يخضع الوسيط لحكم المادة 41 ثانياً.

بمطالعة نص هذه المادة والتي تقضي بأنه « كل من أعطى آخر أو عرض أو التزام بأن يعطيه فائدة ... إلخ » نجد أنها جاءت مطلقة ودليل إطلاقها لفظ « كل من ... » ومن ثم فإن الوسيط هو الآخر مخاطب بالتجريم طالما أنه قارف فعل إعطاء الفائدة أو عرضها على الناخب لحملة على إبداء رأيه على وجد معين.
ولكن ما الحكم في حالة عدم علم المرشح بما أتاه الوسيط ؟
لا ريب أن انتفاء علم المرشح بسلوك هذا الوسيط يجعل القصد الجنائي منتفياً لديه بدوره ومن ثم ينفرد الوسيط بالتجريم والعقاب. أما إذا كانت الفائدة قدمت من المرشح للوسيط لتوصيلها للناخب أو كان تقديم الفائدة بإيعاز من المرشح فلا ريب أن كلاهما (أي المرشح والوسيط) يكون فاعلاً أصلياً في جريمة الرشوة وذلك تطبيقاً للمادة 39 من قانون العقوبات (13).
وإذا كان المرشح والوسيط مخاطبين بالتجريم حال مقارفتهما السلوك المؤثم فإن الناخب بدوره مخاطب بالتجريم إذا ما استجاب لعرض المرشح أو طلب منه فائدة لنفسه أو لغيره.
ولا يقدح في اكتمال جريمة الناخب المرتشي تصويته لمرشح آخر غير الذي رشاه فالعبرة في تحقيق الجريمة هي بقبول عرض الرشوة أو أخذها أو طلبها وذلك حسبما سيرد تفصيلاً بمعرض حديثنا عن غرض الرشوة.