وقد كانت تونس من بين البلدان التي التزمت بالتوصيات الصادرة عن الأمم المتحدة فجاءت مجلة حقوق الطفل معلنة عن حمايته من الجرائم الجنسية المرتكبة ضده منذ فصلها الثاني الذي جاء فيه "تضمن هذه المجلة حق الطفل في التمتع بمختلف تدابير الوقاية ذات الصبغة الاجتماعية والتعليمية والصحية والتي تعتبر من الأحكام والإجراءات الرامية إلى حماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية أو التقصيرات التي تؤول إلى الإساءة في المعاملة أو الاستغلال".
وقد قدمت المجلة مفهومها للاستغلال الجنسي في فصلها 25 الذي جاء فيه : " يُعد من قبيل الاستغلال الجنسي للطفل ذكرا كان أو أنثى تعريضه لأعمال الدعارة سواء بمقابل أو بدونه أو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة".
وتبعا لذلك وضعت المجلة برنامجا كاملا للتصدي لمثل هذه
الجرائم ووضعت مؤسسات خاصة لحماية الأطفال من أهمها مندوب حماية الطفولة. وبذلك كانت مجلة حماية الطفولة قد كرست حماية خاصة للأطفال من هذه الجرائم وفق لتوصيات اتفاقية الأمم المتحدة وهنا يجب ملاحظة أن فكرة حماية الأطفال من الجرائم الجنسية المرتكبة ضدّهم فكرة حديثة ذلك أنه ولئن كانت فكرة حماية الأخلاق عامة قديمة قدم الدهر ظهرت منذ العصور القديمة ونجدها في القانون الوضعي مثل القانون الروماني أو الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية والإسلام.(١٦)
ولقد عاقب الإسلام العلاقات
الجنسية الخارجة عن النطاق الشرعي وشدّد العقوبة في حال حصول هذه العلاقة مع محرم. وقد أوصى النبي بقتل من وقع على ذات محرم.
إلاّ أن هذه الاهتمام كان اهتماما بالأخلاق عامة ولم يكن مسلطا على
الطفل بشكل خاص ولم يصبح الطفل متمتعا بحماية خاصة في الجرائم الجنسية إلا في العصر الحديث وتحديدا إثر التنصيص الصريح على هذه الحماية جاء في اتفاقية الأمم المتحدة.
وبالنظر إلى حداثة المفهوم مقارنة بخطورة
الجرائم الجنسية المرتكبة ضد الأطفال تبرز أهمية تناول هذه المدرسة بالدرس وجدوى طرح الموضوع (الجرائم الجنسية المرتكبة ضد الأطفال) خصوصا إذا ما نظرنا بشكل موازي إلى تكاثر هذه الاعتداءات في العصر الحديث وبالاطلاع على بعض الإحصائيات التي أجريت في بعض بلدان العالم نلاحظ تفاقما لهذا النوع من الجرائم يدفعنا إلى التساؤل عن هذه الأسباب فهل أن هذه الجرائم لم تكن موجودة أخلاقيا وخلقت نتيجة التطورات الاجتماعية للعالم المعاصر أم أنها كانت دائما موجودة ولكنها من الجرائم المحظور الحديث عنها؟
إن المتأمل في هذا يلاحظ أن هذه
الجرائم كانت موجودة منذ القديم وظاهرة الجواري والغلمان لدليل على ذلك ودليل على وجودها لكن إذا ما نظرنا إلى الموروث الثقافي القديم نلاحظ أنه قد جعل الخوض في هذه الجرائم الجنسية أمر محرم تقريبا خاصة وان المجتمعات القديمة وإلى وقت قريب كانت تنظر إلى المتضرر من الاعتداءات الجنسية على أنه هو المجرم ويقع نبذه وهذا يدفع بالكثير من المتضررين إلى محاولة تفادي ما يصطلح بتسميته "فضيحة وعار" وتجدر الإشارة إلى أن هذا التقييم متواجد أكثر في مجتمعاتنا العربية. لكن بالرجوع إلى بعض الإحصائيات نجد أن الأمر قد تغير نسبيا، ففي المحاكم الجزائية الفرنسية مثلا نجد قضية على اثنان تهم الاغتصاب وفي كلتا الحالتين من ثلاثة يكون المتضرر طفلا.
وحسب وزارة الداخلية الفرنسية نجد أن عدد جرائم الاغتصاب المعلن عنها لدى مصالح الشرطة سنة 1998 هي 7828 وهو عدد أكبر بخمس مرات من العدد المسجل قبل عشرين عاما.
وقد تدلنا هذه الإحصائيات على تفاقم
الجرائم الجنسية ضد الأطفال مع مرور السنين وهذا التفاقم يدل على ارتفاع نسبة الأطفال الذين يعانون من هذه الاعتداءات إلاّ أنّ هذه النسب قد لا تنطبق على جميع بلدان العالم ولكن الأمثلة فقط كافية لحثنا على محاولة التصدي لهذه الظاهرة الأمر الذي لا يمكن البداية فيه دون الإلمام بجوانب موضوع الجرائم الجنسية المرتكبة ضد الأطفال لذا يتحتم علينا تحديد المنهج الذي سيتم اعتماده في هذا البحث.
للجرائم
الجنسية المرتكبة ضد الأطفال وجوه مختلفة للدرس ولكن الإطار الذي سيتم درس الموضوع من خلاله هو الإطار القانوني الجزائي ذلك أنه قد يتعذر التطرق إلى مشكل كالذي تطرحه الجرائم الجنسية المرتكبة ضد الأطفال دون الاطلاع على موقف المشرع التونسي منه وكيف هُيئت النصوص التشريعية لمواجهة هذه الظاهرة .
لقد اهتم المشرّع في بلادنا على غرار غيره من أغلب بلدان العالم بمسألة الاعتداءات
الجنسية عامة والاعتداءات الجنسية الموجهة ضد الأطفال خاصة فكرس ترسانة كاملة من النصوص القانونية المجرمة لهذا النوع من الجرائم وخصص لها مكانة هامة في المجلة الجزائية(١٧) وفي نصوص أخرى متفرقة ولكن التساؤل الذي يطرح في هذا المستوى هو : كيف صنف المشرع التونسي الجرائم الجنسية المرتكبة ضد الأطفال ؟
إنه وبالاطلاع على القوانين المجرمة الإعتداءات
الجنسية ضد الأطفال تمكن من الوقوف عند صنفين رئيسيين من هذه الجرائم،
الصنف الأول هو
الجرائم التي تسلط مباشرة على جسم الطفل والتي يصطلح على تسميها بجرائم الاعتداء الجنسي (فصل أوّل)
و الصنف الثاني هي
الجرائم التي تهدف إلى تحقيق كسب مادي من خلال استغلال الأطفال جنسيا وهي جرائم الاستغلال (فصل ثاني).
الفصل الأول : جرائم الاعتداء الجنسي :
تمثل
الجرائم الاعتداء الجنسي المرتكبة ضد الأطفال في الجرائم المسلطة على جسد الطفل مباشرة فتمس من حرمته وسلامته الجسدية. وبالنظر إلى القانون التونسي نجد أنه يدخل في إطار الجرائم الجنسية المباشرة جرائم المواقعة بنوعيها (مبحث أوّل) والمحاولة في جرائم المواقعة ( مبحث ثاني) .
المبحث الأول : جرائم المواقعة :
يميز المشرع التونسي في المجلة الجنائية بين جريمتين في جرائم المواقعة وهما أولا جريمة المواقعة بدون رضا أو ما يُصطلح بتسميته جريمة الاغتصاب وثاني جريمة المواقعة بالرضا.
وقد خصص المشرع ولكل جريمة من جرائم المواقعة فصلا خاصا بها فجرّم الاغتصاب بالفصل 227 م ج وجرّم المواقعة بالرضا بالفصل 227 مكرر من نفس المجلة لكن المتأمل يلاحظ أن المشرع التونسي لم يقدم تعريفا لكلا الجريمتين فعرفهما الفقه بأنهما "مواقعة الرجل لإمرأة بدون رضاها مع العلم بذلك"(١٨).
وبالرجوع إلى التعريفات المقدمة للجريمتين وبالإطلاع على الأركان المكوّنة لكل منها نلاحظ وجود عناصر مشتركة في مكوناتها (فقرة أولى) غير أن وجود أركان موّحدة بين جريمة المواقعة بالرضا وجريمة المواقعة بدون رضا (الاغتصاب) لا يمنع وجود عوامل مؤثرة في هذه
الجرائم (فقرة ثانية) تكسب كل واحدة منها خصوصياتها المميزة لها عن الأخرى.
الفقرة الأولى : العوامل المؤثرة في جرائم المواقعة :
تشترك جريمتي الاغتصاب والمواقعة بالرضا في ركنين هامين وهما ركن المواقعة (أ) وهو الركن الأساسي الذي تقوم بموجبه كل من الجريمتين والركن المعنوي وهو القصد الإجرامي للجاني (ب).
أ- المواقعة :
تمثل المواقعة الركن المادي في جريمتي الاغتصاب والمواقعة بالرضا. وقد قدمت محكمة التعقيب التونسية تعريفا للمواقعة في القرار التعقيبي عدد 6417 الصادر بتاريخ 16 جوان 1969 (١٩)، والذي بالرغم من كونه قدم تعريف للمواقعة بالرضا للاتحاد الجريمتين في هذا الركن وقد جاء في هذا القرار "أن معنى لفظة المواقعة لا تنصرف بمجرد الفعل الفاحش ولا تقوم إلا إذا كان هناك وطئ بالمكان الطبيعي للأنثى وبطريق الإيلاج".
وينجر عن هذا التعريف بروز اتجاهين لمفهوم المواقعة وهما المفهوم الضيّق والمفهوم الموّسع.
يتمثل المفهوم الأول في أنه لا يمكن الحديث عن مواقعة حسب فقه القضاء التونسي إلاّ متى وجد وطئ بالمكان الطبيعي من الأنثى وعن طريق الإيلاج.
إن هذا التعريف للمواقعة مع حصر الإيلاج في إدخال عضو الذكر من الرجل في فرج المرأة يعطي مفهوما ضيقا للمواقعة ويؤدي إلى نتائج تضييقية على مستوى الحماية خصوصا في جريمة الاغتصاب التي يتم فيها فعل الوقاع دون إرادة المجني عليها.
والجدير بالإشارة هو أن هذا التضييق في مفهوم الاغتصاب يؤدي مباشرة إلى التضييق في حماية الأشخاص ذلك أن حماية المتضرر ولاسيما إذا كان طفلا تقتضي توسيع مفهوم الاغتصاب ليشمل الذكر والأنثى مادامت الغاية النهائية هي حماية المجني عليه (٢٠).
في حين أن الالتزام بالمفهوم الذي قدمته الدوائر المجتمعة للمواقعة يؤدي بنا إلى نتائج لا تخلو من تضييق لمجال الحماية وخصوصا وأنها تحصر الجاني في الذكر والمجني عليها هي دائما أنثى إضافة إلى كون الجريمة لا تقوم إلا متى وقع إيلاج عضو الذكر في فرج الأنثى.
يمكن محور الجدل بين الاتجاه التضييقي والاتجاه التوسيعي لمفهوم المواقعة في مدى اعتبار ممارسة الجنس بواسطة الدلك مواقعة أم لا. ففي حين يعتبره الشق الأول مجرد الاعتداء بفعل الفاحشة نظرا لغياب ركن الإيلاج فإن الشق الثاني التوسيعي يرى أن ممارسة الجنس مع الأنثى عن طريق دلك عضو الذكر بفرجها مواقعة لأن الدلك يستوجب بطبيعته إيلاجا ولو جزئيا بالفرج.
ومنذ ذلك التاريخ استقر فقه القضاء على هذا المفهوم للمواقعة وهو مفهوم تضييقي إلى أن صدر في 1996 قرار تعقيبي يمكن اعتباره تحولا في فقه القضاء وهو القرار عدد 50370 المؤرخ في 26 جوان (٢١)1996 حيث اعتبرت محكمة التعقيب التونسية أن "دلك العضو التناسلي للذكر بمستوى الفرج يترتب عنه حتما إيلاج ولو جزئي وتحصل معه جريمة المواقعة ". هذا القرار أعطى مفهوما جديدا للمواقعة شكّل تحولا في موقف كانت قد استقرت عليه منذ 27 سنة(٢٢).
استمدت المحكمة حجية موقفها من الناحية العلمية ومن روح التشريع ذلك أنه وبالنظر إلى المفهوم الفني والعلمي للمواقعة يتضح أن التكوين البيولوجي للفرج يؤدي إلى أن دلك أي عضو بالفرج ينتج عنه إيلاج جزئي في البداية طالما أن تركيبة ذلك العضو الخلقية تجعل الشفتين البارزتين من الفرج تنتفخ لمجاملته بصورة آلية إلى ذلك العضو الدالك وتمكنه من الولوج وبالتأسيس على ذلك فإن دلك عضو التذكير من الرجل على فرج الأنثى سينتج عنه حتما إيلاج جزئي بالفرج.
في الواقع يقع إثبات الإيلاج بواسطة الفحص الطبي الذي إذا عاين تمزيقا في غشاء البكارة فإن ذلك يسهل عليه إثبات وقوع الإيلاج وذلك سواء كان التمزق كليا أو جزئيا وهذا ما ذهبت إليه محكمة التعقيب في قرارها عدد 180 المؤرخ في 17 جويلية 1976(٢٣).