مبدأ استقلال القضاء
في التشريعات العراقية
المقدمة
استقلال
القضاء هدف خالد يسعى لتحقيق العدالة في المجتمع ، نادت به المجتمعات والشعوب الحرة، التي وقفت بوجه الاستبداد والطغيان، لتشيد بدلا من الأنظمة الشمولية مؤسسات القانون، فأصبحت العدالة صِنوَّ القضاء المستقل الذي اقترن بها، وعند التأمل في النظام الدستوري والقانوني لأي دولة في العالم المتحضر، نجدها تجتمع وتلتئم على مبدأ " استقلال القضاء "، وتتباهى به، وأضحى مبدأً دستورياً وحقاً أصيلاً يرتبط بحماية حقوق الإنسان ، حتى الدول ذات الأنظمة الشمولية، أصبحت تنادي به دفعاً للاستنكار الدولي، أما في العراق نص الدستور الدائم عليه، مثلما ذكر في الدساتير السابقة، وتجد في الدستور مؤشرات على سعي المشرع إلى ضمان استقلال القضاء من خلال النصوص، التي كفلته بشتى الطرق[1]، إلا أن النص على هذا المبدأ دستورياً لا يكفي، بل يجب ترجمته إلى واقع عملي من خلال النصوص التشريعية العادية "القوانين"، ويتجاذب مبدأ استقلال القضاء مؤثرات منها تدخل السلطتين التنفيذية والتشريعية ، لذلك سأعرض في هذه الورقة إلى مفهوم استقلال القضاء ومدى التدخل من السلطات الأخرى بما فيها السلطة القضائية
المطلب الأول:مفهوم
استقلال القضاء في التشريعات
قبل الولوج في معرفة المفهوم لابد من الوقوف على معنى
القضاء في اللغة والاصطلاح ، فالقضاء في اللغة له معان عدة ، كما وردت كلمة القضاء في القران الكريم (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون )[2]، وهذه الاية تدلنا على إن القضاء يكون بمثابة الإلزام الذي لابد من العمل به ويأتي بمفهوم الإمرة، وكذلك له معنى آخر يدل على الحكم والفصل بين شيئين متنازعين أو بين واقعتين وقعتا محلاً لنزاع، وبدلالة قوله تعالى (قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون)[3]. فهذه بعض مما تدل عليه مفردة القضاء في اللغة . أما في الاصطلاح فان كلمة القضاء تعني فض الخصومات والمنازعات على وجه مخصوص وعرفه بعض الفقهاء بأنه قول ملزم يصدر عن ولاية عامة[4]، أما وظيفته فإنها تكمن في العملية القضائية، التي هي مقياس منطقي، مقدمته الكبرى النص التشريعي ومقدمته الصغرى الواقعة محل الخصومة والنزاع ، ونتيجة الحكم الذي يصدره القاضي[5] ، فهذه المعادلة الثلاثية التركيب للوظيفة القضائية توضح بجلاء أن من أهم أركانها النص التشريعي، فان انعدم النص بغض النظر عن مصدره سواء كان القران الكريم أو السنة النبوية أو الاجتهاد أو القوانين الوضعية ، وهذا الركن سيقود إلى إصدار الحكم الذي يمثل النتيجة والخلاصة التي ترتجى من القضاء سواء كان متمثلاً بهيئة محكمة أو قاضي منفرد . وطبيعة هذا العمل تقتضي ان تكون السلطة التي تمارس القضائية تتسم بالاستقلال والحياد وهو جوهر العمل بمبدأ الفصل بين السلطات ، واستقلال السلطة القضائية عن بقية السلطات يعتبر حجر الزاوية في في أي نظام ديمقراطي حر، ويذهب شرّاح القانون إلى تحديد واختزال معنى "استقلال القضاء" في مفهومين الأول شخصي والثاني موضوعي[6].

الفرع الأول:المفهوم الشخصي
يقصد بهذا المفهوم، توفير الاستقلال للقضاة كأشخاص وعدم وضعهم تحت رهبة أي سلطة من السلطات الحاكمة وان يكون خضوعهم لسلطان القانون فقط ، ولتحقيق ذلك حرصت الدساتير على احاطة
القضاء ببعض الضمانات التي من شأنها تحقيق ذلك الهدف ومنها ما ورد في الدستور العراقي الدائم[7]، ويلزم توفير قدر من الضمانات الوظيفية لهم بما يكفل استقلالهم وعلى وجه الخصوص تجاه السلطة التنفيذية، كجعل اختيار القضاء للوظيفة بيد السلطة القضائية، وتوفير الحماية القضائية للقضاة للنأي بهم عن التهم الكيدية من السلطة التنفيذية، وعدم جواز عزلهم بقرار السلطة التنفيذية لعدم إعطائها فرصة للتدخل والضغط بالاتجاه الذي ترغب فيه، ويترك الأمر إلى السلطة القضائية نفسها، وهذا أصبح مبدأ عالمي مهم على وفق ما ورد في الإعلان العالمي لاستقلال العدالة الصادر عن مؤتمر مونتريال في كندا عام 1983م كذلك في المبادئ الأساسية بشأن استقلال القضاء" الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1985م والتي تعتبر الميثاق أو المرجع الدولي بشأن استقلال القضاء حيث نصت في البند الأول :" تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية"[8] ، فأصبح مبدأ استقلال القضاء مبدأ دولي هام يشكل التزاما دولياً على جميع الدول، كما يعني المفهوم الشخصي عدم مسئولية القاضي تأديباً أو مدنياً عن الأخطاء التي تصدر منه أثناء تأدية عمله، إلا إذا وصلت لحد الخطأ الجسيم أو الغش، وذلك لتتوفر له حرية الاجتهاد في إصدار الأحكام وإبداء الآراء ولمنع الدعاوى الكيدية ضد القاضي بالإضافة إلى عدم جعل ترقية القاضي أو راتبه بيد السلطة التنفيذية أو التشريعية، وإنما بيد السلطة القضائية حصرا ، من اجل توفير الحصانة له من التأثير على حياديته، كما إن ذلك سيوفر الحياد السياسي للقاضي، من اجل إبعاد أي تأثير لمصالح حزبية أو فئوية أو سواها.

الفرع الثاني:المفهوم الموضوعي
يقصد به
استقلال سلطة القضاء كسلطة وكيان عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعدم السماح لأي جهة بإعطاء أوامر أو تعليمات أو اقتراحات للسلطة القضائية تتعلق بتنظيم السلطة، كما يعني عدم المساس بالاختصاص الأصلي للقضاء، وهو الفصل في المنازعات بتحويل الاختصاص في الفصل لجهات أخري كالمحاكم الاستثنائية ، أو المجالس التشريعية أو إعطاء صلاحيات القضاء إلى الإدارات التنفيذية، كذلك باعتبار القضاء سلطة وليس وظيفة والمشرع العراقي في ظل النظام السابق جعل من القضاء وظيفة وكرس هذا التوجه في قانون أصلاح النظام القانوني رقم (35) لسنة 1977 ( ... انه لا توجد في الدولة إلا سلطة سياسية واحدة تقوم بوضع السياسة العامة أو الإطار العام للمجتمع من خلال التشريع, ثم وظيفة أدارية ووظيفة قضائية , ولما كانت السلطة واحدة في الدولة فمعنى هذا انتفاء فكرة تعدد السلطات , التشريعية والتنفيذية والقضائية ...) وفي ظل هذا المفهوم للقضاء أخذت شؤون القضاة تدار من وزير العدل بحكم رئاسته لمجلس العدل , ووزير العدل جزء من السلطة التنفيذية فهو مهما سما فأنه يمثل تلك السلطة وينفذ سياستها وهي في الغالب تنطوي على خرق للقانون في كثير الأحيان وتتقاطع مع حقوق المواطن وحريته[9].
عندما جعل من
القضاء وظيفة واعتبرها جزء من السلطة التنفيذية، وباحترام حجية الأحكام الصادرة في تلك المنازعات وعدم المماطلة في تنفيذها أو التحايل في تنفيذها و إلا فقدت الوظيفة القضائية قيمتها واحترامها. كتب الكزاندر هاملتون، أحد واضعي دستور الولايات المتحدة في العدد 78 من مجلة "ذي فدراليست " مدافعاً عن دور النظام القضائي في تشكيل الهيكلية الدستورية، فشدّد على أنه (لا وجود للحرية دون فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وما على الحرية ان تخشى أي أمر يتعلق بالنظام القضائي بمفرده لكن عليها ان تخشى كل أمر إذا ما اتحد القضاء مع أي من السلطتين الأخريين)[10] ، وفي العراق عام 1963 صدر القانون رقم (26) لسنة 1963 قانون السلطة القضائية ولأول مرة يعترف بموجبه بكون القضاء سلطة تقوم إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية وتدار هذه السلطة بواسطة مجلس قضاء يرأسه رئيس محكمة التمييز وهذه المحكمة هي أعلى هيئة قضائية في العراق إلا أن الأمر لم يدم طويلا عندما تم إلغاء هذا القانون بموجب القانون رقم 101 لسنة 1977 وعاد العمل بمجلس العدل الذي يرأسه وزير العدل وأصبح القضاء جزء من السلطة التنفيذية، وخلال هذه الفترة الممتدة ما بين إلغاء مجلس القضاء عام 1977 وإعادة تشكيله في 18/9/2003 كان القضاء يعاني من التدخل في عمله، ويقول القاضي مدحت المحمود رئيس مجلس القضاء الأعلى ( كانت المعاناة القضاة في أداء مهامهم كبيرة تدور ما بين التنقلات غير المبررة والإحالة على وظائف مدنية والعزل والحرمان من ممارسة المحاماة والسجن وسد المنافذ على الطاقات القضائية الفاعلة للحيلولة دون وصول أصحابها إلى المناصب القضائية المهمة لأنها لا تحمل هوية نظام الحكم وانتماءاته , وخلال تلك الفترة أيضا فتح الباب واسعاً أمام عناصر غير مؤهلة للدخول إلى سلك القضاء لأنها تحمل هوية الحكم وأفكاره وانتماءاته،وفي ظل هذه المعاناة انحسر دور القضاء في تحقيق أهدافه في مجال العدالة وسيادة القانون، ولكن بقيت في ضمير كل قاض جذوة الانتصار للحق بوسيلة أو بأخرى , ورغبة جامحة في أبعاد أصابع السلطة التنفيذية من التدخل في شؤون القضاء وعملت قدر المستطاع على أبقاء القضاء مستقلاً في أداء مهامه وكافح القضاة في سبيل ذلك بشكل منظور وغير منظور حتى لحظة سقوط النظام في 9/4/2003 ارتفع الصوت عالياً باستقلال القضاء ليأخذ دوره في ترسيخ سلطة القانون وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة وقد كان للقضاة ذلك حيث أعيد تأسيس مجلس القضاء بالأمر المرقم (35) في 18/9/2003[11].
لذلك ومما تقد نجد أن تحقق المفهومين الشخصي والموضوعي في عمل السلطة القضائية واتحادهم فيها سيؤدي إلى تكوين إطار عملي حقيقي وواقعي لمبدأ
استقلال القضاء وهما صنفان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الأخر.
المطلب الثاني:مفهوم
استقلال القضاء في الإسلام
العراق دولة دينها الرسمي الإسلام وهو مصدر أساس من مصادر التشريع[12] ، لذا كان من الضروري ان نقف عند تعريف الشريعة الاسلامية لمفهوم
استقلال القضاء ، فعرفت الشريعة الإسلامية استقلال القضاء وبسطت له الأرض وأرست قواعده وسعى الفقهاء لدعم القضاء بكل ما من شأنه تحرير القاضي من أية ضغوطات وعدم خوفه في الله لومه لائم ، وبينت بان القضاء (ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين على أشخاص معينين من الناس واثبات الحقوق واستيفائها إلى المستحق)[13]
لذلك فإن للقضاء مهمة عظيمة وجليلة ذكرتها الشرائع السماوية قبل القوانين الوضعية واهتم فقهاء الشريعة الإسلامية في
القضاء اهتمام فاق أي أمر آخر، وجعل البعض من القاضي بمنزلة الأنبياء حيث قال الإمام علي (ع ) إلى شريح القاضي ( يا شريح قد جلست مجلسا ما جلسه إلا نبي أو وصي نبي )[14] كما قدموا للقاضي أمورا لم تكن تعطى لخليفة المسلمين الذي كان يمثل رئيس اكبر دول في العالم في حينه، ونلاحظ إن القران أولى اهتمام بالقضاء، وذكر لنا إن الأنبياء كانوا يحكمون في حل النزاعات بين أقوامهم بقوله تعالى ( كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)[15] وفي قوله تعالى ( وأرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شدشد ومنافع للناس )[16] وبهذه الآيات يتوضح لنا بأن الأنبياء كانوا القضاة في مجتمعهم يحكمون بالعدل في حل النزاعات، كما نهى الرسول الاكرم (ص) عن التدخل في شؤون القضاء بقوله (من أعان على خصومة بظلم ، فقد باء بغضب من الله)[17]، وأفاض فقهاء الشريعة الإسلامية في وضع أحكام تنظم العلاقة بين القضاة وولاة الأمور بما يضمن استقلال القضاء ومن ذلك استبعاد اختياره من قبل المسلمين لما في ذلك من خطر قد يؤثر على سير العدالة.
لذلك يرى بعض الكتاب إن
مبدأ استقلال القضاء كان له حضور واسع في الشريعة الإسلامية ويذهبون إلى عدم وجود أي تأثير من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية ، وفي وقفة الإمام على أمام القضاء مع اليهودي في قضية الدرع وهو الخليفة ، كذلك كان الخليفة عمر رضي الله عنه يرفض أن يقرر للولاة والحكام حصانة ضد القضاء، وفي هذا دليل على احترام هذا المبدأ من قبل الإسلام، ومما حدث آنذاك إن وذلك القاضي ابن عين الدولة يرفض شهادة الملك والأمثلة عديدة وكثيرة قد لا يجد الباحث لها نظير في الدول المعاصرة بل ويزيدون على ذلك بأن القاضي في الإسلام لا يسأل عن خطأه غير المتعمد ، ونفاذ حكم القاضي على الحكام والمحكومين[18]، وهذا لا يتعارض مع الرقابة على القاضي وضمان عدله وأمانته في عمله، فالشريعة الإسلامية وازنت بين ضرورة استقلال القاضي ليتمكن من أداء رسالته ووجود قدر من الرقابة عليه يمثل رادعاً عن الميل والهوى .
المطلب الثالث:استقلال
القضاء في المواثيق الدولية والدساتير الحديثة
¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬لم تقف الحضارة الإنسانية عند إعلان الأفكار، وإنما تطور الأمر إلى سعي مجاميع من الدول إلى إصدار الإعلانات والمبادئ والمواثيق بالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية التي تنادي بهذا
مبدأ استقلال القضاء كدعامة أساسية لنشر العدالة وحماية حقوق الإنسان، فهذه ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تؤكد تصميم شعوب العالم على بيان الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة ومنها "الحق في نظام قضائي نزيه ومستقل" ، وكذلك النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الذي نص على تكوين هيئة المحكمة من قضاة مستقلين ، وفي المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تقرر حق كل إنسان في اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحها على قدم المساواة مع الآخرين وأن تنظر قضية في محكمة مستقلة ومحايدة ، أما العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية فقد نص في مادته الرابعة عشر على مبدأ حيدة واستقلال القضاء ، وقد اجتمعت لجنة من الخبراء بإيطاليا عام 1981م لوضع مشروع مبادئ حول استقلال القضاء ، مما نتج عنه الإعلان العالمي لاستقلال العدالة الصادر عن مؤتمر مونتريال في كندا عام 1983م([19])، لكن أهم تلك المواثيق والإعلانات " المبادئ الأساسية بشأن استقلال القضاء" الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1985م، التي تعتبر الميثاق أو المرجع الدولي بشأن استقلال القضاء حيث نصت في البند الأول ( تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية)، فأصبح مبدأ استقلال القضاء مبدأ دولي مهم يشكل التزام على الدول كافة، اغلب دساتير العالم باتت تعلن مبدأ استقلال القضاء، عدا دساتير الدول الاشتراكية التي لا تعترف بالقضاء كسلطة مستقلة.وفي المادة (10) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، المادة (14) من العهد الدولي لحقوق الإنسان ، ذكر بان الضمان المؤسسي الاول للمحاكمة العادلة إلا تصدر الأحكام عن مؤسسات سياسية ، بل بواسطة محاكم مختصة مستقلة محايدة مُشكَُلة بحكم القانون[20]،