ولا يكتمل الحديث عن عنصر الشـرعية الدولية القائمة على القانون الدولي العام، دون الحديث عمَّا شاع وصفه بالسياسة الواقعية القائمة على التطبيقات المتوافقة حينًا والمتناقضة غالبًا معه، وإن أعطيت وصف القانون الدولي التطبيقي تجاوزا.

وتشير الأمثلة السالفة الذكر إلى أن الدول المعنية تتعامل مع الواقع تعاملاً واقعيًّا، ولا تتخلى في ذلك عن هدف تغييره في الاتجاه الذي يتطابق مع أهدافها التي تتفق أو تختلف مع الشرعية الدولية، فالتعامل الغربي السوفييتي لم يغير مواقف الغرب من البلطيق، حتى إذا حانت اللحظة المناسبة، وتبدلت الظروف الدولية، كان أحد الشروط الرئيسية الغربية لتلبية رغبات روسية، هو استقلال تلك الدول. والتعامل الياباني - الروسي بعد الحرب الباردة لم يسقط من حسابه العمل على تحرير الجزر اليابانية المحتلة، وهذا ما يسري على الأمثلة الأخرى المشابهة.

ونرصد مقابل ذلك خلطًا خطيرًا إلى أبعد الحدود بين الشرعية الدولية وبين السياسة الواقعية في بلادنا العربية والإسلامية، لا سيما في إطار التعامل مع قضية فلسطين. وباتت كلمة "الواقعية" موضع الاستخدام على أوسع نطاق على غرار استخدام كلمة "الشرعية الدولية"، من منطلق التسليم والاستغناء عن حقوق مشروعة ثابتة.

الشرعية الدولية والنظام العالمي

القانون الدولي لا يتغير، يمكن أن يضاف إليه أو أن يتطور إيجابيًّا، أما الأسس التي قام عليها، والمعايير التي نشأت كعصارة للتجارب البشرية التاريخية فهي مستقرة، وهذا ما يسري على العقود الماضية التي كانت نشأة المنظمات الدولية في بدايتها بعد الحرب العالمية الثانية عبارة عن إيجاد قالب تنظيمي لتنفيذ القانون الدولي، وهنا أيضًا يمكن القول إن هذا القالب التنظيمي قابل للتعديل والتغيير في إطار الأسس التي قام عليها، أما أن يصبح هو المصدر لتغيير تلك الأسس فهذا ما يخالف المنطق أولاً، كما يخالف مفهوم الشرعية الدولية المتمثلة في القانون الدولي العام ثانيًا.

والقالب التنظيمي بدءاً بمجلس الأمن الدولي ومرورًا بمحكمة العدل الدولية وانتهاء بالمنظمات الفرعية الحديثة النشوء، يمكن أن يضيف معاهدات واتفاقات إلى رصيد "إنتاج" القانون الدولي، وهذا خاضع بطبيعة الحال لتقلب الظروف، وموازين القوى، والتقديرات البشرية؛ ولهذا يمكن أن يشمل الخطأ والصواب، والحق والباطل، والعدل والظلم، وبتعبير آخر يمكن أن يشمل ما يتفق مع الشرعية الدولية وما يتناقض معها، وما يسري مفعوله بحكم القوة وإن خالفها، وما لا يجد طريقه إلى التنفيذ رغم مطابقته لها، فمن يحكم على ذلك؟

لقد بدأت المخالفة الأولى والأعظم تأثيرًا في مجرى الشرعية الدولية على امتداد العقود التالية، عندما أوجدت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية قالبًا تنظيميًّا جديدًا للقانون الدولي، فانطلقت من واقع القوّة الناجم عن الحرب، والذي تسيطر هي عليه، فعمدت في "شكل التنظيم" إلى العمل على تثبيته، وسدّ الأبواب أمام احتمالات تغييره، أو بتعبير آخر، احتمالات فقدان سيطرتها على هذا القالب التنظيمي إذا ما تبدل الواقع الدولي في قادم الأيام.