هذا ما انعكس أول ما انعكس على مرجعية الحكم بشأن المشروعية الدولية للقرارات والمعاهدات والاتفاقات وغير ذلك من أشكال "إنتاج" المنظمات الجديدة، وكانت محكمة العدل الدولية في لاهاي هي المرشحة لهذا الدور، وهي التي سبقت فكرة تأسيسها الحربين العالميتين، وصدرت عن مؤتمرات السلام في لاهاي في حينه، بجهود بذلتها "رابطة البرلمانيين الدولية" في حينه، فعمدت الدول المنتصرة في الحرب إلى إقرار نظام أساسي للمحكمة الدولية يمنع عنها دور الرقابة التشريعية على مجلس الأمن وسواه، بل ويحول دون أن تتعرض دولة من الدول الدائمة العضوية فيه إلى المحاسبة من منطلق الأسس الشرعية الدولية.

ويمكن على ضوء ما سبق النظر في المخالفات الأخرى المرتكبة في وقت مبكر نسبيًّا، كتثبيت حق النقض/ الفيتو للدول الأقوى بمقياس "واقعية" الوضع القائم بعد الحرب، مع إغفال متعمد لمقياس "واقعية" الوضع الذي يمكن أن يقوم بعد فترة من الزمن.. ويسري شبيه ذلك على المنظمات الأخرى وما تم إقراره من أنظمة ولوائح أساسية لعملها.

الشرعية الدولية قائمة على مبادئ وقيم وأسس بصياغة ثابتة، والواقع العالمي قائم على موازين القوة وعناصر متبدلة متقلبة باستمرار، وتكفي نظرة إلى القرن الميلادي العشرين وما مرّ به من مراحل ما قبل الحربين العالميتين وما بينهما والحرب الباردة وعصر الوفاق الدولي؛ لندرك أن كلمة الواقع القائم أو الواقع الراهن لا تصف إلا لحظة آنية في مجرى التاريخ، وأن اللحظة التالية يمكن أن تسفر عن واقع قائم آخر بمعنى الكلمة.

والمرجعية في الشرعية الدولية غير موجودة في الوقت الحاضر، أو هي غير موجودة في صيغة جهاز أو هيئة دولية بمواصفات كافية تشمل الالتزام بالعودة إلى الأسس الثابتة وتجاوز تأثير موازين القوة المحضة، للحكم على وضع أو إجراء أو نص من النصوص بالتوافق مع الشرعية الدولية أو التناقض معها. وجُلّ ما يمكن الاعتماد عليه في الوقت الحاضر هو الدراسات السياسية المستقلة عن الأجهزة السياسية، أما المنظمات الدولية - وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي - فهي مرجعية "الواقع الدولي"، وهي قائمة كما هو معروف على موازين القوة أولاً وأخيرًا.