الْيَمَامَةُ وَحْدَهَا لا تَبْنِي عُشًّا فَوْقَ شَجَرَةِ تِينٍ




فَزِعَتْ سَالِي إِلَى الْمِرْآةِ ، نَافِضَةً فِرَاشَهَا فِي قَلَقٍ ، نَاظِرَةً إِلَى عَيْنَيْهَا الْعَسَلِيَّتَيْنِ ، مَاسِحَةً
حَبَّاتِ الْعَرَقِ الْمُتَسَاقِطَةَ فَوْقَ جَبِينِهَا ،
لا تَدْرِي لِمَاذَا غَادَرَهَا الرَّجُلُ هَذَا الْمَسَاءَ دُونَ جَرِيرَةٍ اقْتَرَفَتْهَا حِينَ ارْتَدَتْ قَمِيصَهَا الْوَرْدِيَّ ،
وَابْتَسَمَتْ لَهُ غَامِزَةً فِي إِيحَاءٍ أَنْ يَأْتِيَهَا
صَاعِدًا أَشْجَارَ الْجَوَافَةِ الطَّارِحَةَ أَمَامَ نَافِذَةِ
حُجْرَتِهَا الضَّيِّقَةِ 0

تَطُلُّ بِرَأْسِهَا الْمُتْعَبِ ، نَاظِرَةً إِلَى أَشْجَارِ التِّينِ
الْمُتَشَابِكَةِ الَّتِي بَدَأَتْ تَمْنَحُ ثِمَارَهَا الْبُنِّيَّةَ اللَّذِيذَةَ
فِي سَخَاءٍ مَعَ اشْتِدَادِ الْحَرَارَةِ فِي مَوْسِمِ الصَّيْفِ الْحَارِقِ 0

تُدْهِشُهَا تِلْكَ الْيَمَامَةُ الَّتِي تَأْبَى أَنْ تَحُطَّ فَوْقَ أَشْجَارِ التِّينِ خَوْفًا مِنْ أَحْجَارِ الصِّبْيَةِ الْمُتَرَبِّصِينَ بِهَا صَبَاحَ مَسَاءَ فِي انْتِظَارِ لَحْظَةِ أَنْ يُرْهِقَهَا التَّحْلِيقُ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ اللافِحَةِ
إِلَى أَغْصَانِ التِّينِ الظَّلِيلَةِ ، فَيَبْدَؤُونَ ـ سَاعَتَهَا ـ الْمُطَارَدَةَ الْمُثِيرَةَ حَتَّى السُّقُوطِ الأَخِيرِ ، لِتُمْسِيَ وَلِيمَةً شَهِيَّةً لِصَاحِبِ الْبُنْدُقِيَّةِ الَّذِي يَعُودُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى بَيْتِهِ بِصَيْدٍ وَفِيرٍ 0

لا تَمَلُّ الْيَمَامَةُ الْمِسْكِينَةُ مِنَ الطَّيَرَانِ لأَعْلَى فَوْقَ الأَشْجَارِ الْكَثِيفَةِ حَتَّى تَصِلَ سَعَفَ النَّخِيلِ ، لِتَنْعَسَ غَيْرَ آمِنَةٍ بَيْنَ الْجَرِيدِ الْمُرْتَفِعِ عَنْ طَلَقَاتِ الصِّبْيَةِ ، فِي انْتِظَارِ وَاحِدِهَا الَّذِي لا يَأْتِي مِنْ وَرَاءِ السَّرَابِ 0
تُتَابِعُ سَالِي الْمَشْهَدَ كُلَّ غُرُوبٍ عِنْدَمَا يُغَازِلُ
كَرَوَانٌ غَرِيبٌ يُرَجِّعُ أَشْوَاقَهُ ـ قرصَ الشَّمْسِ فِي حُمْرَةِ خَدِّ صَبِيَّةٍ تَبْتِسِمُ لِخَاطِبِهَا فِي خَجَلٍ حِينَ تَرَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَيُغَرِّدُ بُلْبُلٌ بَاكِيًا فَوْقَ غُصْنِ صَفْصَافَةٍ نَحِيفَةٍ فِي مُحَاوَلَةٍ لِلصُّعُودِ فَوْقَ الأَوْجَاعِ 0

لَيْسَتْ تَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِي هَذَا الْكَرَوَانُ الْيَتِيمُ
حِينَ تَرْتَحِلُ الشَّمْسُ مُتْعَبَةً تَجُرُّ أَذْيَالَهَا ، وَتَزْدَحِمُ الآفَاقُ الْبَعِيدَةُ بِخُيُوطِ الشَّفَقِ الْجَرِيحِ مَمْزُوجَةً بِالسَّحَابِ الأَحْمَرِ الْحَزِينِ 0

ـ لِمَاذَا تَبِيتُ الْعَصَافِيرُ وَالْبَلابِلُ وَالْحَمَائِمُ وَالْبُومُ وَالْغِرْبَانُ جَمِيعُهَا فِي أَعْشَاشِهَا آمِنَةً فَوْقَ أَشْجَارِ التِّينِ ، وَالْيَمَامَةُ الْجَمِيلَةُ ـ وَحْدَهَا ـ تَظَلُّ مُطَارَدَةً وَحِيدَةً بَيْنَ سَعَفِ النَّخِيلِ تَدْفَعُ بَرْدَ الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ فِي الشِّتَاءِ الْقَارِصِ ، وَيَلْفَحُ جِلْدَهَا الرَّقِيقَ قَيْظُ الصَّيْفِ فِي غَيْرِ رَحْمَةٍ ؟
لِمَاذَا تَطِيرُ مَذْعُورَةً هَارِبَةً وَحْدَهَا مِنْ نَخْلَةٍ إِلَى نَخْلَةٍ كُلَّمَا تَمَكَّنَ الصِّبْيَةُ مِنَ الصُّعُودِ إِلَيْهَا ،
وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالْيَمَامَاتِ الضَّعِيفَةِ فِي
غَيْرِ شَفَقَةٍ ، يُقَهْقِهُونَ فِي غُرُورِ
الظَّفَرِ بِأَحْلامِهَا الْكَسِيرَةِ ، دَامِيَةً فَوْقَ رِيشِهَا
النَّحِيلِ ؟ 000

تَتَأَمَّلُ ثَانِيَةً فِي الْمِرْآةِ دُمُوعَ عَيْنَيْهَا السَّاكِبَتَيْنِ
كَسَاقِيَةٍ قَدِيمَةٍ تَئِنُّ ، تَتَحَشْرَجُ فِي صَدْرِهَا
الْعَبَرَاتُ ، فِي غَيْرِ مَا تَوَقُّفٍ ، تَرْوِي حُقُولَ الْفُولِ الْخَضْرَاءَ 0

تَتَحَسَّسُ نَهْدَيْهَا الْمُرْتَعِشَيْنِ كَعُنْقُودَي عِنَبٍ
اسْتَوَيَا ، يَتَمَايَلُ ـ مِنْ حَمْلِهِمَا الثَّقِيلِ ـ غُصْنٌ طَرِيٌّ فَوْقَ التَّكْعِيبَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ 0

يَتَشَهَّى الْقَاطِفُ أَنْ يَأْتِيَ لِيُخَفِّفَ عَنْهُ الأَوْجَاعَ سَاعَةَ الأَصِيلِ 0
تَتَذَكَّرُ هَذَا الرَّجُلَ الأَوْلَ حِينَ الْتَقَمَ الْعُنْقُودَ ، فَانْفَرَطَتْ حَبَّاتُ الْكَرْمِ 000
أَحَاطَ التَّكْعِيبَةَ بِالأَسْوَارِ فِي جُنُونٍ حِينَ دَخَلَ اللَّيْلُ كَشَهْوَةِ طِفْلٍ أَدْرَكَهُ بُلُوغٌ 000
يُقْلِقُهُ ـ فِي حَيْرَةٍ ـ أَنَّ عَصَافِيرَ الْجِيرَانِ قَدْ تَأْتِي مِنْ فَوْقِ الأَسْوَارِ 000
يَمْلَؤُهُ الشَّكُّ كَأَشْوَاكِ طَرِيقٍ وَسَطَ الصَّحْرَاءِ
الْقَاحِلَةِ 000

يَنْعَسُ خَلْفَ الْجُدْرَانِ مُنْتَظِرًا عُصْفُورًا قَدْ يَأْتِي حِينَ يَنَامُ 000
لا يَأْتِي الْعُصْفُورُ ، لَكِنَّ الْغَيْرَةَ لا تَرْحَلُ ، تَسْكُنُ قَلْبَ الرَّجُلِ الْخَائِفِ تُطَارِدُهُ كُلَّ مَسَاءٍ 0
تُدْرِكُ ـ فِي لَحْظَةِ صِدْقٍ ـ أَنَّ جَمَالَ يَمَامَتِهَا قَدْ أَفْسَدَ عَقْلَ الْعُصْفُورِ 000
تَسْتَحِيلُ الْحَيَاةُ فَوْقَ الأَشْوَاكِ 000
تَتَزَايَدُ أَوْجَاعُ الرُّوحِ 000
يَضْرِبُهَا فِي قَسْوَةٍ 000
تَبْكِي 000
يَدْخُلُهَا مُرْغَمَةً 000
تَسْتَسْلِمُ مُكْرَهَةً 000
يَخْرُجُ فِي ذُعْرٍ 000
يَجْرِي خَلْفَ الْغِرْبَانِ 000
0000000
0000000
0000000
ـ مَا الَّذِي أَصَابَ الرَّجُلَ يَا رِيمُ ؟
ـ الْغَيْرَةُ وَالشَّكُّ يَا سَالِي وَجَمَالُ الْمَرْأَةِ 0
ـ مَاذَا ؟ !!
ـ جَمَالُ الْمَرْأَةِ قَدْ يُتْعِسُهَا عِنْدَئِذٍ ، وَيُحَطِّمُ عُشًّا تَبْنِيهِ 000 لا يُبْنَى عُشٌّ فَوْقَ غُصُونِ الْغَيْرَةِ وَالشَّكِّ الأَحْمَقِ يَا سَالِي 0
000000
000000
000000
تَسْتَسْلِمُ فِي يَأْسٍ لِلرَّجُلِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ
وَالرَّابِعِ 000 تَحْتَمِي مِنَ الأَوْجَاعِ بِالأَوْجَاعِ
الأَكْبَرِ 000

تَرْتَجِفُ كَبُحَيْرَةٍ تَضْرِبُهَا رِيَاحٌ غَرْبِيَّةٌ 000
تَتَقَاذَفُهَا الأَمْوَاجُ 000

لا تَغْرَقُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ ، وَلا تَنْجُو مِنَ
الْغَرَقِ 000

تَرْتَعِشُ كَعُصْفُورٍ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ فِي لَيْلَةٍ
مُمْطِرَةٍ 000

تَبْكِي فِي حُزْنِ أَسِيرٍ يُجْبِرُهُ الآسِرُ أَنْ يَخْلَعَ
نَعْلَيْهِ ، وَيَمْشِيَ فَوْقَ زُجَاجَاتٍ تَتَكَسَّرُ كُلَّ مَسَاءٍ ، فَلا هُوَ نَالَ الشَّهَادَةَ فَيَسْتَرِيحُ ، وَلا هُوَ عَادَ إِلَى حُضْنِ الأَوْطَانِ فَيَنْجُو 000

000000
000000
000000
ـ مَا الَّذِي أَصَابَ الرِّجَالَ يَا رِيمُ ؟
ـ حِينَ تَتَحَوَّلُ الْمَرْأَةُ الْجَمِيلَةُ إِلَى نُقْطَةِ عَسَلٍ وَاحِدَةٍ تَجْذِبُ حَوْلَهَا ذُبَابَ الْمُسْتَنْقَعِ مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ 0

ـ وَهَلْ أَمْلِكُ إِلا أَنْ أَكُونَ أَنَا ؟
ـ فَدَادِينُ الْحَنْظَلِ يَا سَالِي لا تَجْذِبُ نَحْوَ ثِمَارِهَا الْمُرَّةِ ذُبَابَةً وَاحِدَةً 0
ـ أَنَا لَمْ أَخْتَرْ هَذَا الْوَجْهَ ، وَتِلْكَ الْمَلامِحَ ،
وَذَلِكَ الْجَسَدَ ، وَلَمْ أَجْعَلْهُ يَشُكُّ وَتَتَمَلَّكُهُ الْغَيْرَةُ ، وَلَمْ أَشَأْ أَنْ أُصْبِحَ نُقْطَةَ عَسَلٍ يَشْتَهِيهَا الذُّبَابُ
الْجَائِعُ 000

مَاذَا أَصْنَعُ يَا رِيمُ ؟
تَقْتُلُنِي كَوَابِيسُ اللَّيْلِ 000
تَأْتِينِي الْعَسْكَرُ كُلَّ مَسَاءٍ 000
ـ تَصْبِرِينَ عَلَى الأَقْدَارِ الرَّحِيمَةِ 000
ـ الرَّحِيمَةُ ؟
ـ سَتَأْتِي الرَّحْمَةُ فِي يَوْمٍ حَتْمًا حِينَ يَجِئُ الْفَارِسُ فَوْقَ جَوَادٍ 0
000000
000000
000000
تَدْخُلُ حُجْرَتَهَا غَارِقَةً فِي بُكَائِهَا ، تُدْرِكُ ـ كَيَقِينٍ يَتَجَلَّى بَيْنَ ظُنُونٍ ـ أَنَّ جَمَالَ الْمَرْأَةِ ـ إِنْ فَاقَ ـ يُتْعِسُهُا حَتْمًا حِينَ تَجِئُ الْغَيْرَةُ
وَالشَّكُّ ، وَيُتْعِسُهَا أَكْثَرَ أَنْ تُصْبِحَ صَيْدًا سَهْلاً لِلصِّبْيَةِ حِينَ يُغَطِّي الْقَرْيَةَ ظَلامٌ لا يَهْدَأُ 000 وَعَلَيْهَا أَنْ تَنْأَى بَعِيدًا ـ كِي تَنْجُوَ ـ عَنْ طَلَقَاتِ مُسَدَّسٍ 000

تَسْتَسْلِمُ لِلأَحْلامِ الْهَارِبَةِ لَعَلَّ حُلْمًا قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي مَوْسِمِ الرَّبِيعِ 000
مُرْتَعِشَةً ـ تَطُلُّ بِرَأْسِهَا الْمُلْتَهِبِ مِنَ النَّافِذَةِ ، تَرْقُبُ ثِمَارَ الْجَوَافَةِ الطَّازَجَةِ فِي بَهَاءٍ 0
يَتَخَفَّى الصِّبْيَةُ خَلْفَ الأَشْجَارِ 000
تُغَادِرُ الْيَمَامَةُ جَرِيدَ النَّخِيلِ بَاحِثَةً عَنْ حَبَّاتِ
الْقَمْحِ 000

تَمُرُّ فَوْقَ شَجَرَةِ تِينٍ 000
يَتَأَهَّبُ وَلَدٌ يُمْسِكُ حَجَرًا 000
يَصْهِلُ الْجَوَادُ وَرَاءَ الْحُقُولِ 000
مَدْهُوشَةً ـ تَتَسَاءَلُ سَالِي فِي بَرَاءَةِ الْيَمَامِ :
ـ لِمَاذَا الْيَمَامَةُ الْجَمِيلَةُ وَحْدَهَا لا تَبْنِي عُشًّا فَوْقَ شَجَرَةِ تِينٍ ؟ 0