عِنْدَمَا تَكَلَّمَ تِمْثَالُ لَيْلَى


فِي حُجْرَةٍ مُمْتَلِئَةٍ بِالتَّمَاثِيلِ ـ وَقَفَ مُخْتَارٌ مَبْهُورًا أَمَامَ أَحَدِهَا ، وَقَدِ انْتَصَبَ فِي أَقْصَى الزَّاوِيَةِ الْيُسْرَى ، لا يُصَدِّقُ أَنَهُ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ نَحْتِهِ فِي يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمُذْهِلِ مِنَ الدِّقَّةِ وَالإِحْكَامِ ، حَتَّى يَظُنَّ النَّاظِرُ إِلَيْهِ كَأَنَّ الأَعْضَاءَ تَنْبِضُ ، وَتَدْفَعُ بِحَرَارَتِهَا آخِذَةً بِالأَلْبَابِ 000
لا يَدْرِي لِمَاذَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا لَيْلَى ، فِي حِينِ لَمْ يَتَصَادَفْ
ـ يَوْمًا ـ أَنِ الْتَقَى بِمَنْ تُسَمَّى بِهِ 000
التَّمَاثِيلُ جَمِيعُهَا تُوحِي بِمَقْدِرَةٍ فَائِقَةٍ فِي النَّحْتِ ، وَتَصَوُّرِ الأَبْعَادِ ، وَتَمَثُّلِ الْعَلاقَاتِ بَيْنَ الأَحْجَامِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَإِتْقَانِ عُلُومِ التَّشْرِيحِ وَوَظَائِفِ الأَعْضَاءِ ، وَاخَتِزَانِ الأَلْوَانِ وَتَوْظِيفِهَا ، مَعَ رُوحٍ مُحَلِّقَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى صَهْرِ الْمَشَاعِرِ ، وَتَجْسِيدِ الذِّكْرَيَاتِ ، وَسَكْبِ اللَّمَسَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَالرَّمْزِيَّةِ الْمُدْهِشَةِ 0
000000
000000
000000
يَقِفُ تِمْثَالُ لَيْلَى ـ مِنْ بَيْنِهَا ـ لافِتًا إِلَى مَوْهِبَةٍ بَلَغَتْ كَمَالَهَا ، فَانْصَهَرَتْ فِي تَجْرِبَةٍ تَصْنَعُهَا رُوحٌ ذَاقَتْ ، فَعَرَفَتْ ، فَوَقَفَتْ ، غَائِبَةً ، حَاضِرَةً فِي الْفَضَاءِ ، فَاتَّسَعَتِ الرُّؤْيَةُ وَضَاقَتِ الْعِبَارَةُ 0
000000
000000
000000
يَتَرَاجَعُ خَمْسَ خُطُوَاتٍ ، مُتَأَمِّلاً كَيْفَ يَتَطَايَرُ شَعْرُ لَيْلَى ، مُسْتَجِيبًا لِنَسْمَةٍ خَفِيفَةٍ تَأْتِي مِنَ النَّافِذَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي انْسِيَابٍ حَرِيرِيٍّ ، كَصَفْصَافَةٍ تَغْتَسِلُ عَارِيَةً فَوْقَ شَطِّ تُرْعَةٍ
حَانِيَةٍ 000

يَتَقَدَّمُ مَاسِحًا شَعْرَهَا فِي رِفْقٍ ، سَاحِبًا أَطْرَافَهُ
الذَّهَبَيَّةَ بِالْمُشْطِ فِي نُعُومَةٍ أَسْفَلَ عُنُقٍ فِضِّيٍّ ،
كَكُوزٍ مَرْمَرِيٍّ مُمْتَلِئٍ 0

000000
000000
000000
يَتَرَاجَعُ أَرْبَعَ خُطُوَاتٍ ، تَغْمِزُ لَهُ عَيْنَانِ بُنِّيَّتَانِ
فِي سِحْرٍ لا تُبْطِلُهُ عَصَاهُ ، بَيْنَ جَفْنَيْنِ
نَاعِسَيْنِ يَبْسُمَانِ ، خَلْفَ رُمُوشٍ كَحِيلَةٍ كَسَوَادِ
اللَّيْلِ فِي لَيْلَةٍ مُمْطِرَةٍ فَوْقَ نَجْعٍ حَزِينٍ ،
أَعْلَى وَجْنَتَيْنِ بَارِزَتَيْنِ ، كَتُفَّاحَتَيْنِ نَاضِرَتَيْنِ فِي حُمْرَةِ الأُفُقِ الْجَرِيحِ بَعْدَ الأَصِيلِ ، وَأَنْفٍ شَامِخٍ دَقِيقٍ ، كَحَبَّةِ نَبْقٍ طَازَجَةٍ سَقَطَتْ فِي حَقْلِ الْوَرْدِ الْبَلَدِيِّ فِي مَوْسِمِ الرَّبِيعِ 000

يَتَقَدَّمُ مُسَافِرًا ، مُغَيَّبًا ، يَتَنَقَّلُ دَائِرًا فِي صَحْرَاءَ
شَاسِعَةٍ ، وَقَدْ نَفَدَ الزَّادُ ، وَمَا زَالَ الطَّرِيقُ طَوِيلاً لا يَنْتَهِي 000

000000
000000
000000
يَتَرَاجَعُ ثَلاثَ خُطُوَاتٍ ، تُدْهِشُهُ سَاقَانِ لامِعَتَانِ تَنْتَصِبَانِ تَحْتَ فَخْذَيْنِ مُمْتَلِئَيْنِ مَشْدُودَيْنِ يَحْمِلانِ رِدْفَيْنِ ثَقِيلَيْنِ بَارِزَيْنِ غَارِقَيْنِ فِي قِشْدَةِ الْحَلِيبِ أَسْفَلَ الظَّهْرِ الْمُسْتَقِيمِ 000
يَتَقَدَّمُ ضَاغِطًا يَمْسَحُ زُبْدَتَهَا مُتَّقِدَةً فِي
جُنُونٍ 000

000000
000000
000000
يَتَرَاجَعُ خُطْوَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ مَشْدُودًا بَيْنَ رُمَّانَتَيْنِ نَابِتَتَيْنِ بَمْبِيَّتَيْنِ نَاعِمَتَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، يَفْتَرِقَانِ ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ، فَوْقَ صُرَّةِ
الْمُحِيطِ 000

يَتَقَدَّمُ عَاصِرًا زَبِيبَتَيْنِ قُرْمُزِيَّتَيْنِ ، صَاعِدًا ، هَابِطًا ، كَمَوْجَةٍ غَارِقَةٍ فَوْقَ الأَمْوَاجِ ، حَائِرَةٍ بَيْنَ الشُّطُوطِ 000
000000
000000
000000
يَتَرَاجَعُ خُطْوَةً وَاحِدَةً ، نَاظِرًا إِلَيْهَا ، وَمَا بَلَغَتْ مِنَ الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ ، حَتَّى أَوْشَكَ الْعُصْفُورُ أَنْ يُزَقْزِقَ فَوْقَ أَوْرَاقِ الْوَرْدَةِ النَّادِيَةِ تُبَلِّلُهَا الأَشْوَاقُ إِلَى غُصْنِهَا ، مُتَطَلِّعَةً إِلَى لَحْظَةِ امْتِزَاجٍ يَنْصِهِرَانِ فِيهَا 000
يَتَقَدَّمُ مُلامِسًا ـ فِي حُنُوٍّ ـ رَأْسَ الْعُصْفُورِ ، مُهَدِّئًا مِنْ رَوْعِهِ ، نَافِخًا أَوْرَاقَ الْوَرْدِ الْهَائِجَةَ فِي ثَوْرَةٍ لا تَهْدَأُ ، تُرِيدُ أَنْ تَبُوحَ لِلْغُصْنِ الْمُنْتَظَرِ حِينَ يَأْتِي فَارِسُهَا الأَسْمَرُ فَوْقَ حِصَانِهِ الأَدْهَمِ 0
000000
000000
000000
تَتَقَدَّمُ فِي عُجْبٍ ، تَتَبَخْتَرُ كَنَرْجَسَةٍ ، تَتَمَايَلُ
فِي كِبْرٍ ، رَاقِصَةً ، فَاتِنَةً ، هَامِسَةً ،
مُشْعَلَةً ، فِي جَبَرُوتٍ ، تُشِيرُ إِلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ تَحْتَ الْقَدَمَيْنِ 000

ـ اقْرَأْ خَاشِعًا ، لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ، وَرَتِّلْ بَهَائِيَ
تَرْتِيلاً 0

ـ مَا أَنَا بِقَارِئٍ 000 إِنْ أَنْتِ إِلا نَحْتٌ يُوحَى ، عَلَّمَنَا شَدِيدُ الْقُوَى 0
ـ بَلْ أَنَا رَبُّكَ الأَعْلَى ، وَمَا أَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ بَهَائِنَا بِسُوءٍ 000 ارْكَعْ خَاضِعًا ، وَصَلِ لِحُسْنِيَ وَانْحَرْ !!
ـ مَا أَنَا بِرَاكِعٍ ، وَلا يَنْفَعُنِي حُسْنُكِ شَيْئًا ، وَلا يَضُرُّنِي بَهَاؤُكِ 0
ـ أَنْتَ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ ، جِئْتَ لِتَأْفِكَنِي عَنْ
بَهَائِي 0

ـ بَلْ إِنَّ لَكِ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفِيهِ 0
ـ يَا أَيُّهَا الشَّاعِرْ ، قُمْ فَجَاهِرْ ، بِحُسْنٍ ظَاهِرْ ، وَلا تُكَابِرْ !! أَمْ أَنْتَ مِنَ الْلاعِبِينَ ؟
ـ أُفٍ لِي وَلِمَا صَنَعْتُ مِنْ تَمَاثِيلَ كُنْتُ لَهَا
عَاكِفًا 000

000000
000000
000000
صَرَخَتْ فِي تَحَدٍ مُشِيرَةً إِلَى تَمَاثِيلِ الْحُجْرَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ صَمْتِهَا سَاخِطَةً عَلَى أَقْدَارِهَا ، تَهْتَزُّ أَمَامَ عَيْنَيْهِ نَابِضَةً بِالْحَيَاةِ فِي تَمَرُّدٍ ، تَنْضَمُّ إِلَى لَيْلَى 000
ـ حَرِّقْنَهُ ، وَانْصُرْنَ بَهَائِيَ ، وَأْتِينَ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ !!
000000
000000
000000
تَقَارَبَتْ أَشْجَارُ الرُّمَّانِ ، وَاشْتَعَلَتْ أَوْرَاقُ الْوَرْدِ ، وَأَوْشَكَتِ الْعَصَافِيرُ أَنْ تُغَادِرُ أَعْشَاشَهَا ، وَأَرْدَنَ بِهِ كَيْدًا 000
ـ إِنَّ لَكُنَّ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُلْنَ لا مِسَاسَ ، وَانْظُرْنَ إِلَى بَهَائِهَا الَّذِي ظَلْتُنَّ عَلَيْهِ
عَاكِفَاتٍ 000 لأُحَرِّقَنَّهُ ، ثُمَّ لأَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ
نَسْفًا 000

ـ يَا مُخْتَارُ ، مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ، وَمَا نَحْنُ بِتَارِكَاتِ بَهَائِهَا عَنْ قَوْلِكَ ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنَاتٍ 000
ـ أَشْعِلْنَ النِّيرَانَ فِي حَطَبِ الرُّوحِ ، وَلا تُبْقِينَ
مِنْهُ شَيْئًا 000

ـ إِمَّا أَنْ تَخْضَعَ فِي ذِلَّةٍ ، أَوْ تَمُوتَ تَحْتَ
الأَقْدَامِ !!

ـ بَلْ أَنْتِ وَأَنْتُنَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُنَّ ، وَأَجْعَلَكُنَّ جُذَاذًا إِلا كَبِيرَتَكُنَّ 000
000000
000000
000000
هَوَى عَلَى عَنَاقِيدِ الْعِنَبِ يَسْحَقُهَا تَحْتَ الْقَدَمِينِ ، فَتََتَطَايَرُ حَبَّاتُ الذَّبِيبِ غَاضِبَةً ، وَتَذُوبُ أَشْجَارُ الْمَنْجُو فِي تَعَجُّبٍ مِمَّا يَصْنَعُ 000
ثِمَارُ الْبُرْتُقَالِ اللَّذِيذَةُ تُطَأْطِئُ فِي انْكِسَارٍ ،
تَتَهَاوَى فَوْقَهَا أَغْصَانُ التُّفَّاحِ الشَّهِيِّ ،
وَالْعَصَافِيرُ بِلا أَجْنِحَةٍ تُحَاوِلُ أَنْ تَنْجُوَ تَحْتَ بَقَايَا الأَحْجَارِ 0

كَبُحَيْرَةٍ رَاقِدَةٍ ارْتَفَعَتْ دِمَاؤُهُنَّ تَحْتَ قَدَمَي لَيْلَى ، وَهِيَ تَبْتَسِمُ سَاخِرَةً فِي ثِقَةٍ ، شَامِخَةً فِي كِبْرٍ ، مُعْجَبَةً فِي خُيَلاءَ 000
ـ لَكِنَّكَ سَتَأْتِي ، وَتَمْسَحُ مَا تَنَاثَرَ عَلَى نَهْدَيَّ ، ثُمَّ تَفْتَحُ فَمَكَ ، وَتُسَبِّحُ بِحُبِّي 0
ـ لَنْ أَسْتَسْلِمَ 0
000000
000000
000000
أَشْعَلَتْ بَيْنَ سَاقَيْهَا النَّارَ ، فَاتِحَةً أَبْوَابَ الْجَحِيمِ ، رَافِعَةً أَشْجَارَ الْمَنْجُو ، آَمِرَةً عُصْفُورَ النَّارِ
أَنْ يُزِقْزِقَ فِي اللَّهِيبِ ، وَاثِقَةً مِنْ سُقُوطِهِ
الأَخِيرِ 000

تَرَاجَعَ سَاحِبًا رُوحَهُ مِنْ بُحَيْرَةِ الْحَلِيبِ الآسِنِ ،
مُمْسِكًا بِفَأْسٍ صَغِيرَةٍ ، هَاوِيًا عَلَى ذَيْلِ حُورِيَّةِ
الْبُحَيْرَةِ 000

تَصْرُخُ نَاظِرَةً إِلَيْهِ فِي إِغْوَاءٍ تَسْتَغِيثُ أَنْ
يَكُفَّ 000

تَتَتَابَعُ ضَرَبَاتُهُ فِي إِفَاقَةِ نَحْلَةٍ مَغْمُوسَةٍ فِي عَسَلٍ أَبْيَضَ ، ثُمَّ طَارَتْ نَافِضَةً جَنَاحَيْهَا لِتَهْوِيَ لادِغَةً فِي تَحْلِيقٍ مُسْتَمِرٍّ 000
تَتَسَاقَطُ لَيْلَى عُضْوًا عُضْوًا ، تَتَدَاعَى فِي النِّيرَانِ الْمُشْتَعِلَةِ 000
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ 000
تَتَلاشَى فِي النِّيرَانِ 000
يَسْمَعُ لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ 000
000000
000000
000000
يَتَرَاجَعُ مُنَفِّضًا رَمَادَ يَوْمَيْنِ اثْنَيْنِ كَأَلْفَي عَامٍ
فِي إِصْرَارٍ 000

كَانَتْ نَارُ أَشْجَارِهَا الْمُشْتَعِلَةُ فِي حَطَبِ الرُّوحِ بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى مُخْتَارٍ 000
يَخْرُجُ مُبْتَسِمًا فِي ذُهُولٍ مِمَّا أَشْعَلَ الْحُجْرَةَ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ تِمْثَالُ لَيْلَى 0