مَنْ أَسْقَطَ الْيَمَامَةَ الأَخِيرَةَ
وَهِيَ تُحَلِّقُ فَوْقَ النَّخْلَةِ الشَّاهِقَةِ ؟


عَلَى شَاطِئِ التُّرْعَةِ الْحَزِينِ ، تَدَلَّتْ أَغْصَانُ الصَّفْصَافِ فِي حُنُوٍّ تُلامِسُ تَيَّاراً مُتَدَفِّقًا تُهَدْهِدُهُ رِيَاحٌ خَفِيفَةٌ بَارِدَةٌ تَتَلاقَى فِي دَوَائِرَ تَتَمَاوَجُ
مُتَلأْلِئَةً ، حَتَّى تَتَلاشَى رُوَيْدًا عَلَى الْجَانِبَيْنِ لِتُفْسِحَ لِلأَمْوَاجِ الْمُتَلاحِقَةِ 000

أَشْجَارُ الْكَافُورِ تَتَمَدَّدُ أَمَامَ حُقُولِ الْبِرْسِيمِ ،
كَجَدَّةٍ طَيِّبَةٍ تُرَاقِبُ أَحْفَادَهَا ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَمَامَ بَيْتِ الْعَائِلَةِ فِي بَرَاءَةٍ 000

يَنْعَكِسُ ضَوْءُ الْقَمَرِ شَاحِبًا عَلَى سَطْحِ التُّرْعَةِ ،
كَامْرَأَةٍ تَتَعَافَى أَسْقَطَتْ حَمْلَهَا مُمْسِكَةً بِبَقَايَا
حُلْمِهَا الذَّابِلِ 000

الْمَمَرُّ بَيْنَ الشَّاطِئِ وَالْحُقُولِ ضَيِّقٌ تُغَطِّيهِ الظِّلالُ الْكَثِيفَةُ الْمُتَشَابِكَةُ ، مُوحِيًا بِأَنَّ ثَمَّةَ شَيْئًا مَا سَيَسْقُطُ فَوْقَ الْعَابِرِينَ لا مَحَالَةَ 0
الْغُمُوضُ يَلُفُّ الطَّرِيقَ ، وَالْمَخَاوِفُ الْقَدِيمَةُ تَتَجَمَّعُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ حِينَ يَقِفُ الصِّغَارُ أَمَامَ نَخْلَةٍ تَتَوَسَّطُ أَشْجَارَ الْجَوَافَةِ الَّتِي لَمْ تَعُدْ تَطْرَحُ مِنْ زَمَنٍ مَرَّ وَلَنْ يَعُودَ 0
وَحْدَهَا تَظَلُّ شَاهِقَةً ، تُشْرِفُ عَلَى حُقُولِ الْقَرْيَةِ الْمُتَرَامِيَةِ ، يَتَمَايَلُ سَعَفُهَا فِي خُيَلاءَ ، وَقَدِ امْتَلأَتْ سُبَاطَتُهَا بِالْبَلَحِ الشَّهِيِّ 0
هَذَا الْفَتَى الأَسْمَرُ الْبَرِيءُ ـ وَحْدَهُ ـ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْعَدَ فَوْقَهَا ـ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي نَقَاءِ الْمَلائِكَةِ ـ حَتَّى يُمْسِكَ أَعْلَى السُّبَاطَةِ ، قَاطِفًا رُطَبًا
جَنِيًّا 000

يَتَجَمَّعُ صِبْيَانُ الْقَرْيَةِ كُلَّ صَبَاحٍ أَمَامَ الدَّوَّارِ الْقَدِيمِ مُتَّجِهِينَ إِلَى الشَّاطِئِ الْمَسْحُورِ ، يَتَرَقَّبُونَ ـ فِي شَغَفٍ ـ أَنْ تَتَجَلَّى عَرُوسُ النِّيلِ ، وَهِيَ تَغْتَسِلُ كَاشِفَةً عَنْ سَاقَيْهَا ، وَقَدْ دَنَتْ مِنَ الْكَرْمِ ـ فِي أَعْلَى الْحَقْلِ ـ عَنَاقِيدُ الْعِنَبِ 0
مَذْهُولِينَ ـ تَحْتَ النَّخْلَةِ ـ يُلْقُونَ حِجَارَتَهُمُ الْمُتَتَابِعَةَ ، مُحَاوِلِينَ ـ فِي غَيْرِ يَأْسٍ ـ أَنْ تَصِلَ إِلَى المَرْمَى الأَعْلَى 000
ـ الْيَوْمَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُصِيبَ تِلْكَ الْيَمَامَةَ ، وَأُسْقِطُهَا مِنْ أَوَّلِ رَمْيَةٍ !!
ـ لا أَظُنُّ أَنَّ الْحَجَرَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ كُلَّ هَذَا الْجَرِيدِ ، وَيَصِلَ إِلَيْهَا 0
ـ بَلْ يُمْكِنُنِي الْيَوْمَ 0
يَكْتُمُ أَنْفَاسَهُ ، سَاحِبًا شَهِيقًا طَوِيلاً ، مُسْتَجْمِعًا قُوَّتَهُ إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ، مُلْقِيًا فِي غَيْرِ رَحْمَةٍ ، لَكِنَّ الْحَجَرَ يَصْطَدِمُ بِالْجَرِيدِ الْمُسْتَقِيمِ الْمَرْصُوصِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ 000
ـ حَاوِلْ مَرَّةً أُخْرَى ، فَلَمْ يَبْقَ إِلا هَذِهِ الْيَمَامَةُ تَسْكُنُ تِلْكَ النَّخْلَةَ 0
ـ لَكِنَّ هَذِهِ الْيَمَامَةَ الْمَاكِرَةَ تَسْكُنُ فِي أَعْلَى النَّخْلَةِ مُحْتَمِيَةً فِي السَّعَفِ الْكَثِيفِ وَقَدْ بَنَتْ عُشَّهَا آمِنَةً ، فِي انْتِظَارِ وَحِيدِهَا ، وَلَنْ نَسْتَطِيعَ أَنْ نَصِلَ إِلَيْهَا أَبَدًا 000
ـ لا تَسْتَسْلِمْ !! هَيَّا !! رَكِّزْ هَذِهِ الْمَرَّةَ !!
يَدُبُّ الْوَهَنُ فِي ذِرَاعَيْهِ مُقْسِمًا لِرِفَاقِهِ أَنْ
يُسْقِطَهَا فِي الْيَوْمِ التَّالِي ، فَيَعُودُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ رَاضِينَ بِمَا سَقَطَ مِنَ النَّخْلَةِ الشَّاهِقَةِ مِنْ بَلَحِهَا
الأَحْمَرِ اللَّذِيذِ 000

حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ نَاشِرَةً أَشِعَّتَهَا الذَّهَبِيَّةَ فَوْقَ زَهْرِ الْبِرْسِيمِ الْمُنَوِّرِ فِي ابْتَهَاجٍ ـ يَتَلاقَى الصِّبْيَةُ ثَانِيَةً ، مُشَمِّرِينَ أَذْرُعَهُمُ الْمَفْتُولَةَ ، وَقَدْ أَحْضَرُوا الْحِجَارَةَ الصُّلْبَةَ مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ المُجَاوِرَةِ ، فِي إِصْرَارٍ أَنْ يُصِيبُوا تِلْكَ الْيَمَامَةَ هَذِهِ الْمَرَّةَ 0
يَتَجَمَّعُ الأَطْفَالُ وَرَاءَهُمْ مَبْهُورِينَ يُصَفِّقُونَ فِي تَشْجِيعٍ لِمَنْ يُمْسِكُ الْحَجَرَ ، آمِلِينَ أَنْ يَشْهَدُوا لَحْظَةَ السُّقُوطِ الأَخِيرِ ، مُهَرْوِلِينَ خَلْفَ الْبَلَحِ الْمُتَسَاقِطِ ، مُتَفَادِينَ الْحَجَرَ أَنْ يُصِيبَ رُؤُوسَهُمُ الصَّغِيرَةَ 000
يَتَزَاحَمُونَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مُتَدَافِعِينَ فِي مَرَحٍ يَطْلُبُونَ الْمَزِيدَ مِنْ ثِمَارٍ نَضَجَتْ فَوْقَ
سَاقِهَا 000

يَتَحَاكَى الْفَلاحُونَ ـ لَيْلاً ـ بِهَذِهِ الْيَمَامَةِ الَّتِي تَأْبَى أَنْ تَسْتَسْلِمَ لِلصِّبْيَةِ ، وَقَدْ أَشْعَلُوا النِّيرَانَ فِي كَوْمَةِ حَطَبٍ ، وَوَضَعُوا بُرَّادَ الشَّايِ يَغْلِي فَوْقَ لَهِيبِهَا 000
النِّسْوَةُ فِي الْقَرْيَةِ ـ فِي قَلَقٍ ـ تَدُقُّ صُدُورُهُنَّ ، يُرَاقِبْنَ جَنَاحَيْهَا وَهِيَ تُحَلِّقُ فِي ارْتِيَاحٍ نَحْوَ عُشِّهَا الْبَعِيدِ ، يَخْشَيْنَ أَنْ تَشْغَلَ هَذِهِ الْيَمَامَةُ بَالَ رِجَالِهِنَ ، فَيَنْصَرِفُوا عَنْ رَيِّ الْحُقُولِ الظَّمْأَى كُلَّ مَسَاءٍ 000
تَجَمَّعَ الصَّيَّادُونَ يَحْمِلُونَ بَنَادِقَهُمْ ، مُتَرَبِّصِينَ وَرَاءَ شَجَرِ الْجُمَّيْزِ ، مُنْتَظِرِينَ لَحْظَةَ أَنْ تَحُطَّ فَوْقَ الْجَرِيدِ 000
فِي دَهْشَةٍ ـ يَرَاهَا الْوَاقِفُونَ قَرِيبَةً وَاضِحَةً ، كَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى إِسْقَاطِهَا ، غَيْرَ أَنَّ الطَّلَقَاتِ الْمُتَتَابِعَةَ لا تَصِلُ إِلَيْهَا مُرْتَدَّةً إِلَى الأَرْضِ فِي انْثِنَاءٍ 0
000000
000000
000000
فِي صَبَاحٍ دَافِئٍ كَصَدْرِ صَبِيَّةٍ لَيْلَةَ دُخْلَتِهَا ـ اسْتَيْقَظَ الصِّبْيَةُ مُتَّجِهِينَ إِلَى الْحُقُولِ ، مُتَرَقِّبِينَ مُحَاوَلَةً جَدِيدَةً لِصَيْدِ الْيَمَامَةِ الْمُحَلِّقَةِ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ ـ فِي ذُهُولٍ ـ يَجِدُونَ الْعُشَّ مُلْقَىً تَحْتَ جِذْعِ النَّخْلَةِ ، وَقَدْ تَنَاثَرَ ـ حَوْلَهُ ـ النَّوَى وَبَقَايَا الْحِجَارَةِ الْمُتَكَسِّرَةِ ، وَلَمْ تَعُدْ تُحَلِّقُ
الْيَمَامَةُ فَوْقَ الْجَرِيدِ 000

تَسَاءَلَ الأَطْفَالُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ :
ـ مَنْ أَسْقَطَ الْيَمَامَةَ الأَخِيرَةَ وَهِيَ تُحَلِّقُ فَوْقَ النَّخْلَةِ الشَّاهِقَةِ ؟ 0