ثالثا


آثار الدفع بالنظام العام :


هناك عدة آثار تترتب على استعمال القاضى للدفع بالنظام العام فى مواجهة القانون الأجنبي الذي أشارت لتطبيقه قاعدة الإسناد الوطنية.
الأثر السلبي: استبعاد القانون الأجنبي:
فالهدف من فكرة النظام العام هو حماية المبادئ العليا والأسس الجوهرية التى يقوم عليها مجتمع دولة القاضي عن طريق استبعاد القانون الأجنبي الذي يكون من شأن تطبيقه تهديد هذه المبادئ والأسس.
ويثور التساؤل عن مدى استبعاد القانون الأجنبي: هل نستبعد القانون الأجنبي برمته أم نقتصر على استبعاد الجزء المتعارض فعلا من النظام العام الوطني فى هذا القانون؟
يرى جانب من الفقه أن القاضي يتعين عليه أن يستبعد القانون الأجنبي فى جميع أحكامه فطالما تعارضت أحد هذه الأحكام مع النظام العام الوطني فلا مفر من وجوب استبعاد القانون الأجنبي برمته. ويستند هذا الفريق إلى القول بأن القانون الأجنبي كل لا يتجزأ فلا يصبح للقاضي أن يستبعد قاعدة معينة بحجة التعارض مع النظام العام ويطبق القواعد الأخرى فى ذلك القانون. والقول بغير ذلك ينطوي على مساس بوحدة القانون الأجنبي، وقد يقود إلى تشويه ومسخ هذا القانون، وتطبيقه فى غير الأحوال التى أراد المشرع الأجنبي تطبيقه فيها.
غير أن غالبية الفقه ترى وجوب أن يكون الاستبعاد فى الحدود اللازمة للمحافظة على مقتضيات النظام العام ، أي أن هذا الاستبعاد يجب أن يكون استبعادا جزئيا فقط ينصب على القاعدة الأجنبية المخالفة دون باقي القواعد. ذلك أن أعمال الدفع بالنظام العام لا يهدف إلى إصدار حكم قيمى على القانون الأجنبي فى ذاته وإنما يهدف إلى تجنب تحقق النتيجة المنافية للنظام العام التى يقود إليها تطبيق بعض قواعد القانون الأجنبي فإذا كان بالمقدور تجنب هذه النتيجة باستبعاد جزء من القانون الأجنبي. فقط ، كان من غير الضروري استبعاد تطبيق أحكام القانون الأجنبي الأخرى التى لا تتعارض مع النظام العام.
وعلى هذا فإذا كان القانون الأجنبي يجيز زواج المسلمة بغير مسلم، فإنه يجب على القاضي الإماراتي استبعاد هذا القانون فى جملته لمخالفته للنظام العام فى الإمارات، أما إذا كان القانون الأجنبي الواجب التطبيق فى الميراث يسوى بين الابن والبنت المسلمين فى الميراث لوجب استبعاد حكم هذا القانون الأجنبي فيما يتعلق بنصيب كل من الابن والبنت مع الإبقاء على سائر أحكام القانون الأجنبي بالنسيبة لبقية قواعد الميراث.
وهكذا يجب على القاضي أن يتذكر دائما أن الدفع بالنظام العام هو وسيلة استثنائية لمنع تطبيق القانون الأجنبي الذي أشارت له قاعدة الإسناد الوطنية، ومن ثم فلا يجب استعماله إلا بقدر وفى حدود ضيقة فهو دواء لداء، ويجب أن يقدر الدواء بقدر الداء.
الأثر الإيجابي:تطبيق قانون القاضي:
إذا استبعد القاضي الجزء المخالف من القانون الأجنبي ، فوفقا لأي قانون يفصل فى النزاع؟
إذ يترتب على هذا الاستبعاد وجود فراغ قانوني يتحتم سده. ذهب جانب من الفقه إلى القول بأن حماية توقعات أطراف العلاقة ذات الطابع الدولى خاصة الطرف الضعيف فيها واحترام قاعدة الإسناد الوطنية التى تعقد الاختصاص للقانون الأجنبي، يفرضان البحث فى القانون الأجنبي نفسه من قاعدة أخرى لحكم النزاع، خصوصا وأن القاضي لا يستبعد القانون الأجنبي برمته فهو يظل واجب التطبيق فى أحكامه الأخرى.
وقد أخذت بالفعل بهذا الرأي أحدى المحاكم الألمانية ، إذ قضت محكمة الرايخ الألماني فى حكم شهير لها بتاريخ19 ديسمبر 1922 بأن استبعاد أحدى قواعد القانون السويسري الواجب التطبيق والتى تقرر عدم تقادم نوع معين من الديون، لمخالفتها النظام العام الألماني، لا يستتبع احلال القواعد الألمانية الخاصة بالتقادم محل القاعدة المستبعده، بل ينبغي البحث فى القانون السويسري نفسه عن قاعدة أخرى خاصة بالتقادم . وبالفعل أخذت المحكمة بالقاعدة التى تقرر أطول تقادم فى القانون السويسري
ولا نجد صدى تشريعي لهذا الرأي إلا فى التشريع البرتغالي حيث تقضي المادة 22/2 من القانون المدني هناك على أنه فى حالة استبعاد أحدى قواعد القانون الأجنبي المختص نتيجة أعمال الدفع بالنظام العام يجب على القاضي أن يبادر بالبحث فى هذا القانون عن أكثر القواعد ملائمة للتطبيق على النزاع بدلا من القاعدة المستبعدة. فإذا لم يجد قاعدة ملائمة، كان له عندئذ فقط أن يطبق قواعد القانون البرتغالي.
ويذهب جانب من الفقه الأمريكي إلى أنه فى حالة استبعاد القانون الأجنبي لمخالفته للنظام العام فإن القاضي لا ينبغي له أن يستمد حله من قانونه الوطني وإنما يجب عليه أن يسعى لحكم يوفق فيه بين حكم القانون الأجنبي المستبعد وحكم قانونه. ويضرب هذا الفقه المثل على هذا الحكم التوفيقي jugement de mediahion بالقول بأنه إذا كان القانون الأجنبي يخالف النظام العام لأنه لا يقضي بالتعويض فى حالة النقل التبرعي وكان قانون القاضي يحدد هذا التعويض بمبلغ محدد وجب على القاضي حسم النزاع بتقرير نصف هذا المبلغ للشخص الذي لحقه الضرر من جراء النقل التبرعي.
ويبدو لنا مع الفقه الغالب أن تطبيق قانون القاضي محل القانون الأجنبي الذ تم استبعاده هو أسلم الحلول.
وهذا هو الحل الذي كرسته كثير من النظم القانونية كالنظام القانوني الفرنسي والنظام القانوني المصري.
ومن التشريعات الحديثة التى كرست هذا الحل صراحة مجموعة القانون الدولي الخاص النمساوي (م6) ومجموعة القانون الدولي الخاص بجمهورية ألمانيا الديمقراطية (م6) والقانون الدولي الخاص المجري.
وقد يحدث أحيانا ألا يمكن احلال قانون القاضي محل القانون الأجنبي لعدم وجود أحكام فى القانون الأول يمكن تطبيقها على النزاع.
فى هذه الحالة ذهب القضاء إلى خلق هذه الأحكام مسترشدا فى ذلك بمبادئ القانون الطبيعي . ففى قضية تتعلق بتوزيع تركة سوفيتي كان القانون الواجب فيها هو القانون السوفيتي الذي لا يعترف بالحق فى الميراث فطبقت محكمة طنجة المختلطة القانون الروسي القديم السائد قبل الثورة البلشفية والذي يعترف بالملكية الفردية ويقرر حق الميراث.
الأثر المخفف للنظام العام:
يختلف أثر الدفع بالنظام العام بحسب ما إذا تعلق الأمر بإنشاء مركز قانوني فى بلد القاضي أو بالتمسك فى بلد القاضي، بمركز قانونى نشأ فى الخارج ، ذلك أن الشعور العام فى دولة القاضي لا يتأثر إزاء مركز أو علاقة تكونت فى الخارج ويراد الاعتراف ببعض آثارها فى هذه الدولة بنفس القدر الذي يتأثر به إذا ما أريد انشاء نفس المركز أو العلاقة داخل إقليم دولة القاضي.
مثال ذلك أن يثور إمام القاضي الفرنسي نزاع حول نفقة زوجية تطالب بها الزوجة الثانية لزوج مسلم. بالطبع يعد انشاء الزواج الثاني لأول مرة فى فرنسا أمرا مخالفا للنظام العام الفرنسي ويستلزم الحكم ببطلانه. ولكن إذا كان هذا الزواج الثاني قد أبرم خارج فرنسا فإن مجرد امتداد آثاره إلى فرنسا لن يخدش الشعور العام بنفس الدرجة.
لذلك يصاب النظام العام بنوع من "الشلل الجزئي" على حد تعبير د. أحمد عبد الكريم فلا يمكن للقاضي الفرنسي أن يقضي ببطلان هذا الزواج الثاني. والأمثلة على الأثر المخفف للنظام العام كثيرة. فقد جرى القضاء الفرنسي على اعتبار الشركة التى تؤسس فى الخارج من شخص وأحد صحيحة فى فرنسا بالرغم من أن المشرع الفرنسي لا يسمح بتكوين هذه الشركة فى فرنسا لمخالفتها للنظام العام. كذلك جرى القضاء فى العديد من الدول على السماح لمراكز قانونية تم نشوئها بالخارج كأنهاء رابطة الزوجية بالتطليق مثلا بانتاج آثارها داخل إقليم دولة القاضي رغم أن تلك المراكز ما كانت لتنشأ فى دولة القاضي لاصطدامها بالنظام العام لها، وذلك فى حالة ما إذا كان النظام القانوني لدولة القاضي لا يسمح بإنهاء رابطة الزوجية بالتطليق على الاطلاق، كما كان الحال فى إيطاليا قبل سنة 1975، أو لأن هذا النظام يتضمن أسبابا محددة للتطليق ولم يستند التطليق الذي تم بالخارج على أي منها.
ويفسر الأثر المخفف للنظام العام فى هذه الأمثلة بضرورة احترام الحقوق التى تم اكتسابها بطريقة صحيحة فى الخارج وفقا لقانون أجنبي فاحترام هذه الحقوق هو الذي يدفع القضاء الفرنسي إلى الاعتراف فى فرنسا بآثار الزواج الثاني الذي أنشئ فى الخارج وما يترتب على ذلك من تقرير حق الزوجة الثانية فى الإرث وحقها فى نفقة الزوجية ، فى حين أن نفس القضاء كان سيقضي ببطلان الزواج الثاني لو أنشئ فى فرنسا.
كذلك فإن احترام الحقوق المكتسبة هو الذي يدفع هذا القضاء إلى تقرير صحة شركة الشخص الوأحد التى تكونت خارج فرنسا بالرغم من أن القانون الفرنسي لا يسمح بإنشاء هذه الشركة قى فرنسا لمخالفتها للنظام العام.

منقول