استبعاد تطبيق القانون الأجنبي إعمالا للدفع بالنظام العام



لايضاح أحكام الدفع بالنظام العام فى النظرية العامة لتنازع القوانين يجب التعرض للمقصود بالنظام العام وبيان شروطه وأخيرا آثاره.

أولا: المقصود بالدفع بالنظام العام:


مضمون فكرة النظام العام عموما:
تعتبر فكرة النظام العام من الأفكار الجوهرية فى علم القانون بوجه عام وتستعمل تلك الفكرة فى القانون الداخلي للاشارة إلى القواعد الأمرة التى لا يمكن للأفراد مخالفة حكمها باتفاق خاص، فيقال أن تلك القاعدة تتعلق بالنظام العام بمعنى أنه لا يمكن مخالفتها. فالنظام العام يعد قيدا على سلطان إرادة الأطراف ويصاحب القاعدة القانونية لكي تحقق فعاليتها والهدف منها. وهدف النظام العام هو حماية المبادئ والأسس الجوهرية التى يقع فيها المجتمع سواء كانت تلك المبادئ والأسس اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية . وفى القانون الدولي الخاص يتلخص دور النظام العام فى منع تطبيق القانون الأجنبي، الذي عقدت قاعدة الإسناد الوطنية له الاختصاص ، إذا كان من شأن تطبيق الأحكام الموضوعية لهذا القانون المساس بالأسس والمبادئ التى يستند إليها المجتمع الوطني. لذلك درج الفقه التقليدي على التفرقة بين ما أسماه بالنظام العام الداخلي وما أسماه بالنظام العام الدولي، وهو يقيم هذه التفرقة على اختلاف الوظيفة التى يضطلع بها النظام العام فى مجال القانون الدولي الخاص ففى القانون الداخلي يتكفل النظام العام بابطال اتفاقات الأفراد المخالفة للقواعد الأمرة لذلك يبدو النظام العام فى هذا الصدد وعلى حد تعبير الدكتور أحمد عبد الكريم كحليف أو كحامٍ للقاعدة القانونية الوطنية أما فى مجال العلاقات الخاصة الدولية أو القانون الدولي الخاص فإن النظام العام يضطلع باستبعاد القانون الأجنبي بالرغم من أنه القانون الواجب التطبيق على النزاع بمقتضى القانون الوطني. لذلك يبدو النظام العام فى هذا المجال كرقيب على القاعدة القانونية الأجنبية.
مضمون فكرة النظام العام فى مجال العلاقات الخاصة الدولية:
بذل الفقه جهودا كبيرة لوضع ضوابط يمكن عن طريقها تحديد ما إذا كان القانون الأجنبي يتعارض مع النظام العام فى قانون القاضي أم لا فذهب جانب من الفقه إلى القول باستبعاد القانون الأجنبي استنادا لفكرة النظام العام إذا كان فى تطبيق هذا القانون مساس بمبادئ العدالة الدولية أو بمبادئ القانون الطبيعي أو بالمبادئ العامة المتعارف عليها فى جماعة الأمم المختصرة.
ويذهب جانب آخر من الفقه إلى القول باستبعاد القانون الأجنبي إذا كان يشتمل على نظم قانونية يجهلها قانون القاضي ويؤخذ على هذا الرأي تطرفه إذ أن تطبيق قانون غير معروف فى دولة القاضي لا يؤدي بالضرورة إلى المساس بالأسس والمبادئ الجوهرية السائدة فى دولة القاضي.
ويذهب جانب آخر من الفقه فى محاولة تحديد مضمون فكرة النظام العام فى مجال القانون الدولي الخاص مذهبا آخر. إذ يرى أن القانون الأجنبي يعد مخالفا للنظام العام فى دولة القاضي إذا تعارض مع السياسة التشريعية لتلك الدولة حتى ولو كان هذا القانون لا يتعارض مع مبادئ العدالة أو مبادئ القانون الطبيعي أو المبادئ العامة المتعارف عليها فى الأمم المتحضرة . فإذا كان تطبيق القانون الأجنبي يحول دون تحقيق أحد الأهداف الهامة التى يرمي تشريع دولة القاضي إلى تحقيقها كان للقاضي أن يستبعد تطبيق هذا القانون.
ويمكن أن نعرف النظام العام فى مجال العلاقات الخاصة الدولية مع جانب من الفقه المصري ، بأنه دفع يتم بمقتضاه استبعاد تطبيق القاعدة القانونية فى القانون الأجنبي بحكم العلاقة وفقا لقاعدة الإسناد الوطنية إذا كان حكم هذه القاعدة يتعارض مع المبادئ والأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية التى يقوم عليها النظام القانوني فى مجتمع دولة القاضي.
وقد نص المشرع الإماراتي فى المادة من القانون المدني على الدفع بالنظام العام بتقريره أنه "لايجوز تطبيق أحكام قانون أجنبي عينته النصوص السابقة إذا كانت هذه الأحكام مخالفة للنظام العام أو للآداب فى مصر"
وهو نص له قرين فى تشريعات القانون الدولي الخاص المقارنة مثل المادة 4 من مجموعة القانون الدولي الخاص التشيكي لعام 1963، والمادة 6 من القانون الدولي الخاص النمساوي لعام 1979، والمادة 4 من قانون جمهورية ألمانيا الديمقراطية لسنة 1975، والمادة 12/3 من الباب التمهيدي للقانون المدني الأسباني فى خصوص القانون الدولي الخاص لعام 1974، والمادة 5 مجموعة القانون الدولي الخاص التركي لعام1982.

ثانيا


شروط الدفع بالنظام العام


ينبغي توافر شرطين لامكان أعمال الدفع بالنظام العام:
الشرط الأول :
وهو أن تشير قاعدة الإسناد إلى تطبيق قانون أجنبي معين على النزاع، وعلى ذلك لا يتصور أعمال الدفع بالنظام العام إذا كان القانون الواجب التطبيق هو القانون الوطني ، وذلك حتى فى حالة وجود تنازع قوانين داخلي، بحسبان أن كافة هذه القوانين صادرة من مشرع دولة وأحد. أما إذا كانت الدولة مقسمة إلى وحدات تشريعية مستقلة فمن المتصور وجود اختلاف فى الأسس والمبادئ الجوهرية التى يقوم عليها النظام القانوني فى كل وحدة من هذه الوحدات التشريعية مما يبرر أعمال النظام العام بمفهومها فى القانون الدولي الخاص، ويمكن التمثيل على ذلك بمنع الزواج بسبب اختلاف اللون، فإذا ما تقرر هذا المانع فى أحدى الولايات الأمريكية وأراد أمريكي أسود الزواج من بيضاء فى ولاية أخرى لا تعتد بهذا المانع فمن الممكن استبعاد قانون الولاية الأولى باعتباره مخالفا للنظام العام.
الشرط الثاني:
تعارض ومخالفة أحكام القانون الأجنبي لمقتضيات النظام العام فى دولة القاضي: وهذا ما يبرر استبعاد القانون الأجنبي، فالمشرع الوطني حينما أشار فى قاعدة الإسناد إلى تطبيق قانون أجنبي لم يقصد أن يطبق هذا القانون أيا كانت النتيجة المترتبة على ذلك وإنما يتعين ألا يمس ذلك التطبيق بمقتضيات النظام العام فى دولته. ويترك للقاضي المختص تقدير مدى تعرض القانون الأجنبي مع مقتضيات النظام العام فى دولته وله أن يسترشد فى ذلك بعدم تعارض القانون الأجنبي مع مقتضيات النظام العام فى دولته وله أن يسترشد فى ذلك بعدم تعارض القانون الأجنبي مع الأسس الجوهرية للنظام القانوني الوطني كما تحميه النصوص والقواعد الأمرة المنظمة للسياسة الاقتصادية والاجتماعية لدولته.
وإذا كان على القاضي أن يلجأ فى تقدير مدى تعارض أحكام القانون الأجنبي مع مقتضيات النظام العام فى دولته إلى معيار موضوعي فهو لابد أن يتحرر من التفسير الموسع لفكرة النظام العام، وذلك للنتائج الخطيرة التى تترتب على استعمال هذه الفكرة . فالغلو فى اللجوء للدفع بالنظام العام يضر بالتعايش المشترك بين النظم القانونية وهو الهدف الرئيسي لعلم تنازع القوانين ، كما يخل بتوقعات الأفراد المشروعة فى مجال التجارة الدولية لأنه يحول دون أعمال القانون الذي يحفظ هذه التوقعات.
وقد أكدت محكمة النقض المصرية شرط مخالفة القانون الأجنبي لمقتضيات النظام العام عندما أكدت فى حكمها الصادر فى 19 يناير 1977" أن المقرر فى قضاء هذه المحكمة أنه لا يجوز استبعاد أحكام القانون الأجنبي الواجب التطبيق وفقا للمادة 28 من القانون المدني إلا أن تكون هذه الأحكام مخالفة للنظام أو الآداب فى مصر بأن تمس كيان الدولة أو تتعلق بمصلحة عامة وأساسية للجماعة" وقد أكدت ذات المحكمة نفس هذا المعنى فى حكم حديث لها صادر فى 2 يوليو 1979 بخصوص ميراث بين مسيحي ومسلم من لبنان.
وإلى جانب الشرطين المتقدمين يذهب الفقه والقضاء فى ألمانيا إلى أنه يتعين لامكان الدفع بالنظام العام فى مجال العلاقات ذات الطابع الدولي أن توجد صلة كافية بين النزاع وبين دولة القاضي. فما دام اختصاص القانون الأجنبي قد انعقد نظرا لصلة هذا القانون بالنزاع فإنه لا ينبغي سلب الاختصاص من هذا القانون بحكم النزاع نتيجة الدفع بالنظام العام فى دولة القاضي إلا إذا كانت هناك صلة كافية بين النزاع والنظام القانوني لدولة القاضي، فإذا كانت هذه الصلة منبتة كان من غير الجائز اعمال القاضي لفكرة النظام العام لأن النزاع لا يعني دولته فى شئ.