مشكلة المرور عبر مضايق تيران
في ضوء أحكام القانون الدولي ومبادئ معاهدة السلام

****************************


استطاعت مصر أن تبني أول لبنة في صرح سلام الشرق الأوسط بتوقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية في 26 مارس 1979التي تضمنت مبادئ السيادة الإقليمية لكل دولة وحقها في أن تعيش في سلام داخل حدود معترف بها . وإيماناً بأن هذه المعاهدة فتحت آفاقاً جديدة نحو عصر السلام ، أتقدم بهذا البحث المتواضع لأتناول فيه معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية من حيث معالجتها لمشكلة الملاحة في الممرات البحرية المصرية وبصفة خاصة مضايق تيران وخليج العقبة ، إذ أفردت لها المعاهدة مادة كاملة من موادها التسع التي اشتملت عليها .
عرض تاريخي :
أُنشأت مدينة العقبة في العصور القديمة شمال غرب الجزيرة العربية وسكن العرب من قبيلة بني عمران الساحل الشمالي ، وحرر العرب المنطقة الساحلية في شمال خليج العقبة . وقد سارعت بريطانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وأنشأت حدود الانتداب في فلسطين وبمقتضاها أصبحت إيلات داخلة في الانتداب وأنشأت إمارة شرق الأردن وضمت إليها ميناء العقبة. وعقب توقيع إسرائيل اتفاقية الهدنة مع مصر في 24 فبراير سنة 1949 ، احتلت قرية أم الرشراش وأقامت عليها ميناء إيلات مخالفة بذلك نصوص هذه الاتفاقية. في 25 يونيه 1952 أعلنت إسرائيل رسمياً أن إيلات أصبحت ميناء إسرائيلياً.

أولاً : مشكلة الملاحة عبر مضايق تيران قبل معاهدة السلام :
يبلغ عرض خليج العقبة من 12 إلى 17 ميل وطول ساحله 230 ميل ، يمتد 125 ميل في مصر و95 ميل في السعودية و4 أميال في الأردن و6 أميال في أراضي تحتلها إسرائيل . وتقع مضايق تيران في مدخل خليج العقبة جنوباً عند التقائه بالبحر الأحمر ، ويبلغ عرضها من الساحل السعودي إلى الساحل المصري 7 أميال بحرية تقريباً . ونظراً لوجود مجموعة صخور وشعب مرجانية في هذا المدخل يوجد ممران للملاحة : الأول قريب من الساحل المصري مباشرة في شبه جزيرة سيناء في منطقة رأس نصراني وشرم الشيخ ويسمى ممر الإنتربرايز وهو الوحيد الصالح للملاحة ويبلغ الجزء الصالح للملاحة فيه 500 ياردة تقريباً ، ويعد هذا الممر خاضعاً للسيادة الإقليمية المصرية باعتباره جزء من المياه الإقليمية المصرية. أما الممر الثاني يسمى ممر جرافتون وهو الأقرب لجزيرة تيران وغير صالح للملاحة.
وقد أقرت اتفاقية جنيف للبحر الإقليمي والمنطقة المتاخمة لسنة 1958 مبدأ المرور البريء في المضايق التي تصل بين جزء من أعالي البحار وبين جزء من البحر الإقليمي ونصت عليه في الفقرة الرابعة من المادة ( 16). وقيل بأن هذا النص وضع ليواجه حالة مضيق تيران ، وبالتالي لا يجوز إيقاف المرور البريء عبر هذا المضيق. ولكن هذا القول مردود عليه بأن هذا النص إنما ينطبق على الممرات المستعملة للملاحة الدولية ، ومضيق تيران آنذاك ومن قبل لم يكن مستعملاً للملاحة الدولية. وجاءت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982 لتعدل عن مسلك العرف الدولي واتفاقية جنيف لعام 1958 في معالجة الوضع القانوني للمضايق، حيث استبدلت بحق المرور البريء حق المرور الحر أو العابر ؛ لتكفل ضمان حرية المرور في المضايق الدولية وتحليق الطيران فوقها في ظل نظام يماثل حرية الملاحة في أعالي البحار أو يقترب منه. وجاء النص الأخير من الاتفاقية بحق جديد يعرف بالمرور العابر ويقتصر تطبيقه على المضايق التي تربط بين جزء من البحار العالي أو منطقة اقتصادية خالصة . أما حق المرور البريء التقليدي فقد رؤى الإبقاء عليه بالنسبة للمضايق التي تربط بين جزء من البحار العالية وبحر إقليمي لدول أجنبية . وبالتالي يكون هذا النص جعل من القاعدة العامة التي كانت متبعة على المرور في المضايق الدولية ـ مبدأ المرور البريء ـ استثناء حيث أصبحت القاعدة العامة هي المرور العابر.
(أ) مبدأ المرور العابر :
عرفت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982 المرور العابر بأنه ممارسة حرية الملاحة والتحليق لغرض واحد هو العبور المتواصل السريع في المضيق بين رقعة من البحار العالية أو منطقة اقتصادية خالصة ، ورقعة أخرى من البحار العالية أو منطقة اقتصادية خالصة . وعلى ذلك فإن نظام المرور العابر لا ينطبق في حالة المضيق الذي يصل بين جزء من أعالي البحار أو منطقة اقتصادية خالصة والبحر الإقليمي لدولة أخرى ، أي يخرج من نطاق تطبيقه مضيق تيران في مدخل خليج العقبة . ويشتمل حق المرور العابر في إطاره على حق الطائرات في التحليق عبر المضايق وهو أمر لا يدخل في نطاق حق المرور البريء في المياه الإقليمية وفي المضايق غير الخاضعة لنظام المرور العابر. ولا تلتزم الغواصات أثناء ممارستها لحق المرور العابر لأن تطفو فوق الماء رافعة أعلامها وهو أمر ملزم لها أثناء ممارستها لحق المرور البريء.
ويجب على السفينة أو الطائرة في حالة المرور العابر مراعاة المضي دون تأخير عبر المضيق أو فوقه ، والامتناع عن أي تهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد سيادة الدولة المحاذية للمضيق أو سلامتها الإقليمية أو استقلالها السياسي ، والالتزام بالأنظمة والإجراءات والممارسات المقبولة بصورة عامة والمتصلة بالسلامة في البحر سواء الخاصة بمنع التصادم في البحر أو بمنع التلوث الناجم عن السفن .
(ب) المرور البرئ:
حددت المادة (18) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982 معنى المرور البريء بأن المرور يعني الملاحة خلال البحر الإقليمي ؛ لغرض اجتياز هذا البحر دون دخول المياه الداخلية أو التوقف في مرسى أو في مرفق مينائي يقع خارج المياه الداخلية ، أو التوجه إلى المياه الداخلية أو منها أو التوقف في أحد هذه المراسي أو المرافق المينائية أو مغادرته. ويكون المرور بريئا مادام أنه لا يضر بسلم الدولة الشاطئية أو بحسن نظامها أو بأمنها .

الوضع القانوني لمضيق تيران :
إن مضيق تيران بحسب الأصل هو مضيق وطني خاضع للسيادة الإقليمية المصرية ولا يصدق عليه وصف المضيق الدولي ؛ وفقا للمعايير التي سبق وأن أقرتها محكمة العدل الدولية في قضية مضيق كورفو . كما أن مضيق تيران لا يصل بين رقعتين من البحار العامة ، لكنه يصل فقط بين جزء من البحر الأحمر وهو بحر عام أو حسب التنظيم الجديد يدخل في المناطق الاقتصادية الخالصة للدول المشاطئة ، وبين البحر الإقليمي المصري مباشرة ومؤد إلى البحار الإقليمية للدول التي تقع على شاطيء خليج العقبة بطريق غير مباشر. وأخيرا فإن مضيق تيران هو ممر تاريخي يوصل إلى خليج تاريخي هو خليج العقبة ، ولم يسبق أن استعمل مضيق تيران ممراً للملاحة الدولية فقد كان استعماله منذ أمد بعيد قاصراً على من يطل على سواحله وهي الدول العربية.
ثانياً : وضع مضيق تيران في ضوء مباديء معاهدة السلام :
نصت الفقرة الثانية من المادة الخامسة من معاهدة السلام لسنة 1979 على أن : " يعتبر الطرفان أن مضيق تيران وخليج العقبة من الممرات المائية الدولية المفتوحة لكافة الدول دون عائق أو إيقاف لحرية الملاحة أو العبور الجوي ، كما يحترم الطرفان حق كل منهما في الملاحة والعبور الجوي من أجل الوصول إلى أراضيه عبر مضيق تيران وخليج العقبة ". وقيل تفسيراً لهذا النص أن الوضع القانوني لمضيق تيران ونظام المرور فيه تغير عن ذي قبل ، وأن النص يعني إقراراً بِحُرية الملاحة والتحليق عبر المضيق لسفن وطائرات كافة الدول حربية كانت أو غير حربية ، وأن المضيق هو ممر ملاحي دولي. ويرى الجانب الإسرائيلي أن هذا النص يخرج مضيق تيران من نطاق التنظيم الخاص بالمضايق المستخدمة للملاحة الدولية المنصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982.
غير أن هذا الكلام على غير أساس ؛ فخليج العقبة يقع في إقليم أكثر من دولة الأمر الذي ينتج عنه اعتبار كل جزء متاخم لشاطيء الدولة من مياهها الإقليمية أو من بحرها الإقليمي على حسب الأحوال. وعلى ذلك ، لا يجوز لأي دولة أن تغير من الوضع القانوني لخليج العقبة ولو بالاتفاق مع دولة ثانية لأن الأمر يخص مصالح دول أخرى ولا يتعدى هذا الاتفاق أطرافه ، لاسيما وأن نص المادة الخامسة من المعاهدة لم يتم إقراره من جانب الدول الشاطئية المعنية.
وإذا كانت الفقرة الثانية من المادة الخامسة من معاهدة السلام تضمنت إعلاناً عاماً صادراً من الطرفين يعتبران فيه أن مضيق تيران وخليج العقبة من الممرات الدولية المفتوحة لكل الدول دون عائق أو إيقاف لحرية الملاحة أو العبور الجوي ، فإن ذلك لا يعد في ذاته اتفاقاً خاصاً على تغيير النظام القانوني للمرور أو للملاحة في المضيق ؛ ذلك أن المادة الخامسة اقتصرت فقط على وضع اتجاه عام بشأن المرور عبر الخليج والمضيق ، وبالتالي لا تعد اتفاقاً خاصا حول النظام القانوني للمرور أو للملاحة في المضيق يخرجه عن نطاق تطبيق أحكام المضايق وفق الاتفاقية العامة لقانون البحار (المادة 35/4). ومن هنا، فإن صفة الدولية التي أضفتها الفقرة الثانية من المادة الخامسة على تيران والعقبة إنما تهدف إلى إرساء مبدأ حرية الملاحة ولا يعد تغييراً في المركز القانوني للمياه التي يشملها المضيق والخليج ، فهي مياه إقليمية مصرية تمارس عليها مصر سيادتها كاملة. ويجد ذلك سنده فيما تضمنته الفقرة الثانية من المادة الأولى من العاهدة التي تنص على أن مصر سوف تستأنف ممارسة سيادتها الكاملة على سيناء بعد إتمام الانسحاب الإسرائيلي إلى ما وراء الحدود الدولية ، وبديهي أن السيادة إنما تمارس على سيناء بأرضها وجوها ومياهها الإقليمية.
وعلى ذلك ، فإذا كان الاتجاه العام في شأن المرور في تيران والعقبة المنصوص عليه في المادة الخامسة وإن كان في ظاهره يمثل خروجا عن الأصل العام الذي ينبغي أن يطبق وهو نظام المرور البريء ، إلا أنه لا يخرج عن كونه إقرار بالحرية الكاملة للملاحة المستخدمة للملاحة الدولية المقيدة باحترام سيادة ومصالح الدولة أو الدولة المشاطئة للمضيق وعدم الخروج على قواعد القانون الدولي ؛ ذلك لأن هذا النظام الجديد الذي يشتمل على حرية الملاحة والطيران لا يغير من صفة المياه التي تشتمل على مضايق دولية.
ولكن هل تشتمل حرية الملاحة والطيران على المرور الحربي ؟
إن مبدأ المرور العابر الذي أتت به الاتجاهات الحديثة إنما يسمح بمرور كافة السفن والطائرات إلا أنه فيما يتعلق بالإجابة على هذا السؤال وفقاً لنص معاهدة السلام فإن الأمر يختلف وتكون حرية الملاحة والتحليق قاصرة على النشاط التجاري البحري أو الجوي للأسباب الآتية:
(1) إن ظاهر النص لم يطلق حرية الملاحة لكافة السفن والطائرات صراحة ؛ لاسيما وأن نص المادة الخامسة ورد في معاهدة السلام وهو ما يقتضي انطباق أحكامها في ظروف لا تهدد السلام. وعلى ذلك يكون من غير المقبول استخدام المضيق بطريقة تنافي السلام ، مثل تسيير سفن حربية أو تحليق طائرات حربية بدون قيد أو شرط ، أو القيام بمناورات عسكرية من جانب السلطات الإسرائيلية أو غيرها. ومن هنا، يمكن القول بأن من حق مصر ـ دون أن يكون في ذلك خروج على معاهدة السلام ـ أن تخطر قبل مرور السفن الحربية أو الشحنات العسكرية أو النووية الخطرة عبر مضيق تيران ؛ لأن مياهه مصرية إقليمية خاضعة للسيادة المصرية وبالتالي فمن حق مصر اتخاذ ما تراه من إجراءات لحماية سيادتها والحفاظ عليها وفقا لما يقرره القانون الدولي من حقوق في هذا الشأن. ويتفق ذلك مع المباديء التي قررتها الفقرة الأولى من المادة (34) من اتفاقية قانون البحار بأن نظام المرور خلال المضيق لا يمس النظام القانوني للمياه التي يتشكل فيها هذا المضيق ولا ممارسة الدول المشاطئة له لسيادتها أو ولايتها على هذه المياه وحيزها الجوي وقاع وباطن أرضه.
(2) إن إقرار حرية الملاحة والطيران لكافة السفن والطائرات التي عناها المرور العابر اقتصرت على المضايق التي تستخدم للملاحة الدولية وتصل بحاراً عالية ، فإذا ما ارتضتها الأطراف في تيران فإن ذلك يكون مقيداً بما تضمنته اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 من أحكام أهمها عدم التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بما يخالف أحكام ميثاق الأمم المتحدة .
(3) تنظم المعاهدة خفض ونزع تسليح منطقة المضايق والخليج بما فيها المطل الإسرائيلي على خليج العقبة ، يقصد منه إبعاد هذه المياه عن أسباب الصراع الدولي ويكون لازمه جعل مرور السفن والطائرات الحربية غير الخاصة بدول خليج العقبة أمر لا مبرر له على الإطلاق.
(4) مرور السفن والطائرات الحربية الأجنبية ينطوي على احتمالات أخطار من قيامها بمناورات في المنطقة أو وقوع حوادث تصادم مما يحمل الدول الشاطئية أعباء إضافية في مواجهة تلك المخاطر ، وستكون تلك الأعباء لصالح القوى الأجنبية فقط.
فرض الدولة الشاطئية رسوم عبور المضيق:
تناولت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 في المواد من 34 إلى 45 تنظيم الوضع القانوني للمضايق الدولية ، وأعطت الاتفاقية للدولة الشاطئية للمضيق حق تعيين ممرات بحرية للملاحة أو نظم لتقسيم حركة المرور وإحلال أخرى محلها ، وبذلك بالاتفاق والتعاون مع المنظمات الدولية المختصة على أن يتم الإعلان عنها مسبقاً . وتلتزم السفن المارة مروراً عابراً في بهذه الممرات البحرية وبتنظيم تقسيم حركة المرور التي أعلنت عنها الدول الشاطئية ( المادة 41).
ويكون للدول الشاطئية صياغة اللوائح والقوانين التي تكفل سلامة الملاحة في المضايق ومنع التلوث ومنع الصيد وتحميل أو إنزال أي سلعة أو عملة أو شخص خلافا لقوانين وأنظمة الدولة الشاطئية الجمركية أو الضريبية أو المتعلقة بالهجرة أو الصحة ، على أن يتم الإعلان سلفا عن هذه القوانين ( المادة 42 ). وينبغي على الدولة الشاطئية أن تتعاون على إقامة وصيانة ما يلزم من وسائل تيسير الملاحة وضمان السلامة ، ومن البديهي أن يقابل ذلك رسوم تفرضها الدولة الشاطئية على المرور في المضيق ، ويكون لمصر هذا الحق فيما يخص مضيق تيران باعتبار أن مياهه خاضعة للسيادة المصرية.