تنظيم عقود التجارة الدولية الإلكترونية

نسخة للطباعة

الباحث: أ / عبد الرحمن بن صالح القهرةالدرجة العلمية: ماجستير الجامعة: جامعة عدنبلد الدراسة: اليمنلغة الدراسة: العربيةتاريخ الإقرار: 2008نوع الدراسة: رسالة جامعية الملخص
في البدء يمكننا إيجاز المقصود بالتعاقدات الإلكترونية بالقول إنها: "التراضي إلكترونياً"، بينما التجارة الإلكترونية: "مزاولة كافة نشاطاتها عبر أيّ من وسائط منظومة الاتصال الإلكتروني المباشر".
وإذ وجدنا – أحياناً- تبايناً فقهياً في التعاطي مع مصطلح "التجارة الإلكترونية" من جهة أسلوب إجرائها الإلكتروني للدلالة عليها، فإن استقراءنا يفيد بحقيقة أنه لا يعدو كونه اختلاف في التعبير عن ما أجمع عليه الكثيرون بالقول: إن البحث في التجارة الإلكترونية هو بالضرورة في تعاقداتها، ومن ثمّ فقد رأينا صحة القول بالعكس أيضاً.
ولم تكن ثمّة صعوبة في ملاحظة أنه مثلما تردد الفقه في إضفاء المشروعية على وسائط الاتصال الفوري الاعتيادية للتعبير عن الإرادة، كانت حالة التشكيك في قدرة الوسائط الإلكترونية قد استمرت لبعض الوقت في ظل تجاذبات فقهية إلى أن أمكن إقرار مشروعيتها، حين تبين لكل من الفقه والقضاء على المستوى الدولي أن إقامة الدليل عند الحاجة على خلل المعاملات أو التقصير في الالتزامات، لن يكون صعباً على المتعاملين في مجال التجارة الإلكترونية.
بيد أن المخاطر القانونية التي صاحبت بزوغ التجارة الإلكترونية فرضت تدخل التقنين الدولي وفقهه الذي وضع قواعد تُأطِر قانونية معاملاتها وتحمي مشروعيتها. ولا غرو أن ذلك أظهر اهتمام الفقهاء والباحثين بالجوانب القانونية لتبادل الإيجاب والقبول إلكترونياً، فقد بدت مسائل جديرة بالاهتمام القانوني.
مع ذلك لاحظنا أن اهتمام التقنين الدولي وفقهه يقتصر على ناحيتي انعقاد العقد والآثار الناشئة عنه، اعتقاداً في خلوهما مما يحول من دون توحيد أحكامهما، ناهياً عن أنهما أوثق صلة بتعاقدات التجارة الدولية وفي الغالب ما تثور حولهما منازعاتها. في حين بدا لنا الأمر كذلك تماماً في العقود الإلكترونية بالنظر إلى طبيعة إنشائها.
وبمقتضى طبيعة إنشاء العقود الإلكترونية وما يحيط بها من محاذير قانونية، رأينا مناسبة إعلاء شأن اتفاقات الإطار المبدئية، بل واستحسان اعتبارها جزءاً من تكوين العقود إذا أتفق أطرافها، لأهمية ما ستؤديه من دور في تفسير الشروط العقدية وما اتجهت إليه إرادة المتعاقدين، لاسيما وأنها أحياناً تكون غائبة وقت إبرام العقد.
ومع ما يمثله شرط الأهلية في تحديد المسئولية العقدية عند نشوب النزاع، إلا أننا وصلنا إلى قناعة مؤداها: أن مجتمع التجارة الإلكترونية على شبكة الإنترنت لا يهتم بأهلية المتعاقد قدر اهتمامه بالوفاء الفوري، وقد أنعكس ذلك - في تقديرنا - على الثوابت التجارية والقانونية لمجتمعها، فهو على الصعيد التجاري ينظر إلى التعاملات التجارية الجارية باستخدام الشبكات الإلكترونية على أنها صفقات يجب أن تتم بين الأطراف في منأى عما يُعيق نماءها والاستفادة القصوى من ممارستها، أما على الصعيد القانوني فقد لاحظنا أن مجتمع هذه التجارة لا يُراعي سوى الحدّ الأدنى من شروط الصفقات وإنشاء العقود، إذ بالنسبة إليهم أن زيادة الشروط إنما تُفضي إلى تعقيد يحدّ من تسارع وتيرة مزاولة الأنشطة التجارية في إطارها الإلكتروني.
ومع أن جهود التقنين الدولي حققت إنجازاً قانونياً تمثّل في قانون العقد النموذجي الإلكتروني “Uncitral” إذ ملئ الفراغ التشريعي الذي صاحب بزوغ التجارة الإلكترونية، وفتح الطريق أمام الدول لسن تشريعاتها الخاصة، إلا أن وظيفته – بحسب اعتقادنا - لم تتعد حدود ضبط عمليات إبرام العقود الإلكترونية وضمان حسن سيرها. مما يعني أن تنظيم عقود التجارة الإلكترونية في معناه المكتمل ما يزال حاجة قائمة. ولمّا كان ذلك يوجب العمل أولاً على تكييف هذه العقود، فقد خلصنا إلى تكييفها "كعقود بيع" في مجملها، لا سيما أن غالب الفقه أجمع على تكييف المعلوماتية والخدمات مالاً، ومن ثمّ فهي تُباع وتُشترى. كما انتهينا إلى أن عقود التجارة الإلكترونية ذات طبيعة دولية مطلقة، سواءً طبقنا عليها معايير المذهب القانوني أم معايير المذهب الاقتصادي أم معايير المذهب المختلط.
بل أفضت الدراسة إلى أن طبيعة "تجارية ودولية" عقود التجارة الإلكترونية قد تخطّت معايير التكييف المعروفة من حيث غرض إنشائها ومحل الالتزام فيها، لذا فالتعامل معها بغير طبيعتها هذه سوف يلحق بهذه العقود ضرراً بالغاً جراء فرض واقع من الجمود التنظيمي يُناقض حقيقتها، فضلاً عن أن يخضعها للقوانين الوطنية للدول وهي التي تضع أحكاماً وتوجب حلولاً خاصة "بحماية للمستهلك" تنتفي معها صلاحية إعمال المبادئ التي تقتضيها حرية التعاقد وحرية الإثبات. على وفق ذلك وجدنا أن تنظيم عقود التجارة الدولية الإلكترونية يقتضي مواجهة القضايا التي تطرحها حرية التجارة بنظامها الإلكتروني المستحدث وحرية التعاقد، مما أستتبع البحث عن القواعد المنظمة لها خارج الأطر القانونية الوطنية، العاجزة عن مواجهة ما تُثيره مثل هذه العقود من مسائل قانونية شائكة وما تتطلبه من حلول.
ولما كانت قواعد حماية المستهلك بصفة عامة متصلة بالنظام العام والآداب وبالمبادئ التي يقوم عليها التعامل التجاري الصحيح، فقد وجدنا إمكانية تصور أن يتضمّنها إطار التنظيم القانوني المختص، بدلاً من قصر تنظيمها على القوانين الوطنية وبقواعد محدودة ضيّقت الإطار لا تلبي غرض حماية المستهلك في بيئة إلكترونية عالمية.
مع ذلك نرى أن تحديد أحكام وقواعد تنظيم عقود التجارة الإلكترونية في ضوء معايير حرية التجارة، لا يجب أن يكون على حساب إهدار مصالح المتعاقدين المشتركة، ولذا وجب التنبه إلى أن الأمر إذا كان يتطلب مراعاة مصالح التجارة الدولية فإنه يتعين أن يراعي كذلك مصالح المتعاقدين المشتركة، وهما كمعيارين في التنظيم على ما بينها من التباين، إلا أنهما لا يستحيلان على عملية التوفيق إذا ما أُخذا من منظور توحّد المصلحة.
هذه المعايير لتنظيم التجارة الدولية الإلكترونية اقتضت تناول مناهج واتجاهات التنظيم الدولية للوقوف على مدى ملاءمة أحدهما، إذ رأينا ملاءمة المنهج المباشر في التنظيم بقواعده الموضوعية وعبر الدولية Lex mercatoria"" ذات المصدرين التلقائي وهي: الأعراف والعادات والمبادئ العامة عبر الدولية ومبادئ العدالة، والاتفاقي وهي: الاتفاقات والعقود النموذجية. وقد انتهينا إلى أن هذين المصدرين يمثلان المعين القانوني لبناء النظام الموضوعي عبر الدولي الإلكتروني. “Lex Electronic”
ولم نجد أن ثمّة تعارض بين السعي إلى بناء قانون موضوعي عبر دولي للتجارة الإلكترونية مستقلاً عن القوانين الوطنية، وسعي الدول إلى الدخول في اتفاقيات لتوحيد حلول بعض المسائل أو إيجاد اتساق عالمي حيال القواعد المنظمة، إذ كانت التجارة الدولية وما تزال مرتبطة في العديد من جوانبها بالسلطات المباشرة للدول، فمن دون ضمان الاستتباب بمفهومه العام في حفظ الأرواح والأموال وصيانة الحقوق، ومن دون وجود البنية التحتية التي تتطلبها حركة التجارة وأنظمة مبادلاتها الإلكترونية، لن يكون هناك معنى لأي تنظيم. في حين لم تعد القطاعات الخاصة ومجتمعات رجال الأعمال غير بعيدة عن آليات التنظيم وعقد الاتفاقيات بشأن التجارة الدولية والتأثير في مضامينها وإنما أصبحت تلعب دوراً مهماً في إرساء أحكام وقواعد الاتفاقيات المنظمة للتجارة العالمية، الأمر الذي رأينا أنه أنعكس بدوره على التفكير التنظيمي للتجارة الدولية الإلكترونية ومجالاتها.
ولمّا لم يكن ممكناً الربط بين القوانين إلا على أساس تشابه مناهجها القانونية، فإن الاتفاقيات الدولية والعقود النموذجية يمكن لها أن تحقق الاتساق العالمي للقواعد الموضوعية من جهة، وتُشجّع على الأخذ بمبدأ دمجها في القوانين الوطنية من جهة أخرى، وبهذا المفهوم قد تمثل حلاً معقولاً في خضم تعارض المناهج التنظيمية واختلافها.
غير أننا لاحظنا صعوبة التوصّل إلى تنظيم عقود التجارة الإلكترونية في إطار مناهج التكتلات الاقتصادية الدولية لاختلاف المعايير القانونية التي تقوم عليها التشريعات الوطنية، ولا سيما المتعلقة منها بتصنيف الأعمال إلى تجارية ومدنية والفصل بين ما هو منها وطني وما هو دولي، ومن ثمّ التباين في النظرة إلى التقنين الواجب إتباعه حماية للمستهلك - بالرغم من الإقرار بدولية العلاقات التي تقوم بين الأفراد والمنشاءات – هذه المسائل خلقت واقعاً صعباً أمام أي جهود رامية إلى تنظيم التجارة الإلكترونية في هذا الإطار.
وقد بدا ذلك في اصطدام المنهجين الأوربي والأمريكي اصطدما بإشكاليات الخلاف بينهما في العديد من القضايا المرتبطة بالتجارة الدولية الإلكترونية. بيد أننا نعتقد في أن هذا الخلاف بقدر ما أعاق الوصول في محيط منهجيهما إلى إرساء قواعد اتفاقية تُنظّم هذه التجارة وتعاقداتها، فقد أعاق التوصل إلى حلول خارجهما.
مع ذلك نرى أنه قد يكون من المفيد الدفع في اتجاه حرية أطراف التعاقد في اختيار القانون الواجب التطبيق، على وفق المنهج المباشر في إطار القواعد الموضوعية عبر الدولية ومبدأ العقد شريعة المتعاقدين، بدلاً من ترك المسألة لآليات السوق التي ستفرض واقعاً قانونياً بتجاهل الآخر دائماً، "الباحث". انظر لاحقاً، ابتداءً من ص147.
وفيما ذهب البعض إلى أن الحل لمواجهة معضلة عقود الاستهلاك "إذا لم تتوفر إمكانية دمج قواعدها الحمائية في النظام العام المفترض" أن يخصص تنظيم يستقل بالمتاجر الافتراضية. إلا أننا انتهينا في هذا الصدد إلى أن الإمكانية قائمة طالما أن مفهوم النظام العام هو الحفاظ على حقوق المجتمع والمتعاملين على السواء، وأن هناك قواعد موضوعية وعبر دولية يمكنها أن تؤدي دور القواعد الآمرة استنادً إلى إرادة المتعاقدين وإلى سلطة قضاء التحكيم الدولي الإلكتروني في إعمالها كلما كان ذلك ضرورياً لإعادة التوازن العقدي وحماية الطرف الضعيف في التعاقد، إذ أوردنا نماذج من تلك القواعد وبعض صور تطبيقاتها.
وخلصنا إلى أن تطبيق القواعد المتصلة بالنظام العام عبر الدولي يمكنها أن تؤدي دور قواعد آمره في القانون الموضوعي عبر الدولي للتجارة الإلكترونية، من جهة أخرى فإن تطبيق قواعد العدالة من قبل قاضي العقد سوف يفضي إلى ذات النتيجة التي تسعى التشريعات إلى تحقيقها عبر قضاءاتها الوطنية، سواءً كان من منظور عدم توازن العقد إذعاناً، أو حماية للطرف الضعيف، أو كان من المنظور المطلق لرعاية العدالة في تعاقدات التجارة الدولية. ولذا رأينا أن الحل يكون بتمثّل القواعد الحمائية أياً كانت صفة المتعاقد مستهلك أو غيره في أحكام صحة العقد داخل النظام العام للقواعد الموضوعية عبر الدولية الإلكتروني. هذه الخلاصة جعلتنا نميل للانظمام إلى الاتجاه الذي يرى أن صعوبة تحديد القانون الواجب التطبيق ستختفي حين تتوقعه الأطراف المتعاقدة من خلال تضمينه العقد، مع اختلافنا معه في تفسير مفهوم توقّع الأطراف للقانون، إذ نرى أنه يعني نظام قانوني مستقل بقواعده التي لا يربطها صلة بالقوانين الوطنية.
ولقد تعزز لدينا الاعتقاد في عدم دقة مفهوم أن التنظيم هو إطار ثابت لقواعد تتولى حكم مسائل متغيرة. ولذا رأينا أن الحرية المتاحة أمام مجتمع التجارة الدولية الإلكترونية تسمح لهم باختيار القواعد القانونية الواجبة التطبيق على تعاقداتهم، سواءً كان ذلك من قانون أو من عدة قوانين أو من اتفاقيات أو عقود نموذجية، وهو ما يجعل العادات الدولية تستمد قوتها الملزمة من الطابع الثابت لها كقاعدة قانونية، وليس من كونها شروطاً ضمنية في العقد. وعلى وفق ذلك يتعيّن النظر إلى العادات التجارية بوصفها قواعد قانونية حقيقية - حتى وإن كانت قيمتها تعاقدية فقط - تُؤخذ في الاعتبار عند تفسير إرادة الأطراف إذ لاحظنا أن فقه التقنين الاتفاقي الدولي جعل من العادات قواعد قانونية موضوعية.
وحتى لو تم التسليم بأن العادات ذات صفة اتفاقية تعاقدية وليست قواعد قانونية فإنها تستطيع حكم عقود التجارة الدولية الإلكترونية عطفاً على أن حرية المتعاقدين جعلت من العقد بما تضمنه من شروط تعاقدية - والتي قد تكون معتمدة على العادات - قانوناً لتفسير ما اتجهت إليه إراداتهم ولتسوية المنازعات. مع ما لاحظنا من خلط حتى في أهم المراجع – بين قواعد العدالة كمصدر للقواعد عبر الدولية حين يستقر العمل بها في قضاء التحكيم، وقواعد العدالة كإحدى الصور في آلية فض المنازعات. كما هي الحال بالنسبة إلى الخلط بين القواعد الواجبة التطبيق على إجراءات التحكيم وبين تلك الواجبة التطبيق على محل العقد.
ولذلك يجب التنبّه إلى الفرق عند النظر إلى القواعد الموضوعية من حيث الأصل كشروط عقدية، والنظر إليها كقواعد قانونية مجردة قبل أن يُحوّلها المتعاقدون بإرادتهم الحرة إلى شروط تحكم تعاقدهم.
وفي حين نرى أنه من الأهمية بمكان إعلاء شأن مبدأ سلطان الإرادة بوصفه المهيمن على القواعد التي تحكم تكوين العقد وإنتاجه لآثاره وانقضاؤه، ويفصل حتى في الذي لم ينظمه القانون، بحيث لا يحدّ من مبدأ سلطان الإرادة إلا اعتبارات النظام العام، إلا أننا نعتقد في خطورة أن تتّخذ ذلك ذريعة لانفلات العقود من ربقة أي تنظيم.
صحيح أن العقد شريعة المتعاقدين وأن الإرادة الحرّة تستطيع اختيار وإعمال القواعد القانونية، لكنها لا تستطيع تنظيم العقد مع انعدام أي وجود للقاعدة القانونية في أي من صورها، سواءً المجرد المستقل أم المقنن، فمبدأ سلطان الإرادة وإن كان يُسند إليه أحقية اختيار القواعد، إلا أنه لا يمكن له أن يحلّ محلها.
ولذا وجدنا أن توافر القواعد القانونية المنظمة لعقود التجارة الدولية الإلكترونية في إطار نظامها الموضوعي عبر الدولي، بما تتميز به من سمات "الذاتية والاستقلال والمرونة والتجرّد"، سيضعف حجة المغرقين في الأخذ بالنظرية الشخصية حدّ إنكار وجود القواعد القانونية المستقلة عن القوانين الوطنية، لا بل أنها يمكن أن تُشكل في مجموعها تنظيماً مكتملاً إذا ما أخذت جهود التقنين بتوحيد القواعد وتحقيق الاتساق العالمي حيالها فضلاً عن كونها رافداً مهماً لمنهج التنظيم المباشر على طريق استقلال هذه التجارة العالمية الحديثة بقانونها الموضوعي عبر الدولي الإلكتروني يناسب مع نطاقها الكوني من حيث مجالاتها وأطرافها.
ولذا يتعين إفساح المجال أمام جهود القضاء الدولي لمقابلة احتياج العلاقات العقدية الإلكترونية الدائم إلى قواعد قانونية متجددة تواكب تطورها المضطرد وما تطرحه من قضايا حيوية، تأييداً لفكرة أن عدم ثبات التصرفات القانونية يستلزم عدم ثبات إطار القواعد التي تحكمها، فضلاً عن أنه لا يمكن لأي قانون أن يحوي قاعدة لكل حالة عقدية خاصة.
وقد وجدنا أن أكثر ما تطرحه العقود التجارية الإلكترونية ظل مرتبطاً بطبيعة الرضا الإلكتروني لا سيما العلاقة بين الإرادة والتعبير عنها وتحديد مدى وعيها الحرّ من تلقائيتها المفروضة عند إنشاء التصرف القانوني في إطار التجارة الإلكترونية. وقد انتهينا في ذلك إلى أن التعاقدات عندما تتم بين المحترفين تنتفي قيمة الحديث عن وعي وتلقائية الإرادة، وهذا يعني أن المشكلة تنحصر في التعاقدات المختلطة بين محترفين ومستهلكين. مع ذلك رأينا أن هذه التعاقدات لا تحتاج على الأغلب – إذا ما خلت من المحاذير القانونية غير المتصلة بالإرادة والتعبير عنها – إدراكاً كاملاً إذ يكفي مجرد قدرة العاقد على تقدير المنفعة المرتدة إليه عبر العقد.
ومن ثم فقد خلصنا إلى جمع الحالتين في مصطلح جديد هو "التلقائية الواعية" وذلك انتصاراً لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين بوصفه أحد أهم مبادئ القواعد الموضوعية عبر الدولية.
أما بالنسبة لمظاهر التعبير عن الإرادة إلكترونياً في التعاقدات الآنية بين المشترين والمتاجر الافتراضية فإننا نعتقد في أنه لا يخرج عن التعبير بالمعاطاه - الوصوف الذي تفرّد به الفقه الإسلامي -، وقدرنا أن المعاطاه أبلغ في دلالاتها من التعبير الضمني وأبعد ما تكون عن التعبير الملابس وما يحيط به من إشكاليات تحتاج دائماً إلى جدل فقهي لتبيان حقيقته.
وفيما يتعلق بالمركز القانوني الذي تحتّله الآلة الإلكترونية في التعاقد، فقد انتهينا إلى أن الآلة وإن كانت ليست لها إرادة، إلا أنها تساهم وبفاعلية في إبرام العق، وحين تحتّل أحد المراكز في التعاقد فإن لذلك مدلول واحد هو أنه قد أُسندت إلى الآلة شخصية قانونية حتى وإن كانت معنوية. ولذلك فقد رأينا أن الآلة تقوم مقام "النيابة الحكمية" إذ أن الآثار القانونية تنصرف إلى المنيب وهو الإنسان الذي يتحكّم بها.
أمّا في شأن تبادل الرضا فنرى أن للإيجاب في تعاقدات هذه التجارة ما يجعله يستفيد من خصوصيته الإلكترونية للالتفاف على طابع الإيجاب البات الذي استقرت عليه القواعد العامة، مع الاحتفاظ بكيانه إيجاباً صالحاً لانعقاد العقد، لا سيما إذ ما تعلق الأمر بالتصريح به على شبكة الإنترنت لذوات غير محدودة. في حين لم نجد في مظهر التعبير الصريح عن القبول ما يثير مشاكل قانونية، إذ انتهينا إلى أن القدرات التقنية الهائلة لوسائط نظام الاتصال الإلكتروني وفّرت إمكانية أن يحدث القبول في مظهره الضمني بل وبالسكوت الملابس، وقد أوردنا تطبيقات عملية لذلك.
كما رأينا إعلاء شأن مبدأ التفاوض على تعاقدات التجارة الإلكترونية بحسبانه مرحلة من مراحل تكوينها، لما له من أهمية بالغة في إبرام عقود صحيحة متضمنة الحلول إن لم تكن خالية من مسببات النزاع. وعلى وفق هذا المضمون طرحنا تعريفاً للتفاوض على عقود التجارة الإلكترونية إذ بدا لنا أنه: "مرحلة في عملية التعاقد يتم فيها إجراء المساومات بصدد ما يطرحه كل طرف فيه لتحقيق مصلحته، ولتبادل المقترحات في العناصر الفنية والقانونية، للاتفاق على صيغة العقد النهائية".
ونرى أن جميع التعاقدات التي تتم باستخدام وسائط منظومة الاتصال المباشر الإلكترونية هي تعاقدات بين حاضرين زماناً ومكاناً، باستثناء حالة التعاقد بالتراسل عبر البريد الإلكتروني إذ لا يضم المتعاقدين فيها مجلس واحد.
من جهة أخرى وجدنا أن طبيعة الحقوق المتنازع عليها في التجارة الإلكترونية زادت من أهمية السعي إلى الاستقلال بآلية حسمها عن الآليات التقليدية، التي تعتريها صبغة البطء والجمود، ومن ثم فهي قاصرة عن مجاراة ديناميكية البيئة اللامادية. من هنا خلصنا إلى أن آلية التحكيم الدولي الإلكتروني هي المناسبة للاضطلاع بهذا الدور الحيوي، إذ بدأ بالفعل تنفيذ المشاريع النظرية "للقاضي الافتراضي" و"المحكمة الافتراضية" وإن كانت ما تزال ذات نطاق إقليمي محدود في الغالب، وتؤدي دور الوساطة أكثر من التحكيم. لكننا انتهينا إلى إمكانية أن يكون لقضاء التحكيم الدولي قانون خاص بقواعد إجرائية عبر دولية.
وخلاصة الخلاصة هي، أن العاقد لا يلتزم إلا إذا أراد أن يلتزم، مع ذلك فكل التزام يعقده بغير إرادة حرّة مآله البطلان، وكل ما يعقده بإرادته الحرّة يجب أن يُحترم مادام لا يخالف النظام العام، وفيما عدا ذلك فإن القواعد الخاصة بتنظيم المعاملات المالية هي في الغالب من النوع المكتمل، ولذا يجوز اتفاق الأطراف على ما يخالفها. ولا يجوز حتى للمشرع والقضاء التدخل لتعديل الآثار التي ارتضاها المتعاقدان وقت التعاقد ولو صارت فيما بعد جائرة نسبة إلى الآخر، فليست العبرة بوجود التعادل بين الالتزامات المترتبة على العقد وإنما بصدور هذه الالتزامات عن إرادة حرة مستقلة، استناداً إلى أن ما يتم بتوافق إرادتين حرتين مستقلتين لا يجوز أن تنفرد بتعديله إرادة واحدة، إنما باتفاقهما على ذلك.
على وفق ذلك فقد استقر في اعتقادنا أنه من غير المتصور أن يواكب التقنين ما تطرحه التطورات المتلاحقة من أنماط مختلفة للتعاقدات، فضلاً عن كون تنظيم عقود التجارة الدولية الإلكترونية يعاني قصوراً ونقصاً في قواعده محلاً، ومن ثمّ فلابد من دعوة قضاء التحكيم الدولي إلى مضاعفة جهوده مع إفساح المجال له وبسلطة أوسع لمقابلة حاجة المنازعات التي تُثار بمناسبة تعاقدات التجارة الدولية الإلكترونية، ربما يؤدي إلى خلق وإيجاد قواعد تواجه بالحلول طبيعتها الخاصة، عن طريق إعداد قواعد جديدة استلهاماً أو تطويعاً كلما اقتضت الضرورة.