الفرع الأول : تطور وضع الفرد في الفقه والقانون الدولي

الفقرة الأولى : تطور موضع الفرد في الفقه الدولي .

ينشطر الفقه حيال مركز الفرد في القانون الدولي إلى فريقين : الفريق الوضعي ويرفض أن يعترف للفرد بالشخصية القانونية الدولية على أساس أن القانون الدولي ينظم العلاقات بين الدول –وفريق واقعي يرى في الفرد – إما وحده وإما بجانب الدولة – شخصا من أشخاص القانون الدولي ، كما اختلف الفقه الدولي خلافا بينا وشديدا بشان التكييف القانوني للفرد كشخص من أشخاص القانون الدولي ، ويمكن أن نميز هنا بين العديد من الاتجاهات على سبيل المثال لا على سبيل الحصر :
أ-النظرية التقليدية :
ذهب أنصار هذا الاتجاه ( وهم مفكروا المدرسة الوضعية ) إلى إنكار تمتع الفرد بالشخصية لقانونية الدولية تحت أي ظرف من الظروف ، انطلاقا من إيمانهم بمذهب ثنائية القانون القاضي باستقلال القانون الداخلي والدولي عن بعضهما . سواء من حيث مصادرهما أو من حيث المخاطبين بأحكامهما ، فمصدر القانون حسب هذه المدرسة هو الإرادة المنفردة للدولة ، بينما مصدر القانون الدولي هو الإرادة الجماعية للدول ، ومن حيث الأشخاص المخاطبين بقواعد كل منهما ، فأشخاص القانون الداخلي هم الأفراد والجماعات الخاصة سواء في علاقاتهم المتبادلة أو في علاقاتهم مع الدولة ، في حين أن أشخاص القانون الدولي هو أساسا الدول المستقلة والأشخاص الدولية الأخرى ، ومن حيث العلاقات التي ينظمها كلا القانونين ، فالقانون الداخلي ينظم علاقات الأفراد فيما بينهم أو مع السلطات الداخلية للدولة ، بينما ينظم القانون الدولي علاقات الدول فيما بينها في زمن السلم والحرب ، أو مع غيرها من أشخاص القانون الدولي ويزعم هذه النظرية الفقيه الايطالي دينيو أنزيلوتي ومازال الفقه التقليدي الدولي يأخذ بهذا الرأي.

ب-النظرية الحديثة ( مذهب وحدة القوانين ):
ينفي أنصار مذهب وحدة القوانين وجود أي اختلاف أساسي بين القانون الدولي والقانون الداخلي سواء من حيث مصادرهما أو أشخاصهما أو أغراضهما ، فقواعد القانون الدولي وقواعد القانون الداخلي كتلة وقانونية واحدة . كما يرى أنصار هذا المذهب أن النظام القانوني قد يتضمن قواعد موجهة لأشخاص تختلف طبيعتهم ، وهذا التوجيه قد يكون مباشرا كما في القانون الداخلي . وقد يكون غير مباشر كما هو الحال للقواعد القانونية الدولية ، فالدولة هي في الحقيقة مجموعة من الأفراد ، الذين هم في النهاية المخاطبون بإحكام القواعد الدولية والداخلية ، وتجعل هذه النظرية الفرد بأنه المستفيد النهائي من قواعد القانون الدولي . والهدف الأخير عن ذلك هو تحقيق رفاهية الفرد وسعادته . لدى ينتهي أنصار هذه النظرية إلى أن للفرد وضع الشخص الدولي ، على أن أهليته لاكتساب الحقوق محدودة ، ولا يمارسها بنفسه إلا في بعض الأحوال الاستثنائية النادرة ، عندما تخاطبه قواعد القانون الدولي مباشرة ، فيصبح شخصا قانونيا دوليا، لكن هذه الحالات الاستثنائية لا تؤثر في الأصل العام ، وهو أن الفرد ليس من أشخاص القانون الدولي المعتادين ، ويتزعم هذه النظرية شارل روسو وبول ريتر .
ج-النظرية الموضوعية :
يذهب أصحاب هذه النظرية إلى أن الفرد هو الشخص الوحيد الخاضع للقانون الدولي، والمخاطب الحقيقي قواعد القانون سواء أكان دوليا أم داخليا . فأنصار هذه النظرية ينكرون شخصية الدول ويرفضون نظرية السيادة الوطنية ، لأن الدولة ما هي إلا وسيلة لإدارة مصالح الجماعة التي تتكون من أفراد ، أما الشخصية المعنوية فهي نوع من الخيال القانوني ، ولذا فإن الفرد هو الشخص القانوني الدولي الوحيد فقط، وهو المخاطب بأحكام القانون الدولي لكونه صاحب الشخصية الأولى في المجتمع الدولي والداخلي . ويتزعم هذه النظرية الفقيه الفرنسي جورج سل .
وإذا كان لكل رأي من هذه الآراء وجاهته السديدة ، فإنه يبقى مع ذلك أنها تنظر إلى الموضوع محل البحث من زاوية معينة انطلاقا من مقدمات معينة أدت بها حتما إلى نتيجة تتفق وتلك المقدمات ، والأفضل أن يتم النظر إلى الفرد من الناحية الواقعية في إطار المجتمع الحالي ، والذي يدفعنا إلى القول أن الفرد قد لا يمتع بالشخصية الدولية بخصوص مسائل معينة ، وقد يتمتع بها بطريقة مباشرة ، كما قد يكون مخاطبا بطريقة مباشرة لكن قبل قواعد القانون الدولي .


الفقرة الثانية : وضع الفرد في القانون الدولي
إذا كان صحيحا أن الفرد أولى لكسب الحقوق وتحمل الالتزامات باعتباره المخاطب النموذجي بأحكام القانون ، فإنه صحيح كذلك أن الفرد لا يتمتع بمركز دولي إلا على سبيل الاستثناء فهو من الناحية القانونية في وضع أدنى من وضع الدولة أو المنتظم الدولي ولذلك فإن التكييف السليم لمركز الفرد في القانون الدولي هو أن نقر له بذاتية دولية وليس بشخصية قانونية فنجعل منه وحدة ذات قدرة على كسب الحقوق والالتزام بالواجبات الدولية دون أن نرتفع به إلى مستوى الشخصية القانونية الدولية .
ومادام أن للفرد أهلية دولية محدودة لاكتساب الحقوق فطبيعي أن نصف الحقوق التي يكسبها الفرد على الصعيد الدولي – بأنها حقوق دولية.
فقد برزت الاهتمامات الدولية الأولى بالفرد في نطاق ما يجب أن يتوفر له من حماية في الدول الأجنبية التي تقيم على إقليمها وتلمح إشارات ذلك سنة 1871 في اهتماما جلاد ستون بما يلقاه البلغار من تركيا، وكذلك بالنسبة لأسرى الحرب بعد أن تأذى ظهير العالم من بربرية حرب القرم ، وقد خلف ذلك اتفاق جنيف سنة 1864 ، وكانت من بين الأسباب التي دعت إلى عقد مؤتمر لاهاي للسلام سنة 1899 .
إن ما يجري عليه العمل الدولي المعاصر يؤكد المركز المتزايد الذي يختص به الفرد بوصفه كيانا مستقلا عن الدولة ويتمثل ذلك في جانبين :