بسم الله الرحمن الرحيم







إن جرائم الحرب نظرا لخطورتها أصبحت تستلزم ملاحقة فاعليها و الحكم عليهم بأشد العقوبات ، ولم يتبين المجتمع الدولي فكرة المعاقبة على جرائم الحرب بسهولة و إنما مرت الفكرة بعدة مراحل . فسابقا لم يكن يحاسب على الجرائم التي تعتبر انتهاك لقوانين و أعراف الحرب ، ذلك استنادا إلى الفكرة القائلة بحصانة أعمال الدولة ، وإذا جرت المحاسبة فإنها تتم من قبل الدولة نفسها التي يتبع إليها من ارتكب المخالفة . فقد وردت أول إشارة إلى إمكانية محاكمة من يقومون بخرق هذه قوانين النزاعات المسلحة أمام محاكم العدو العسكرية في وجيز " Oxford " لقوانين الحرب البرية 1880



أقرت اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 صراحة بأن الأطراف المتحاربة ستكون مسئولة عن كل الأعمال التي يرتكبها أشخاص منتمون إلى عضوية القوات المسلحة .

فالقضاء الجنائي الدولي شهد تطورا كبيرا بداية من نظام المحاكم العسكرية التي أنشأت بعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية ، ثم إلى المحاكم التي أنشئها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ، وصولا إلى المحكمة الجنائية الدولية. و هذا ما ستأتي معالجته في هذا المبحث .


المطلب الأول : المحاكم العسكرية الدولية

كانت محاكمات الحرب العالمية الأولى أول تطبيق لفكرة القضاء الجنائي الدولي في العصر الحديث ، إلا أنها لم تفلح في معاقبة مجرمي الحرب على نحو رادع . فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى 1914-1918 أبرمت العديد من الاتفاقيات الدولية في هذا

الخصوص أبرزها معاهدة فرساي 1919، التي تضمنت نصوصا لإنشاء محكمة دولية لمحاكمة إمبراطور ألمانيا ومحاكمة العسكريين الألمان عن جرائم الحرب ( ) . لكن ألمانيا رفضت المحاكمة أمام محاكم أجنبية ، بحجة أن المحاكمات يجب أن تتم أمام المحاكم الألمانية . و بالتالي أنشأت المحكمة الألمانية العليا في مدينة " ليبزيغ " في 18 ديسمبر 1919.

و بدأت المحاكمات أمامها في 23 ماي 1921 ، وقد تمت محاكمة 12 شخص من الخمسة والأربعين متهم ، وجد 6 منهم فقط مذنبين . وكانت الأحكام التي صدرت بشأنهم بسيطة ، وعندها أوقف الحلفاء محاولات استمرار محاكمات مجرمي الحرب .

إن الأهوال التي وقعت أثناء الحرب العالمية الثانية دفعت بالقادة العسكريين لكل الدول الحلفاء بإبداء امتعاضهم من الجرائم المرتكبة من طرف الألمان و ضرورة العقاب عليها . ففي 25 أكتوبر 1941 أصدر رئيس وزراء بريطانيا " تشرشل " تصريح يضع العقاب الجنائي من بين أهداف الحرب ، و أن جرائم الحرب المرتكبة يجب عقابها .

ثم كان تصريح " سان جيمس " في 13 جانفي 1942 الذي نص على معاقبة الأشخاص الذين ارتكبوا أو أمروا بارتكاب جرائم حرب ، عن طريق هيئة قضائية دولية. وقد وقع هذا التصريح في لندن من طرف تسع دول أصلية و تسع دول مراقبة.

لكن تعاقب الأعمال الوحشية التي قامت بها ألمانيا زاد من رغبة الحلفاء في العقاب والمحاكمة مما أدى بروزفلت و تشرشل و ستالين ، إلى الاجتماع في موسكو في 30 أكتوبر 1943 ، و أصدروا تصريح موسكو و الذي يعتبر أول خطوة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية ، و قد نص على وجوب محاكمة مجرمي الحرب الألمان من ضباط و أعضاء في الحزب النازي . و هناك محكمتين وضعتا بصمتهما في القانون الدولي الجنائي ، ألا وهما محكمة نورمبورغ ، ومحكمة طوكيو ، وهذا ما سنعالجه في الفرعين التاليين .