سجل طويل لجرائم حقوق الإنسان :


تستند مرجعية تقييم حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية بشكل رئيسي إلي اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في أوقات الحرب (1949), وبروتوكول جنيف الإضافي الأول لعام 1997 المتصل بحماية ضحايا المنازعات الدولية. وبحسب المادة 1 من اتفاقية جنيف الرابعة, فإن 'الأطراف المتعاقدة السامية تتعهد باحترام هذه الاتفاقية في ظل جميع الظروف'.


إسرائيل, من ناحيتها, تجادل في كونها سلطة احتلال في قطاع غزة منذ قيامها بتنفيذ خطة فك الارتباط. وعليه, فإن القانون الدولي الإنساني لا ينطبق, وهو أمر مرود عليه من واقع أدبيات الأمم المتحدة, حيث إن 'أي إقليم يعتبر إقليما محتلا إذا كان تحت السيطرة الفعلية لدولة خلاف دولة السيادة الإقليمية. وقد واصلت إسرائيل منذ فك ارتباطها ممارستها للسيطرة الصارمة والمستمرة علي الحدود وعلي الدخول والخروج والمجال الجوي والمياه الإقليمية لغزة. كما قامت إسرائيل بعمليات توغل عسكري وشنت هجمات مميتة ضد أفراد مستهدفين, وأخضعت السكان المدنيين كلهم في الإقليم لأوضاع حصار منذ أن فازت حماس في الانتخابات التشريعية في يناير 2006, وهو ما يؤكد أن قطاع غزة لا يزال تحت الاحتلال الإسرائيلي بما يصاحب ذلك من مسئوليات قانونية دولية ملقاة علي عاتق السلطة القائمة بالاحتلال'(3).


تأسست وظيفة المقرر الخاص بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1993, وقد تناوب علي هذا المنصب عدد من الشخصيات الدولية المرموقة, آخرهم السيد ريتشارد فوك, وهو أستاذ للقانون الدولي بالولايات المتحدة الأمريكية, وقد وثق المقرر الخاص بشكل دوري مختلف الجرائم التي ارتكبت علي مدي العقد الأخير, سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية. وقد صدر عن مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة عشرات القرارات حول الأوضاع في فلسطين, وعقدت جلسة خاصة كرد فعل لتحركات إسرائيل, سواء في لبنان أو أخيرا في غزة, لا تبالي إسرائيل بهذا المجهود التوثيقي والحقوقي, لأنها علي ثقة بالحماية التي تحظاها من المجتمع الدولي, بل تتعامل في كثير من الأحيان بفجاجة مع خبراء الأمم المتحدة. فقبيل أحداث غزة, كانت إسرائيل قد منعت المقرر الخاص, السيد ريتشارد فوك, من دخول القطاع, وعاملته بشكل مهين, وقد صدر عن الأمم المتحدة بيان يدين هذه الواقعة.


أصدر المقرر الخاص تقريرا حول أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية قبل العدوان الأخير علي غزة, وذلك في الفترة من يناير إلي منتصف عام 2008, وقد قدم التقرير إلي مجلس حقوق الإنسان ثم رفع إلي الدورة الثالثة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة.


أشار التقرير إلي أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية قد تجاوز الآن أربعين سنة, وأن له خصائص الاستعمار والفصل العنصري, وأن الاحتلال يعصف بأهم حق إنساني وهو حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وحث التقرير الأمم المتحدة علي أن تبدي قدرا أكبر من تحمل المسئولية في حل النزاع الإسرائيلي, واتخاذ خطوات فورية لضمان احترام إسرائيل لقواعد القانون الدولي الإنساني باعتبارها دولة احتلال. وقد أدان التقرير رفض إسرائيل الامتثال لفتوي محكمة العدل الدولية بشأن النتائج القانونية المترتبة علي تشييد جدار عازل في الأراضي المحتلة. كما انتقد التقرير التوسع المستمر في المستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة في الضفة الغربية والقدس, واعتبر ذلك نمطا خطيرا من السلوك غير القانوني للاحتلال(4).


أيضا من ضمن المحطات المهمة التي وثقت فيها الأمم المتحدة جرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية صدور تقرير البعثة رفيعة المستوي لتقصي الحقائق في بيت حانون في قطاع غزة, والذي شكل بحث الآثار الإنسانية الناجمة عن العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في بيت حانون في 8 نوفمبر 6002. ضمت البعثة الأسقف ديزموند توتو من جنوب إفريقيا, والبرفيسورة كريستين شينكين من بريطانيا. وقد عرضت البعثة تقريرها أمام الدورة التاسعة لمجلس حقوق الإنسان في سبتمبر 2008, وقد رفضت إسرائيل التعاون مع البعثة.


استنتج تقرير البعثة أن قصف بيت حانون شكل جريمة حرب, وأن سيادة القانون ضحية من ضمن ضحايا قصف بيت حانون. فلم تكن ثمة مساءلة بشأن عمل راح ضحيته 19 قتيلا وعدد أكبر من الجرحي, وطالبت بمحاكمة المسئولين وأيضا بتوفير التعويض وجبر الضرر للضحايا. وأكد تقرير البعثة أن إحدي أكثر الوسائل الفورية فعالية لحماية المدنيين الفلسطينيين من أية اعتداءات إسرائيلية أخري هي الإصرار علي احترام سيادة القانون والمساءلة(5).


وقد انعكس التردد في مواجهة إسرائيل بملفها الأسود في مجال حقوق الإنسان حتي في مواقف تصويت الحكومات الغربية علي قرار الجلسة التاسعة الطارئة التي عقدت حول أحداث غزة في 9 يناير 2009, حيث امتنعت الدول الأوروبية عن التصويت لقرار يدين انتهاك حقوق الإنسان في غزة, ويطالب بتشكيل لجنة تقصي حقائق حول انتهاك إسرائيل لقواعد القانون الدولي الإنساني في قطاع غزة. وقد بررت المجموعة الأوروبية الامتناع عن التصويت بأن القرار الذي بادرت بمسودته المجموعة العربية والإسلامية جاء غير متوازن.


ورغم أن العديد من المنظمات الحقوقية الأوروبية طالبت الاتحاد الأوروبي في أثناء العدوان الإسرائيلي علي غزة بأن يعلق قرار تطوير العلاقة مع إسرائيل, وأن يلجأ إلي استخدام المادة الثانية في اتفاقية الشراكة الأوروبية - الإسرائيلية, التي تنص علي حق أي من الطرفين في تعليق مواد اتفاقية الشراكة في حالة حدوث انتهاكات جسمية لحقوق الإنسان, فإنه لم يتخذ الاتحاد الأوروبي مواقف حازمة تجاه الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان(6).


العدالة الدولية وإنصاف الضحايا :


إن تاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني هو تاريخ طويل من الحصانة والإفلات من العقاب بالنسبة لإسرائيل. وعلي الرغم من التوثيق والتكييف القانوني لجرائم الاحتلال الإسرائيلي علي مدي سنوات طويلة, إلا أن إسرائيل دائما فوق مساءلة العدالة الدولية, والمجتمع الدولي عليه مسئولية أصيلة لإنفاذ العدالة والمحاسبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة, نظرا لعدم وجود وسائل جدية للانتصاف القضائي علي المستوي الوطني داخل إسرائيل. ومادامت لا توجد وسيلة فعالة للمحاسبة, فإن تكرار الانتهاكات والجرائم من جميع أطراف الصراع وارد وبشكل منهجي. ولكن تظل الإرادة السياسية للحكومات والمجتمع الدولي هي كلمة السر في تفعيل أي من وسائل العدالة الدولية المتعارف عليها, سواء كانت المحكمة الجنائية الدولية, أو ما يعرف بالمحاكم الخاصة المؤقتة, أو حتي أثناء توظيف ما يعرف بالاختصاص القضائي العالمي داخل عدد من البلدان الأوروبية.


أولا- المحكمة الجنائية الدولية :


أثير نقاش واسع حول إمكانية أن تنظر المحكمة الجنائية الدولية في جرائم غزة. وقد تقدم عدد من منظمات حقوق الإنسان العربية بمذكرات إلي المدعي العام للمحكمة تحثه فيها علي فتح التحقيق في جرائم إسرائيل في أثناء العدوان علي غزة. وقد بدا واضحا وجود حالة شائعة من الغموض القانوني حول ما يمكن أن تقدمه المحكمة الجنائية الدولية للوضع في فلسطين.


للمحكمة اختصاص النظر في جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب, وليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في يونيو 6002. وإذا أصبحت دولة من الدول طرفا في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه, فلا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة, ما لم تكن الدولة قد أصدرت إعلانا يتيح للمحكمة نظر جرائم ارتكبت منذ يونيو 2006, أي وقت دخول النظام حيز التنفيذ, وطبقا لنظام روما, فإن المحكمة تمارس اختصاصها في حالة(7): أن تكون الدولة طرفا في المعاهدة, أي مصدقة عليها, أو أن تقبل اختصاص المحكمة في نظر الجرائم التي ترتكب علي أراضيها أو بواسطة مواطنيها.


كما تحال إليها القضايا بواسطة مجلس الأمن, حتي لو كانت القضية تخص دولة لا تقبل اختصاص المحكمة من الأساس.


تنظر المحكمة الجنائية الدولية في الوقت الراهن أربع قضايا, ثلاث منها أحيلت بواسطة الحكومات التي وقعت علي أرضها الجرائم, وهي أوغندا (ديسمبر 2003), الكونغو الديمقراطية (مارس 2004), وإفريقيا الوسطي (ديسمبر 2004), بينما أحيلت قضية دارفور الي المحكمة بواسطة قرار مجلس الأمن رقم 1593 والصادر في 31 مارس عام 2005 . وقد أحال مجلس الأمن ملف دارفور عقب صدور تقرير لجنة تقصي حقائق منبثقة عن الأمم المتحدة, والتي شكلت في 2004 للوقوف علي أوضاع حقوق الإنسان في إقليم دارفور. وقد تكونت البعثة من شخصيات حقوقية ودبلوماسية دولية وعربية بارزة, منهم محمد فايق, الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان.


في يناير 2008, أعلن وزير العدل الفلسطيني توقيع السلطة الوطنية الفلسطينية إعلانا يمنح المحكمة الجنائية الدولية الحق في تحديد وإقامة الدعاوي ومقاضاة المسئولين عن الاعتداءات التي شهدتها الأراضي الفلسطينية منذ 1 يوليو 2002 . وقد أكد المدعي العام للمحكمة أن البدء في التحقيق يتطلب أولا التأكد مما إذا كان اعتراف السلطة الفلسطينية بهذه المحكمة يعطيها الحق القانوني للمطالبة بالاحتكام إلي المحكمة الجنائية الدولية للنظر في ادعاءات بارتكاب جرائم حرب ضد مواطنيها أم لا. لكن قللت إسرائيل من أهمية التحرك الفلسطيني باتجاه المحكمة الجنائية الدولية, علي اعتبار أن السلطة الفلسطينية لا تعبر عن دولة ذات سيادة معترف بها دوليا, وبالتالي لا يحق لها عضوية المحكمة, وأن اعترافها باختصاص المحكمة لا تصبح له أية آثار قانونية علي أرض الواقع, ولكن هذا أمر تبحثه المحكمة حاليا بحسب تصريحات مكتب المدعي العام للمحكمة(8).