استثمرت المنظمات الحقوقية الفلسطينية هذه الوسيلة في السنوات القليلة الماضية لملاحقة عدد من القيادات العسكرية الإسرائيلية في المحاكم الوطنية الأوروبية. وعلي الرغم من أن هذه القضايا لم تؤد بعد إلي مثول أحد من هؤلاء القيادات أمام المحاكم, فإنها حققت مكاسب سياسية وحقوقية مهمة. فقد أرهبت الحكومة الإسرائيلية, وحرمت علي عدد من القيادات الإسرائيلية زيارة بعض الدول خوفا من الاعتقال, كما لفتت انتباه الرأي العام الدولي, وأطلقت جدلا واسعا حول قضايا العدالة والمحاسبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويعتبر المدافعون عن حقوق الإنسان في فلسطين أن هذه الملاحقات القضائية وتوظيف قواعد القانون الدولي الإنساني قد أضافت بعدا جديدا للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. فقد أشارت الصحافة الإسرائيلية إلي أن مجمل عدد القادة والساسة المطاردين دوليا بلغ 78. أدت تلك الخطوات إلي استصدار قانون إسرائيلي يقضي بمعاقبة كل من يدلي بمعلومات تساعد علي توريط الإسرائيليين في جرائم حرب بالحبس عشر سنوات, واستصدار أمر يمكن من يشتبه في احتمال تعرضه لملاحقات في قضايا جرائم حرب من استبدال جواز سفره بآخر مزور, بل رصدت إسرائيل ثمانية ملايين دولار لتقديم الاستشارات القانونية للمتورط في أثناء وجوده خارج إسرائيل, ومنعت كبار القادة العسكريين من التحدث أمام وسائل الإعلام, كي لا يدلوا بمعلومات يمكن أن تورطهم مباشرة. كما نشطت الدبلوماسية الإسرائيلية لإقناع عدد من الدول الأوروبية بتعديل تشريعاتها لتقييد اللجوء إلي الاختصاص العالمي(10).


وفي إطار الجهود التي تقوم بها المنظمات الفلسطينية لحقوق الإنسان, بالتعاون مع المنظمات الدولية, قامت المحكمة الوطنية في إسبانيا بالنظر في قضية ضد عدد من المسئولين الإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في حي الدرج بقطاع غزة عام 2002, حيث اغتيل القائد السابق لكتائب القسام - الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) - صلاح شحادة, وقتل فيها 14 مدنيا, بينهم تسعة أطفال, وجرح 150 آخرون. وقد طلب القاضي من السلطات الفلسطينية إحضار شهود عيان علي الحادث للإدلاء بشهاداتهم, كما طلب من تل أبيب إبلاغ المشتبه بهم بالإجراءات القضائية الخاصة ضدهم, والمطلوبون للتحقيق هم, بالإضافة إلي وزير الدفاع السابق بنيامين اليعازر, رئيس أركان الجيش السابق دان حالوتس, والقائد السابق للمنطقة الجنوبية دورون ألموج, ورئيس مجلس الأمن القومي السابق جيورا آيلاند, والسكرتير العسكري السابق لوزير الدفاع مايكل هيرتسوج, ورئيس هيئة الأركان السابق موشيه يعلون, بالإضافة إلي مدير الأمن العام آفي ديختر(11).


وكانت, أيضا, محكمة أمريكية بمدينة نيويورك قد نظرت في دعوي ضد ديختر, متهمة إياه بقيادة عملية قصف بيت شحادة, رغم أنه كان يعلم أن مدنيين سيصابون جراء إلقاء القنبلة, لكنها برأت ساحته عام 2007, بدعوي أنه كان يعمل في إطار منصب رسمي ومنحته حصانة. ويمتنع ديختر عن زيارة بريطانيا تحسبا من صدور أمر اعتقال بحقه, وألغي القائد السابق لفرقة غزة العسكرية, العميد أفيف كوخافي, برنامجا دراسيا ببريطانيا تحسبا من الاعتقال علي خلفية اتهامه باقتراف جرائم حرب بالقطاع(12).


القيود علي المحاكم الوطنية ذات الاختصاص العالمي(13) :


1- الحصانة الدبلوماسية :


يتقيد الاختصاص العالمي في معظم البلدان بمسألة الحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها مسئولو الدول ورؤساء وأعضاء الحكومات الأجنبية, والتي تعفيهم من المساءلة الجنائية في الدول الأجنبية طوال فترة توليهم وظائفهم الرسمية. في هذا الإطار, رفضت السلطات البريطانية عام 2005 التحقيق مع وزير التجارة الصيني في دعاوي جرائم تعذيب وإبادة جماعية في حق جماعة فالونجونج الروحية, باعتباره يتمتع بحصانة دبلوماسية. كما رفضت إحدي المحاكم البريطانية عام 2004 إصدار أمر بالقبض علي وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شاءول موفاز. وقد رفضت إحدي المحاكم الفرنسية إصدار أمر قبض في حق الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي بتهمة ارتكاب جريمة التعذيب, وذلك لتمتعه بحصانة دبلوماسية. ولكن البعض انتقد الحالة الفرنسية, حيث تلعب المعايير السياسية الدور الحاسم, لأن إصدار قرار حول تمتع الشخص المطلوب بحصانة يأتي من وزارة الخارجية بعد إحالته إليها من المحكمة المختصة. وقد توسعت بعض الدول في تطبيق مبدأ الحصانة حتي علي الأشخاص الذين تركوا وظائفهم الرسمية, مثل قرار المدعي العام في ألمانيا بعدم اختصاص القضاء الألماني في نظر دعاوي جنائية ضد الرئيس الصيني السابق جيانج زيمين, وأيضا المحاكم الأمريكية التي لا تنظر في الدعاوي المرفوعة ضد غير الأمريكيين الذين قاموا بأفعال أثناء توليهم مناصب رسمية, وهو ما حدث في القضية التي رفعت ضد آفني ديختر, أحد قياديي الجيش الإسرائيلي والذي اتهم فيها بارتكاب جريمة حرب. ورفضت محكمة نيويورك مباشرة الدعوي لارتباطها بأفعال قام بها المدعي عليه في أثناء توليه وظيفة رسمية في إسرائيل. وفي بلجيكا في سبتمبر 2003, رفضت محكمة النقض نظر دعوي جنائية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون, استنادا إلي مبدأ الحصانة الدبلوماسية, حيث كان شارون في الحكم وقت رفع الدعوي.