ونخلص مما سبق أن الوضع القانوني للمدنيين يتأثر بالنزاعات المسلحة وانتهائها ، ويلاحظ تفاوت التأثير وفقا للكيفية التي تنتهي بها النزاعات المسلحة حيث يكون تأثيرها واضحا في حالة فقدان الدولة أو الإقليم لشخصيتها الدولية السابقة .



ثانياً : الوضع القانوني للمدنيين بعد انتهاء الحرب في الشريعة الإسلامية



انتهاء الحرب في الشريعة الإسلامية تترتب عليها آثار في غاية الأهمية بالنسبة الى وضع أفراد العدو ، تمس حرياتهم الشخصية ووضعهم الشرعي ، وتختلف هذه الآثار وفقا للكيفية التي تنتهي بها الحرب ، كما تختلف أيضا حسب أصناف الرعايا ، فالآثار التي تقع على النساء والصبيان غير تلك التي تقع على الرجال والبالغين من أفراد العدو ولتوضيح ذلك سنتناوله من جوانبه التالية :


(1) الوضع القانوني للمدنيين عند انتهاء الحرب بفتح البلاد عنوة :


عند فتح البلاد من قبل المسلمين يترتب على رعايا العدو أحكام شرعية يجب أن تطبق عليهم ، وهذه الأحكام تختلف وفقا لصفة الفرد ، حيث أن أحكام النساء والصبيان ومن في حكمهم من غير القادرين على القتال تختلف في أحكامها عن الأحكام التي تطبق على القادرين على القتال التي تطبق عليهم أحكام الأسرى .


(‌ أ) الوضع القانوني للنساء والأطفال : وهؤلاء يطلق عليهم السبي ولا يجوز قتلهم إلا إذا باشروا القتال ، أما وضع هؤلاء أن يتم استرقاقهم ، وأجمع الفقهاء في أن الاسترقاق يقع على أهل الكتاب والمجوس أي ممن تؤخذ منهم الجـزية أما أهل الشرك فقد وقع الخلاف في جواز استرقاقهم ، فالشافعي يقول بقتل النساء لأنه لا ينتفع بهن على وجه الشرك أما أبا حنيفة فيرى استرقاقهن (6 ) .


ومن الأحكام التي تقع على السبي المن وهو إطلاق سراحهم ليعودوا إلى أهلهم ، وذلك لاعتبارات دينية أو سياسية يرجى منها الخير للإسلام . كأن يكون والد السبية مطاعا في قومه أو يرجى منهم إسلامهم أو خلافه من الاعتبارات وهذه من السياسة الشرعية يتخذ فيه الإمام ما يراه أصلح للأمة الإسلامية . هذا وقد اختلف بعض الفقهاء في جواز المن على السبي دون استطابة نفوس الغانمين عنهم أما بالعفو عن حقوقهم منهم وأما بمال يعوضهم عنهم ، فإن كان المن عليهم لمصلحة عامة جاز أن يعوضهم من سهم المصالح ويرون أن الإمام إذا أراد المن عليهم لأمر يخصه عاوض عنهم من مال نفسه ، ومن امتنع من الغانمين عن المن في سباياهم لم يجز إجبارهم ويستدلون على ذلك بما تم بشأن سبايا هوزان بحنين (7 ) .


والفداء من الأحكام التي أقرها الإسلام في حق النساء والأطفال الذين تم سبيهم ، وهو أن يدفع أهله عوضا عن إطلاق سراحهم ، واشترط البعض أن يكون الفداء بمال لأن المال يمكن توزيعه بدلا منهم ، ولا يجب في هذه الحالة استطابة نفوس الغانمين ، وإذا أراد أن يفادي بهم عن أسرى من المسلمين في أيدي قومهم عوض الغانمين من سهم المصالح (8 )


وهذه الأحكام جاءت تقريرا للعرف الذي كان سائدا في ذلك الزمان ، حيث كانت الحروب تشن خصوصا لغرض سبي النساء وللرق ، والإسلام عندما أقرت هذه الأحكام قرنتها بأحكام أخرى للحد من حدة الاسترقاق التي جاءت تحاربها في الأصل ، وكما هو معلوم ليس هناك نص من القرآن أو السنة توجب الرق أو تفرضه بل كل ما هناك انه أباحه في حالات معينة عند الحروب ، والإسلام لم يحبذ إلغاء أمر استقر في المجتمع منذ القدم وبمنابع متعددة والملاحظ أن الإسلام لم يبيح أي من الطرق التي كانت سائدة لجلب الرق إلا الرق المجلوب بالأسر والسبي في الحروب وعلل الأستاذ محمد بن ناصر الجعون ذلك بقوله " كيف يمكن أن يسد هذا الباب والأعداء سوف يأسرون المسلمين ويأخذونهم إلى بلادهم فإذا لم يكن مع المسلمين ما يقابلونهم به ويفكون به أسراهم فلهذا كان من مصلحة الإسلام والمسلمين الإبقاء عليها ، ورغبة في التخلص من الرق تدريجيا جعل الإسلام العتق من القرابات ، واستوصي بهم خيرا (9 ) .


(‌ ب) الوضع القانوني للمدنيين القادرين على القتال : كما أوضحنا سابقا أن الفقهاء قد اختلفوا فيمن يعد من المدنيين من الأعداء فحصرهم البعض في النساء والأطفال وتوسع البعض واعتبر كل من لم يقاتل يعد من المدنيين ، ووفقا لهذين الرأيين فإن أحكام هؤلاء تأخذ حكم المقاتلين وفقا للرأي الأول وتسري عليهم أحكام الأسرى وهي إما من أو فداء أو قتل أو استرقاق ، وتسري عليهم أحكام السبي وفقا لأصحاب الرأي الثاني .


ونحن نرجح الرأي الأخير لموافقته لمقاصد الشرع في محاربة الرق ولتوافقه لما عليه العمل في العصر الحالي لاسيما انه قد علل أن الغرض من إبقاءه كان لمفاداة أسرى المسلمين بهم .


(2) الوضع القانوني للمدنيين عند انتهاء الحرب بالصلح: إن وقف القتال والحرب بالصلح يضمن للأطراف التصالح بما فيه مصلحة الطرفين ، وللأطراف أن يحتكموا إلى بنود التعاقد ، وهذه البنود هي التي تحدد الوضع القانوني لرعايا العدو فهم على ما تصالحوا عليه ، فإن نص على أن الرعايا أحرار فهم كذلك وإن نص على استرقاقهم فهم كذلك وقد فرق بعض الفقهاء بين الأقاليم التي تصالحوا مع المسلمين قبل أن يظهر المسلمون عليهم فهؤلاء يرون أن وضعهم على ما تصالحوا عليه ، أما إذا كان الصلح بعد أن ظهر المسلمين على أقاليمهم فهؤلاء يرون أن يأخذ حكمهم حكم العنوة (10) والذي لا خلاف عليه أن الجزية تضرب على أهل الكتاب منهم والمجوس ليؤدونها للمسلمين ونحن نرى أن انتهاء الحرب بالصلح لا يؤثر على الوضع القانوني للمدنيين ما لم يتصالحوا على غير ذلك ، وعموما فإن أهل البلاد التي فتحت صلحا لا سبأ عليهم ولا رق وأنهم أحرار (11 ) .


(3) الوضع القانوني للرعايا الذين يسلِمون بعد انتهاء الحرب: أن الإسلام يعصم الدم والمال ، والغاية المبتغاة أن يسلم العدو وقتال أهل الكتاب تنتهي بإسلامهم أو قبولهم إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون ، والمشركون إما الإسلام أو القتل ، ومن يسلم منهم لا سبأ عليه ومالهم و أرضهم لهم ، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، وهذا يعني أنه لا اثر للحرب على وضع من أسلم منهم .

ونخلص مما تقدم أن الطريقة التي تنتهي بها الحرب تحدد الوضع الشرعي للرعايا المدنيين من العدو وإن الإسلام وضع تلك الأحكام معاملة بالمثل وتقريرا لما كان سائدا في ذلك الزمان ، وأنها جعلتها من السياسة الشرعية يتخذ فيها الإمام ما يرى فيه الصلاح للامة الإسلامية مع مراعاة الحدود الشرعية في ذلك وتعويض المتضرر من قراراته من سهم المصالح




/منقول/