تطور فن الحرب في القرنين 18و19م
أحدثت الثورة الفرنسية والحروب الأخرى في أواخر القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر تبدلاً كبيراً في طبيعة الحرب وأساليب خوضها والنظريات المتعلقة بها، وأصبح استكمال الجيوش يعتمد على التجنيد، الأمر الذي هيأ الإمكانات لتعبئة جيوش ضخمة وإدخال تبدلات أساسية في تنظيمها وبنيتها ونوعية عتادها، وتبلورت تنظيمات الأركان لتصبح هيئات قيادة متخصصة، وغدت المهمة الرئيسية لأعمال القتال سحق قوات العدو وليس احتلال أرضه. وتتحقق أغراض الاستراتيجية بحشد القوى الرئيسية على الاتجاه الحاسم وسحق قوى العدو في موقعة عامة تضمن النصر. وفي الوقت نفسه ازدادت فاعلية الدفاع الاستراتيجي من أجل تهيئة الشروط المناسبة لسحق العدو والمحافظة على الأرض. كذلك طرأت تبدلات جذرية على التكتيك وأساليبه ارتكزت على تحقيق التفوق الحاسم بالقوى والوسائط على قطاع الهجوم والمناورة مع الاحتفاظ باحتياطات قوية. واستخدم نابليون بونابرت المدفعية بكثافة عالية وبرع في المناورة بالاحتياط على نطاق واسع من أجل تحويل مجرى المعركة.
وكان لبناء السكك الحديدية واختراع البرق الكهربائي والبارود اللادخاني والمدفعية والأسلحة النارية المحلزنة السبطانات واستخدامها في أعمال القتال على نطاق واسع أثر كبير في تبدل الاستراتيجية والتكتيك وصورة الأعمال الحربية عامة، فازدادت سرعة حشد القوات وفتحها وتموينها، وتوافرت وسائل قيادتها واتصالاتها، وازداد مدى الأسلحة وسرعة الرمي ودقته، فاضطرت القيادات إلى التخلي عن نظام الأرتال والتحول إلى ترتيب الأنساق والسلاسل.
تطور فن الحرب في النصف الأول من القرن العشرين
مع بداية القرن العشرين وإبان الحرب العالمية الأولى وبعدها ازداد تعداد الجيوش ازدياداً كبيراً جداً وصار بالإمكان تزويدها بكميات هائلة من الأسلحة النارية والمدفعية السريعة الرمي وأجهزة الاتصال والقيادة، وصار الطيران والمدرعات من وسائل القتال الأساسية، وتطورت طرق المواصلات وازدادت قدرة القوات على المناورة والتنقل فاتسعت مناطق الأعمال القتالية وزادت أبعادها، وتوثقت الروابط بين المعارك وتتابعها مما أدى إلى بدء ظهور نوع جديد من النشاط القتالي هو «العملية» التي تتألف من سلسلة معارك ومواقع متصلة ومتزامنة أو متتابعة ينفذها جيش واحد أو عدة جيوش وفق فكرة واحدة وقيادة واحدة. و تطلبت الحروب الاستخدام الأفضل لكل مصادر الدولة المادية والبشرية واحتياطاتها الاستراتيجية، وبرزت ضرورة عناية القيادة السياسية والاستراتيجية بتنظيم قيادات القوات المسلحة على مختلف الاتجاهات ومسارح العمليات والتنسيق بينها. وكان من أهم منجزات المنظرين العسكريين وضع نظريات جديدة عن الحرب وأساليب خوضها فطرح المنظّرون السوفييت نظرية العملية الهجومية العميقة، والتخطيط لإبطال كامل عمق العدو بنيران المدفعية وضربات الطيران البعيد المدى وإحداث صدع في الدفاع تندفع من خلاله القوات السريعة الحركة لتطوير الهجوم في العمق العملياتي كله. وتتألف العملية من عدة مراحل تبدأ بخرق الدفاع التكتيكي وتطويره في العمق العملياتي بقوات مدرعة وميكانيكية كبيرة وإنزالات جوية. وأخذت النظريات بالتحسينات التي طرأت على الأسلحة والعتاد ووسائل الاتصال والنقل، وتنامي إمكانات الدعم الناري وسرعة الحركة، وأوصت بأفضلية خرق الدفاع في آن واحد أو بالتتابع على أكثر من اتجاه، أما القوة الأساسية التي تتولى تنفيذ العملية فهي الجبهة، وقوامها جيشان أو ثلاثة جيوش على الاتجاه الرئيسي وجيش أو جيشان على الاتجاهات المساعدة. كذلك راعت النظرية، في ضوء أعمال القتال التي جرت في بداية الحرب العالمية الثانية، خوض الدفاع الاستراتيجي وتنسيق الدفاع على عمق كبير وجبهة عريضة والمناورة بالقوى والوسائط على الاتجاهات المهددة، وإنهاك العدو بالمقاومة العنيدة على خطوط مهيأة سلفاً، وتسديد الضربات والهجمات المعاكسة لتهيئة الشروط المناسبة للانتقال إلى الهجوم. وفي الوقت نفسه تبنت القيادة الاستراتيجية الألمانية أي فكرة الحرب الصاعقة والحسم واستخدام المدرعات والقوات الميكانيكية والطيران بكثافة على الاتجاهات المختارة للهجوم. في حين تبنى الحلفاء الغربيون، ولاسيما القيادة الاستراتيجية الأمريكية، فكرة التفوق الكاسح على قوات العدو وإنهاكه بضربات الطيران الكثيفة، وخاصة الطيران البعيد المدى، وبنيران المدفعية وتنفيذ العمليات على المسارح البرية بجيوش ميدان أو مجموعات جيوش، يساعدها في تحقيق أغراضها عتاد قتالي حديث زاد في قوتها الضاربة وسرعة تحرك قواتها.
تطور فن الحرب بعد الحرب العالمية الثانية