مبدأ لا مسؤولية بدون خطأ
الدكتور براء منذر كمال
أستاذ القانون الجنائي الدولي بجامعة تكريت

المقدمة
في العصور القديمة وفي ضل التشريعات التي تتسم بالقسوة والصرامة كانت المسؤولية الجنائية تثار بمجرد ارتكاب المتهم للفعل المحظور، أو امتناعه عن تنفيذ الفعل المفروض ،وقيام العلاقة السببية بين النتيجة التي حصلت وبين ذلك الفعل أو الامتناع.فالركن المعنوي كان له دورٌ ضئيل أو معدوم في بعض المجتمعات.
ولكن ومع تطور التشريعات الجنائية وبعد نضال طويلة خاضت غماره البشرية تمخض الفكر الجنائي عن اشتراط الخطأ لقيام المسؤولية الجنائية، فلابد لمساءلة الشخص عن ما ارتكبه من فعل مؤثم يجب إثبات القصد الجنائي لديه (الخطأ العمدي) أو الخطأ غير العمدي ،فإذا لم يثبت ارتكابه أي خطأ فلا مسؤولية ولا عقاب عليه.
وهكذا فإن المسؤولية الجنائية أصبح من الضروري لقيامها ثبوت خطأ بمعناه الواسع (الخطأ العمدي أو الخطأ غير العمدي)،وأصبح للركن المعنوي للجريمة دورٌ بارز ومهم في قيام تلك المسؤولية.
وقد يخلط البعض بين مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون خطأ ومبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص، فالمبدأ الأخير يقضي بأن الجرائم والعقوبات لها مصدر واحد هو النص القانوني ، أو أن يكون قراراً مبنياً على نص قانوني، فلا يملك القاضي تجريم مالم يرد بتجريمه أو توقيع عقوبة لم يرد بها نص ولا يجوز له القياس في دائرة التجريم والعقاب.وبالتالي فإن التصرفات التي تخرق القواعد الاجتماعية المتعارف عليها سوف لن تدخل في نطاق التجريم والعقاب مالم يتدخل المشرع ويجرمها ، أما قبل صدور النص ونفاذه فإنها تبقى في دائرة الإباحة وأن ثبت قيام الشخص بارتكاب مادياتها وثبوت الخطأ بحقه.فتعاطي الخمر في العديد من البلدان الإسلامية يعد مباحاً بالرغم من تحريمه شرعاً ،وبالتالي فإن ثبوت تعاطي الشخص للخمور في تلك البلدان لايعد جريمة وإن ارتكبها عمداًً.فلابد أولاً من صدور النص ونفاذه ومن ثم البحث في إثبات أركان الجريمة لمساءلة مرتكبها.
في حين أن مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون خطأ، يعد مرحلة لاحقة، فبعد التثبت من أن التصرف يجرمه القانون ، يأتي البحث عن أركان الجريمة ، ومن ضمنها البحث عن خطأ من اقترف السلوك المجرم ،فإذا ثبت ارتكابه لماديات الجريمة فإن ذلك لا يكفي لقيام مسؤوليته ، مالم يثبت توافر خطأه بالمعنى الواسع ، أي أنه لابد من ثبوت القصد الجنائي بحق ، أو ثبوت خطأه غير العمدي ، فإذالم يثبت خطأه على النحو المتقدم فلا يسأل جنائياً.
لقد انقسم الفقه الجنائي حول ما تقدم فذهب فريقٌ منهم إلى إطلاق عبارة "قاعدة لا مسؤولية جنائية بدون خطأ"وحجتهم في ذلك أن لكل قاعدةً استثناءات ، وهذه القاعدة ترد عليها استثناءاتٌ متعددة لعل من أهمها ما يقرره المشرع من قيام المسؤولية الجنائية في بعض الجرائم الاقتصادية والمخالفات بمجرد ثبوت الركن المادي بحق مرتكبها وهو ما يعرف فقها " بالجرائم المادية" ،وكذلك الحال بشأن المسؤولية الجنائية عن النتائج المحتملة ،والتي يلقي المشرع وزرها على عاتق الشريك وإن لم يبدر منه خطأً جنائياً.
وذهب فريق ثانً –نؤيده- إلى إطلاق عبارة "مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون خطأ" وحجتهم في ذلك أن هذا المبدأ لا يمكن خرقه أو الخروج عنه ولا ترد عليه أي استثناءات،وحتى ما يقرره المشرع من مسؤولية في بعض الجرائم المادية ، أو المسؤولية عن النتائج المحتملة، فإن الخطأ فيها مفترضٌ بحق مرتكب الفعل .
وعلى هدي مما تقدم فلابد للتعرف على مبدأ لا مسؤولية جنائية بدون الخطأ من البحث أولاً في مفهوم الخطأ ، ومن ثم البحث في المسائل التي يعدها البعض خروجاً عن المبدأ.

مفهوم الخطأ (مدلوله)


الخطأ الجنائي هو جوهر الركن المعنوي ، ويتمثل هذا الخطأ في إتجاه معين لإرادة الجاني فإذا أتخذ صورة العمد سمي بالقصد الجنائي وإذا أتخذ صورة الخطأ سمي بالخطأ غير العمدي ،وبذلك فإن كلا من القصد والخطأ يقوم على اتجاه إرادي منحرف مخالف للقانون ،فهو ينطوي على إرادة آثمة بالنظر إلى الوجهة التي انصرفت إليها.
وهكذا فإن الخطأ بمفهومه الواسع من الناحية الجنائية فكرة قانونية وأخلاقية في الوقت ذاته ، فلا يمكن توجيه اللوم إلى الجاني عن طريق العقاب إلا ضد من صدر عنه السلوك المجرم ، كما أن الجزاء الجنائي لا يحقق أثره في الردع العام إلا إذا شعر الناس أن هذا الجزاء لا يلحق إلا بمن توافر لديه خطأ معين تسبب في وقوع الجريمة وسواء كان ذلك الخطأ عمدياً أم غير عمدي .
وعلى هدي مما تقدم فإننا سنوضح وبإيجاز أنواع الخطأ ،فأنواع الخطأ أثنين هما القصد الجرمي ، والخطأ غير العمدي ، وذهب فريق من الفقه إلى أن هناك نوعٌ ثالث وهو القصد المتعدي ، إلا أننا نرى أن النوع الأخير هو صورة من صور القصد الجنائي وليست نوعاً مستقلاً من أنواع الخطأ .
أولاً-القصد الجرمي:القصد الجرمي هو النوع الأول من أنواع الخطأ وقد عرفه المشرع العراقي في الفقرة (1) من المادة (33) من قانون العقوبات بالقـول : (( القصد الجرمي هو توجيه الفاعل إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفاً إلى نتيجة الجريمة التي وقعت أو أي نتيجة جرمية أخرى))
وهكذا فإن القصد الرمي يتحقق باتجاه إرادة الجاني إلى النشاط الجرمي الذي باشره وإلى نتيجة الجريمة التي وقعت أو أي نتيجة جرمية أخرى.ويتضح مما تقدم أن القصد الجنائي ينطوي على عنصرين هما الإرادة ارتكاب الجريمة والعلم بجميع عناصرها القانونية.والقصد الجرمي يقسم إلى أقسام متعددة ولإعتبارات مختلفة ، فهو يقسم من حيث عموميته إلى قصد عام وقصد خاص ،كما يقسم إلى قصد مباشر وقصد غير مباشر،وقصد محدد وقصد غير محدد ،وإلى قصد بسيط وقصد مع سبق الإصرار ،وإلى قصد مباشر وقصد إحتمالي ، بالإضافة إلى القصد المتعدي الذي يعده البعض نوعاً مستقلاً من أنواع الخطأ ،ولأهميته فسنتاوله بإيجاز.
القصد المتعدي : يتحقق هذا القصد إذا ارتكب الجاني سلوكاً إجرامياً بقصد أحداث نتيجة جرمية معينة إلا أن سلوكه هذا أفضى إلى نتيجة جرمية أشد من تلك التي سعى إليها في البداية ولم يكن يقصدها أبداً.
وقد تضمن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 العديد من جرائم القصد المتعدي من دون أن يضع نظرية عامة لها كما فعل المشرع الإيطالي ، ومن تلك الجرائم : جريمة الحريق العمد المفضي إلى موت (الفقرة 1 من المادة 342)وجريمة تعريض وسائل النقل للخطر عمداً مما ينشأ عنه موت إنسان (الفقرة 1 من المادة 354) وجريمة الضرب المفضي إلى موت (المادة 410) والتي نتحفظ على تسميتها ونفضل إطلاق تسمية الإيذاء المفضي إلى موت عليها كون الركن المادي فيها يتسع ليشمل صور متعددة من صور الإيذاء لا تقتصر على الضرب فقط ومن شأنها إحداث الموت .وكذلك جريمة الإيذاء العمد المفضي إلى عاهة مستديمة (المادة 412) ، وجريمة الإجهاض المفضي إلى موت (المادتين 417 و418 من قانون العقوبات).
ثانياً-الخطأ غير العمدي:يُراد به عدم اتخاذ الجاني واجب الحيطة والحذر الذي يقتضيه النظام القانوني وعدم حيلولته تبعاً لذلك من أن يؤدي سلوكه إلى حدوث النتيجة الجرمية. بينما يكون بوسع الشخص المعتاد إذا وجد في ظروف الفاعل أن يحول دون حدوثها .
وتعد جرائم الخطأ أقل عقاباً من الجرائم العمدية كونها أقل خطراً منها ، وأمثلتها كثيرة في قانون العقوبات العراقي ، ولعل المثال الأبرز هو جريمة القتل الخطأ (المادة 411) ،وجريمة الإيذاء الخطأ (المادة 416 ).