تكييف المسؤولية الطبية

انعقد الاجماع الفقهي والقضائي على قيام المسؤولية المدنية للطبيب عن الخطأ والتقصير الصادر من قبلة اثناء معالجته للمرضى، ولم يكن هذا الامر مثاراً للجدل والنقاش، الا ان الجدل ثار حول تكيف هذه المسؤولية فيما اذا كانت مسؤولية عقدية، أم مسئوولية تقصيرية.

ولتكيف مسؤولية الطبيب المدنية، لابد من وضع هذه المسؤولية في مكانها بالنسبة الى غيرها من انواع المسؤولية، وتحديد نطاق دائرتها في وسط نطاق دوائر اوسع منها، كالمسؤولية الادبية والجنائية، والمدنية. وساعرض في هذا المبحث لانواع المسؤولية في مطلب اول وفي المطلب الثاني ساعرض بالتحديد لنوع المسؤولية الطبية.

: انواع المسؤولية

تعرف المسؤولية بانها حالة الشخص الذي ارتكب امر يستوجب المؤاخذة وتنقسم المسؤولية بشكل عام الى قسمين رئيسيين هما المسؤولية الادبية والمسؤولية القانونية. 1. المسؤولية الادبية: وهي المسؤولية التي لا تدخل في دائرة القانون ولا يترتب عليها جزاء قانوني، بل ان امرها موكول الى الضمير والوجدان والوازع الداخلي، وبالتالي هي حالة الشخص الذي يخالف قاعدة من قواعد الاخلاق، والمتعارف عليها بانها مكملة للقواعد القانونية. يتضح ان المسؤولية الادبية تقوم على اساس ذاتي محض فهي مسؤولية امام الله وامام الضمير وكما ان هذه المسؤولية تتحقق حتى لو لم يوجد ضرر. 2. المسؤولية القانونية: وهي المسؤولية التي تدخل في دائرة القانون ويترتب عليها جزاء قانوني، وبالتالي هي حالة الشخص الذي يخالف قاعدة من قواعد القانون، ولا تتحقق هذه المسؤولية الا اذا وجد ضرر ولحق هذا الضرر شخص اخر غير المسؤول.

ونستخلص مما سبق ان المسؤولية الادبية اوسع نطاق من المسؤولية القانونية، لانها تتصل بعلاقة الانسان بربة وبعلاقته بنفسة وبعلاقتة مع الناس، بخلاف المسؤولة القانونية التي لا تتصل الا بعلاقة الانسان بغيرة من الناس. وتنقسم المسؤولية القانونية بدورها الى قسمين جنائية ومدنية


: 1. المسؤولية الجنائية: وهي التي تتحقق عندما يرتكب الشخص فعلا يشكل جرما يعاقب عليه القانون، فتقوم هذه المسؤولية على اعتبار ان هناك ضرر اصاب المجتمع من جراء ارتكاب هذا الشخص فعلا يخالف القواعد القانونية العامة التي تنظم شؤون الحياة في المجتمع وتترتب على مخالفته لهذه القواعد جزاء جنائي محدد بنصوص القانون.

2. المسؤولية المدنية: وهي التي تتحقق عند اخلال المدين بالتزام يجب عليه، وترتب على هذا الاخلال ضررا اصاب الغير، ويعرفها البعض بانها التزام شخص بتعويض الضرر الذي اصاب شخص اخر، وبالتالي يلزم بتعويض الضرر الذي لحق الغير.

يتبين لنا مما سبق ان قيام احدى المسؤوليتين لا يتعارض مع قيام المسؤولية الاخرى، فقد يترتب على العمل الواحد مسؤولية جنائية ومسؤولية مدنية في آن واحد، كالقتل، والسرقة، والقذف، فكل عمل من هذه الاعمال يحدث ضرر في المجتمع والفرد في وقت واحد، فيكون من ارتكب هذا الفعل مسؤولا مسؤولية جنائية جزاءها العقوبة، ومسؤولا مسؤولية مدنية جزاءها التعويض. وقد تتحقق المسؤولية الجنائية دون المدنية اذا لم يلحق الفعل ضررا بالغير، كما في بعض جرائم الشروع وحمل السلاح ومخالفات المرور، وقد تتحقق المسؤولية المدنية دون المسؤولية الجنائية اذا الحق الفعل ضررا بالغير دون أن يدخل ضمن الاعمال المعاقب عليها في القوانين الجنائية، كالاضرار بمال الغير عن غير عمد وسوء العلاج الطبي. وهذا وتنقسم المسؤولية المدنية بدورها الى قسمين المسؤولية العقدية، والمسؤولية التقصيرية (الفعل الضار).

أولاً: المسؤولية العقدية. تقوم هذه المسؤولية على الاخلال بالتزام عقدي يختلف باختلاف ما اشتمل عليه العقد من التزامات، فالدائن والمدين في المسؤولية العقدية يرتبطان بعقد، وفي حالة اخلال احدهما بشروط العقد تتحقق المسؤولية، ومثال ذلك العقد المبرم ما بين البائع والمشتري ثم يتعرض البائع للمشتري بالعين المبيعة فيخل البائع بالتزامه العقدي من عدم التعرض، نستطيع القول ان المسؤولية العقدية هي حالة الشخص الذي يخالف التزام عقدي ويخل بشروط العقد المتفق عليها.

ثانياً: المسؤولية التقصيرية تقوم هذه المسؤولية عند الاخلال بالتزام قانوني واحد لا يتغير وهو الالتزام بعدم الاضرار بالغير، فالدائن والمدين لا يرتبطان بعقد قبل ان تتحقق المسؤولية بل ان المدين اجنبيا عن الدائن، ومثال ذلك ان تكون العين في يدي مالكها ويتعرض له فيها اجنبي ويكون المدين بالتالي قد اخل بالتزام قانوني عام يفرض عليه عدم الاضرار بالغير ويدخل في الغير مالك العين. ونستطيع القول ان المسؤولية التقصيرية هي حالة الشخص الذي يخالف التزام فرضة علية القانون.

ومن خلال ما سبق يتبين لنا ان هناك اهمية للتفرقة ما بين المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية ترجع هذه التفرقة الى طبيعة كل من المسؤوليتين وتكمن اهمية هذه التفرقة فيما يلي :
1. من حيث الاهلية: يشترط لقيام المسؤولية العقدية كمال الاهلية لشخص المتعاقد بينما لا يشترط ذلك في المسؤولية التقصيرية.
2. من حيث الاعذار: ان المطالبة بالتعويض وفق المسؤولية العقدية يتطلب توجية اعذار للمدين يبين فية ضرورة قيام المدين بتعويض الضرر الناجم عن اخلالة بشروط تنفيذ العقد، باستثناء الحالات المنصوص عليها في القانون والاتفاق، اما المسؤولية التقصيرية فلا يشترط فيها مثل هذا الاعذار.
3. من حيث مدى التعويض عن الضرر (الضمان): ففي المسؤولية العقدية لا يسأل المدين الا عن الضرر المباشر والمتوقع وقت ابرام العقد، باستثناء حالتي الغش والخطأ الجسيم، اما في المسؤولية التقصيرية فيسأل المدين عن الضرر المباشر المتوقع وغير المتوقع.
4. من حيث الاختصاص: ينعقد الاختصاص في المسؤولية العقدية للمحكمة التي في دائرتها موطن المدعى عليه او المدعى واحيانا للمحكمة التي يقع في دائرتها مكان انعقاد العقد، هذا كله اذا لم يتم الاتفاق على غير ذلك، اما في المسؤولية التقصيرية فينعقد الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها مكان وقوع الفعل الضار
. 5. من حيث التضامن: ان التضامن في المسؤولية العقدية لا يكون الا بنص القانون او الاتفاق عليه، بخلاف الامر في المسؤولية التقصيرية الذي يفترض فيها التضامن.
6. من حيث نطاق المسؤولية عن فعل الغير: يسأل المدين وفقاً للاحكام المسؤولية العقدية عن فعل كل شخص استعان به في تنفيذ الالتزام، اما في المسؤولية التقصيرية فلا يسأل الشخص الا عن افعالة الشخصية باستثناء ما نص عليه القانون، اي ان الاصل في المسؤولية التقصيرية انها شخصية الا اذا نص القانون على غير ذلك.
7. من حيث الاعفاء من المسؤولية: يجوز الاتفاق على الاعفاء من المسؤولية العقدية وهذا ما نصت عليه صراحة المادة (210) من القانون المدني المصري، في حين ان الاتفاق على الاعفاء من المسؤولية التقصيرية يكون باطلاً وقد نصت عليه المادة (270) من القانون المدني الاردني على ذلك صراحة. وفي حالة اذا توافر في الفعل مسؤولية عقدية وتقصيرية فان المسؤولية العقدية تجب المسؤولية التقصيرية
.8. من حيث الاثبات: يقع على الدائن في المسؤولية العقدية اثبات العقد، وعلى المدين اثبات انه قام بتنفيذ التزامه او اثبات السبب الاجنبي الذي حال بينه وبين تنفيذه للإلتزام المترتب عليه، أما في المسؤولية التقصيرية فيقع عبء الاثبات على الدائن (المضرور) فهو الذي يلزم باثبات خطأ المدين والضرر والعلاقة السببية.
9. من حيث رقابة محكمة التمييز: يذهب جانب من الفقة الى انه ليس لمحكمة التمييز بسط رقابتها على المسؤولية العقدية، الناجمة عن إخلال بالتزام عقدي وحجتهم بذلك ان الامر يتعلق بتفسير العقد الذي هو من مسائل الموضوع والتي يختص بها قاضي الموضوع، ولا رقابة لمحكمة التمييز على ذلك، بينما في المسؤولية التقصيرية والتي هي اخلال بالتزام قانوني مفروض على الكافة. فإن محكمة التمييز تراقب القاضي عندما يحكم وذلك وفقا لاحكام هذه المسؤولية لانها مسؤولية قانونية. 10. من حيث مرور الزمان المسقط للدعوى: تنقضي دعوى الضمان في المسؤولية العقدية بالتقادم الطويل، في حين ان دعوى الضمان في المسؤولية التقصيرية ينقضي بمرور 3 سنوات من تاريخ العلم بحدوث الضرر او المسؤولية عنه، وفي جميع الاحوال بمرور (15) خمسة عشرة سنة من يوم وقوع الفعل الضار.