4 – القيافة :


وهي مصدر قاف بمعنى تتبع أثره ليعرفه ، يقال :
فلان يقوف الأثر ويقتافه والقائف هو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل
بأبيه وأخيه (10) ، والمراد بها هنا / الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء
المولود(11).



وقد ذهب الحنفية إلى أن القيافة لا يلحق بها النسب لأنها ضرب من الظن
والتخمين بينما ذهب جمهور العلماء بالأخذ بها لدلالة السنة والآثار عليها، ومنها
حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ذات
يوم مسروراً تَبْرُقُ أسارير وجهه ، فقال : "ألم تريْ أن مجزَّزاً المُدْلِجي
نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت
أقدامها فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض "(12).



وجه الدلالة :


أن سرور النبي – صلى الله عليه وسلم - دال على
إقراره بالقيافة وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يسمع باطلاً فيقره أو يسكت
عنه(13).



5 – القرعة :


وذلك عند التنازع على طفل ولا بينة لأحدهم فيجرى
القرعة وهذه أضعف الطرق ولم يأخذ بها جمهور العلماء وهو مذهب الظاهرية وإسحاق
ورواية عند الحنابلة وكذا المالكية في أولاد الإماء (14).



وهذه الطريقة غير معمول بها في هذا الزمان بفضل الله ثم التقدم العلمي
في مجال تحليل الدم والبصمة الوراثية إذ شاعت واستقر العمل بها في محل التنازع في
النسب , ولا ريب أن القرعة لا يصار إليها لوجود الدليل المرجح .



هل البصمة يثبت بها النسب ؟


ذهب العلماء المعاصرون
إلى اعتبار " البصمة الوراثية " طريقاً من طرق إثبات النسب من حيث
الجملة واختلفوا في بعض القضايا الفرعية وقد جاء في قرار المجمع الفقهي بالرابطة
" خامساً : يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في
الحالات الآتية :



أ – حالات التنازع على مجهول
النسـب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع على مجهول النسب
بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .



ب – حالات الاشتباه في
المواليد في المسـتشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال
الأنابيب .



ج – حالات ضياع الأطفال
واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب وتعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث
لم يمكن التعرف على هويتها أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحرب والمفقودين
"(15).



وقد رأى عدد كبير من الباحثين
قياس البصمة الوراثية على القيافة من باب أولى أو اعتبارها قرينة قوية والتي يأخذ
بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود وقد جاء في توصية ندوة الوراثة والهندسـة
الوراثية المنـبثقة عن المنظمة الإسـلامية للعلوم الطبية : " البصمة الوراثية
من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق
من الشخصية ، ولا سيما في مجال الطب الشرعي ،وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية
التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية ، وتمثل تطوراً عصرياً
عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه
، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى "(16).



ومن خلال التوصية السابقة والبحوث المقدمة في هذا المجال نجد أن
فريقاً من الفقهاء يرى قياس البصمة الوراثية على القيافة وأن الأحكام التي تثبت
بالقيافة تثبت في البصمة الوراثية ، ويظهر لي أن هذا القياس بعيد للأمور التالي :



1 – أن البصمة الوراثية قائمة
على أساس علمي محسوس فيه دقة متناهية والخطأ فيه مستبعد جداً ، بخلاف القيافة
والتي تقوم على الاجتهاد والفراسة وهي مبنية على غلبة الظن والخطأ فيها وارد ففرق
بين ما هو قطعي محسوس وبين ما بني على الظن والاجتهاد .



2 – أن القيافة يعمل بها في
مجال الأنساب فقط بخلاف البصمة الوراثية فهي تتعداها لمجالات أخرى كتحديد الجاني
وتحديد شخصية المفقود .



3 – أن القيافة تعتمد على
الشبه الظاهر في الأعضاء كالأرجل وفيها قدر من الظن الغالب ، أما البصمة الوراثية
فهي تعتمد اعتماداً كلياً على بنية الخلية الجسمية الخفية وهي تكون من أي خلية في
الجسم ونتائجها تكون قطعية لكونها مبنية على الحس والواقع .



4 – أن القافة يمكن أن
يختلفوا، بل العجيب أنهم يمكن أن يلحقوا الطفل بأبوين لوجود الشبه فيهما(17)، أما
البصمة فلا يمكن أن تلحق الطفل بأبوين بتاتاً ويستبعد تماماً اختلاف نتائج البصمة
الوراثية ولو قام بها أكثر من خبير فالقياس بعيد فهذا باب وهذا باب .



وبناء على ما تقدم فالقيافة باب والبصمة الوراثية باب آخر وهو يعتبر
بينة مستقلة أو قرينة قوية يؤخذ بها في الحكم الشرعي إثباتاً ونفياً وذلك للأمور
التالية :



1 – أن البينة لم تأت في
الكتاب والسنة محصورة في الشهادة والإقرار فقط بل كل ما أظهر الحق وكشفه فهو بينة
قال تعالى في قصة موسى مع فرعون : " قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني
إسرائيل * قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي
ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"(17).



وجه الدلالة :


قال ابن القيم : " فالبينة اسم لكل ما يبين
الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد والمرأتين لم يوف مسماها حقه
، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان ، وإنما أتت مراداً بها الحجة
والدليل والبرهان مفردة ومجموعة ، وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -:
"البينة على المدعي" المراد به : أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له
،والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها،
كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد ، والبينة
والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى …
فالشرع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال ، بل من استقرأ الشرع في مصادره
وموارده وجده شاهداً لها بالاعتبار ، مرتباً عليها الأحكام "(18).



2 – قوله تعالى : "وشهد
شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد
من دبر فكذبت وهو من الصادقين* فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن
كيدكن عظيم" (19).



وجه الدلالة :


أن موضع قد القميص اعتبر دليلاً على صدق أحدهما
وتبرئة الآخر وسمى الله ذلك شهادة(20).



3 – في قصة فتح خيبر قال
النبي – صلى الله عليه وسلم - لعم حيي بن أخطب: " ما فعل مسك بن حيي الذي جاء
به من النضير ؟ قال أذهبته النفقات والحروب ، قال : العهد قريب والمال أكثر من ذلك
، فدفعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلى الزبير فمسه بعذاب فقال : قد رأيت
حيياً يطوف في خربة هاهنا ، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة "(21).



وجه الدلالة :


أن النبي – صلى الله عليه وسلم - عمل بالقرينة
العقلية واعتد بها فكثرة المال وقصر المدة فيه دلالة على الكذب ، وقد اعتد بهذا
الدليل وأمر بضربه وحاشاه أن يأمر بضربه بلا حجة لأنه نوع من الظلم وهذا مستبعد في
حقه – صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على اعتبار القرينة والعمل بموجبها .



فهذه الأدلة وغيرها دالة على أن الحق إذا تبين بأي وجه كان الأخذ به
هو المتعين ، ولا شك أن بعض القرائن أقوى بكثير من الشهادة ، فالشهادة يمكن أن
يتطرق إليها الوهم والكذب وكذا الإقرار يمكن أن يكون باطلاً ويقع لغرض من الأغراض
ومع هذا تعتبر الشهادة والإقرار بينة شرعية يؤخذ بهما لكونهما مبنيتان على غلبة
الظن .



وإذا علمنا أن نتائج البصمة الوراثية قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى
الوالدين أو نفيهم عنهم(22)، وفي إسناد العينة (من الدم أو المني أو اللعاب) التي
توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها بشهادة مختصين تعين الأخذ بها واعتبارها بينة
مستقلة يثبت بها الحكم نفياً أو إثباتاً ولو نظرنا إلى واقع ثبوت النسب بالشهادة
وكونها تبنى على غلبة الظن ويكفي فيها الاستفاضة والشهرة مع وجود الاحتمال بالخطأ
مع واقع البصمة التي لا تكاد نتائجها تخطئ في ذاتها ، والخطأ الوارد فيها يرجع إلى
الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك نستطيع أن نجزم بأن البصمة الوراثية حجة
شرعية يوجب العمل بمضمونها إذا توفرت شروطها ومن تأمل مقاصد الشريعة والعدل والحكمة
التي قامت عليها الأحكام ظهر جلياً رجحان هذا الأمر قال ابن القيم : " فإذا
ظهرت أمارات العدل ، وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه ، والله أعلم
وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى
دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل
بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط
، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له "(23).



ضوابط إجراء تحليل البصمة الوراثية :


اشترط الفقهاء الباحثين والأطباء المختصين في البصمة الوراثية شروطاً
عديدة حتى تقبل ، والذين رأوا أنها تقاس على القيافة اشترطوا شروط القيافة مع بعض
الزيادات (24).



والشروط الواجب توفرها ما يلي :


1 – أن لا يتم التحليل إلا
بإذن من الجهة المختصة .



2 – يفضل أن تكون هذه المختبرات
تابعة للدولة وإذا لم يتوفر ذلك يمكن الاستعانة بالمختبرات الخاصة الخاضعة لإشراف
الدولة ، ويشترط على كل حال أن تتوافر فيها الشروط والضوابط العلمية المعتبرة
محلياً وعالمياً في هذا المجال .



3 – يشترط أن يكون القائمون
على العمل في المختبرات المنوطة بإجراء تحاليل البصمة الوراثية ممن يوثق بهم علماً
وخلقاً وألا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد
المتداعيين أو حكم عليه بحكم مخل بالشرف أو الأمانة (25).



4 – أن يجري التحليل في
مختبرين على الأقل معترف بهما ، على أن تؤخذ الاحتياطات اللازمة لضمان عدم معرفة
أحد المختبرات التي تقوم بإجراء الاختبار بنتيجة المختبر الآخر(26).



5 – توثيق كل خطوة من خطوات
تحليل البصمة الوراثية بدءاً من نقل العينات إلى ظهور النتائج النهائية حرصاً على
سلامة تلك العينات ، وضماناً لصحة نتائجها ، مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند
الحاجة.



6 – عمل البصمة الوراثية بعدد
أكبر من الطرق وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية لضمان صحة النتائج (27).



7 – أن يجري اختبار البصمة
الوراثية مسلم عدل ، لأن قوله شهادة ، وشهادة غير المسلم لا تقبل على المسلم إلا
الوصية في السفر ونحوه(28).



والخلاصة :


أن البصمة الوراثية تكون بينة مستقلة يجب العمل بمقتضاها إذا توفرت
الشروط اللازمة ، وأنها لا تقاس على القيافة فهي باب آخر ، وأن عامة المعاصرين
يرون صحة الاعتماد عليها في حالات التنازع وحالات الاشتباه وحالات الاختلاط سواء
في الأطفال أو الجثث أو الحروب والكوارث .



هل ينتفي النسب بالبصمة الوراثية دون اللعان؟


اللعان : شهادات تجري بين الزوجين مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن من
جانب الزوج وبالغضب من جانب الزوجة .



وقد شرع اللعان لدرء الحد عن الزوج إذا قذف زوجته بلا شهود أو أراد
قطع نسب الحمل أو الطفل المولود عنه ، وهي أيضا حماية وصيانة لعرض الزوجة ودفعاً
للحد عنها .



والطريقة التي جاءت به النصوص الشرعية لنفي النسب هو اللعان .


فهل يصح نفي النسب بالبصمة الوراثية إذا جاءت النتائج تؤكد ذلك ويكتفي
بها أم لابد من اللعان أيضاً ؟



اختلف الفقهاء المعاصرون في صحة نفي النسب بالبصمة الوراثية فقط دون
اللعان ويمكن تلخيص آرائهم على النحو التالي :



1 – لا ينتفي النسب الشرعي
الثابت بالفراش (الزوجية) إلا باللعان فقط ، ولا يجوز تقديم البصمة الوراثية على
اللعان .



وهذا القول عليه عامة الفقهاء
المعاصرين ومنهم علي محي الدين القرة داغي وعبد الستار فتح الله سعيد (29)، ومحمد
الأشقر (30).



وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي بالرابطة وجاء فيه " لا يجوز
شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ، ولا يجوز تقديمها على اللعان
"(31).



القول الثاني : يمكن الاستغناء عن اللعان والاكتفاء بنتيجة البصمة
الوراثية إذا تيقن الزوج أن الحمل ليس منه



وهذا الرأي ذهب إليه محمد المختار السلامي(32)، ويوسف القرضاوي (33)،
وعبد الله محمد عبد الله(34).



القول الثالث : إن الطفل لا ينفى نسبه باللعان إذا جاءت البصمة
الوراثية تؤكد صحة نسبة للزوج ولو لاعن ،وينفى النسب باللعان فقط إذا جاءت البصمة
تؤكد قوله وتعتبر دليلاً تكميلاً .



وهذا الرأي ذهب إليه نصر فريد واصل ،وعليه الفتوى بدور الإفتاء
المصرية (35).



القول الرابع : إذا ثبت يقيناً بالبصمة الوراثية أن الحمل أو الولد
ليس من الزوج فلا وجه لإجراء اللعان وينفى النسب بذلك .



إلا أنه يكون للزوجة الحق في طلب اللعان لنفي الحد عنها لاحتمال أن
يكون حملها بسبب وطء شبهة ، وإذا ثبت عن طريق البصمة الوراثية أن الولد من الزوج
وجب عليه حد القذف .



وهذا الرأي ذهب إليه سعد الدين هلالي (36).


الأدلة :


أولاً : استدل القائلون بأن النسب لا ينفى إلا باللعان فقط بما يلي :