8. حدّ القَذْف (القَذْف هو الاتهام بغير بَيّنة أو دليل، سواء أكان المُتَّهم ذكراً أم أنثى)

وحدُّه جَلْد القاذف ثمانين جَلْدة، وعدم قبول شهادته بعد ذلك، والحكم بفِسْقه. ولكنه يكُون أشد ضرراً في حق المرأة، إذْ قال ـ سبحانه تعالى ـ في كتابه الكريم: ] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ (النور: 4). ويهدف هذا الحدّ إلى صَوْن أفراد المجتمع، ووِقايتهم من الإساءة إليهم بالقول، وقذْفهم بما ليس فِيهم من سِمات سيئة، أو نسبة أفعال فاضحة إليهم. وعدم تنفيذ هذا الحدّ يعطي الفرصة لضِعاف النفوس، ومَن تسوِّل لهم أنفسهم قذْف الآخرين بالتُّهم، الأمر الذي يترتب عليه عدم أَمْن الفرد على سمعته، مما يصيبه بالتوتر وتوقّع المَكاره. وقد يدفعه هذا إلى الرد بالمِثل على مَن قذَفه، فتكُون حرب تقاذفية بين أفراد المجتمع، لا يأمن، من جرّائها، أحد على سُمعته.
إن لكل شخص صورة عن نفسه، يكوّنها من خلال رحلة نموّه النفسي، ويعتز بتلك الصورة. فإذا قذَفه أحد بما ليس فيه، فإن هذا الافتراء يؤلمه نفسياً، ويجعله عدوانياً. فإذا أخذت الشريعة له حقه، فإن هذا يطيّب خاطِره، ويُرِيحه، ويجعله آمناً على صورته لدى نفسه ولدى الآخرين. ولكن إذا تُرِكَ يتألم، دون أن يُؤخذ له حقه، فإن عدوانه سوف يتوجه إلى مَن قذَفه، وسوف يتوقف عن إنجازاته، ويتجه إلى تدبير المَكائد للنَّيل ممّن قذَفه. وإذا ساد هذا الحال مجتمعاً من المجتمعات، فإن جُلّ اهتمام أبنائه سوف يتوجه إلى نَيل بعضهم من بعض، دون وحدة هدف تجمَعهم. كما أن القذف سوف يؤثّر في ثِقة كل منهم بالآخر، فيبدأون في التشكك وعدم الثقة بالتعامل فيما بينهم، فتتقطع الصِّلات، ويصل الأمر إلى طلاق الزوجات، وشكِّ الابن في الانتساب إلى أبيه، وشكِّ الأب في نسب الابن إليه. وهكذا، تُفْقَد المَوَدَّة والرحمة بين أفراد الأُسرة الواحدة، وتتمزق الأُسرة من جرّاء تهمة، قَذَفَ بها شخص مضادّ للمجتمع، قرر أن يقتل الآخرين بلسانه، وظن أنه سيفلت بفَعْلته. ولكن الشرع كان واعياً له، ومعالجاً لشروره، فحين يتمّ جَلده على المَلأ، ويعرف الناس كذبه وافتراءه، ولا تُقبَل له شهادة في القضاء أو في أيّ أمر من الأمور، ويُعرف عنه أنه فاسق، فإن خطره سوف يَنحسِر، فلن يستطيع النَّيل من الآخرين، وهذا حاله. كما أنه إذا كرّر القذف، تكرّرت العقوبة. كما يكُون في إقامة الحدّ عليه رَدْع لكل مَن تسوِّل له نفسه الإساءة إلى سُمعة المسلمين أو النَّيل من أَعراضهم.
إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تقتله كلمة، وكلمة القذف حين تصيب شخص المقذوف تؤلمه، وقد تسبّب له اكتِئَاباً نفسياً لا يَشفَى منه، وقد ينتهي الاكتئاب بالانتحار أو الفشل والضياع. وكم تكرَّرت حادثة تلك الفتاة الشريفة، العذراء، التي قذفها أشخاص بارتكاب جريمة الزنا، وهم كاذبون، ولكن لحساسيتها الشديدة وشدة انفعالها، لم تتمالك نفسها، واندفعت إلى تَناوُل مادة سامّة، وفقدت حياتها من جرّاء تهمة باطلة! وكم اندفع أب من البسطاء إلى قَتْل ابنته حين ردَّد بعض الناس، دون بَيِّنَة، أنها زانية! لذلك، كان حدّ القذف حِفاظاً على صورة الإنسان أمام نفسه وأمام الآخرين، فلا معنى لحياة الإنسان مع معاناة، تتناول صورته عن نفسه وتهزّها.
ولعل في قصة حديث الإفك، التي تحكي قذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بنت الصديق - رضي الله عنه- وزوج الرسول - عليه الصلاة والسلام - دليلاً عملياً، ملموساً ومحسوساً، على أن لا أحد محصن ضد ألسنة السوء، ولو كان في طهر أم المؤمنين وعفّتها. ولِعِظَم هذه الجريمة، كانت براءة السيدة عائشة من فوق سبع سماوات، قرآناً يتلى إلى يوم الدين، في قوله تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14)إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(17)[ (النور: 11-17).
وليكن في هذه القصة عبرة، لمَن تسوِّل له نفسه الخوض في الأعراض، وصبر واحتساب، لمن يُبتلى بهذا البلاء العظيم، فالعرض مداد عزة الإنسان وكرامته.


المصادر والمراجع

محمد شعلان، `الاضطرابات النفسية في الأطفال`، الجهاز المركزي للكتب الجامعية والمدرسية والوسائل التعليمية، القاهرة، ط1، 1977.
'السيد سابق، `فقه السنة`، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407هـ، ط 8، 1987م.
3. American Psychiatric Association ( 1980): Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, pub. by Am. Psych iat. Assoc., Washington D.C., 4th Ed.