[align=right]
ü في تقدير اتجاهات التعريف والتعريف الملائم

لقد غرقت بعض التعريفات في التعامل مع جرائم الكمبيوتر كجرائم خاصة دون الاجابة مسبقا على موقع هذه الجرائم في نطاق القانون الجنائي ، بمعنى اذا كنا أمام ظاهرة اجرامية مستجدة تتميز من حيث موضوع الجريمة ووسيلة ارتكابها وسمات مرتكبيها وأنماط السلوك الاجرامي المجسدة للركن المادي لكل جريمة من هذه الجرائم ، أفلا يستدعي ذلك صياغة نظرية عامة لهذه الجرائم؟؟
هذه النظرية (العامة) ، أهي نظرية جنائية في نطاق القسم الخاص من قانون العقوبات ، لا تخلق اشكالات واسعة على الاقل - في تطبيق قواعد ونظريات القسم العام من قانون العقوبات ؟؟ أم ان هذه النظرية يجب أن تؤسس لقواعد وأحكام حديثة تطال قسمي القانون الخاص والعام؟![17].
ان طبيعة وأبعاد ظاهرة جرائم الكمبيوتر ، سيما في ظل تطور انماطها يوما بعد يوم مع تطور استخدام الشبكات وما اتاحته الإنترنت من فرص جديدة لارتكابها وخلقت انماطا مستجدة لها يشير الى تميزها في احكام لا توفرها النظريات القائمة ، تحديدا مسائل محل الاعتداء والسلوكيات المادية المتصلة بارتكاب الجرم ، وهذا ما أدى الى حسم الجدل الواسع حول مدى انطباق النصوص القائمة على هذه الجرائم لجهة وضع تشريعات ونصوص جديدة تكون قادرة على الاحاطة بمفردات ومتطلبات وخصوصية جرائم الكمبيوتر والإنترنت ، وهو بالتالي ما يحسم الجدل حول الحاجة الى نظرية عامة لجرائم الكمبيوتر توقف التوصيف الجزئي والمعالجات المبتسرة .
ولا بد من التمييز في التعريف بين ظاهرة اجرام الحوسبة، أو كما يسميها قطاع واسع من الفقه المصري ظاهرة الجناح أو الانحراف المعلوماتي وبين جرائم الكمبيوتر والإنترنت . فتعريف الظاهرة مؤسس على مرتكزات عريضة وواسعة، هي في الغالب تعطي دلالة محل الظاهرة لكنها لا تنهض بايضاح هذا المحل على نحو عميق وشامل ووفق مرتكزات التعريف المطلوب في نطاق القانون الجنائي . أما تعريف الجريمة (عموما)، فكما ذكرنا إعلانية ، تتحقق فعاليته اذا ما أورد عناصرها وأثرها ، في حين أن التعريف لجريمة معينة يتطلب اظهار ركنها المادي المتمثل بالسلوك الاجرامي بشكل أساسي اضافة الى ما يتطلبه أحيانا من ايراد صورة الركن المعنوي أو العنصر المفترض أو غير ذلك.
وبالتالي فان الاعتداء على كيانات الاجهزة التقنية المادية (يتعدد وصفها ومهامها من الوجهة التقنية) يخرج من نطاق جرائم الكمبيوتر لترتد الى موقعها الطبيعي ، وهو الجرائم التقليدية ، باعتبار هذه الماديات مجسدة لمال منقول مادي تنهض به قواعد ومبادئ ونصوص القانون الجنائي واذا كان من وجوب الحديث عن الاعتداءات على الكيانات المادية في نطاق ظاهرة جرائم الكمبيوتر والإنترنت ، فانه متعلق فقط بقيمتها الاستراتيجية كمخازن للمعلومات وأدوات لمعالجتها وتبادلها ، مما يستدعي نقاش تطوير آليات حمايتها ، خاصة من أنشطة الإرهاب والتخريب المعادية للتقنية (كموقف سياسي او ايديولوجي ) ولكن في نطاق النصوص التقليدية لا في نطاق ظاهرة جرائم الكمبيوتر المستجدة ، مع التنبه الى ان أفعال الاتلاف والتدمير المرتكبة في نطاق جرائم الكمبيوتر والإنترنت ، هي الموجهة للنظم والمعطيات وليس لماديات الاجهزة .
اما عن دور الكمبيوتر في الجريمة ، فانه متعدد في الحقيقة ، فهو اما ان يكون الهدف المباشر للاعتداء ، او هو وسيلة الاعتداء لتحقيق نتيجة جرمية لا تتصل مباشرة بالمعطيات وانما بما تمثله او تجسده ، او هو بيئة ومخزن للجريمة ، ويجب أن لا يوقعنا أي من هذه الادوار في أي خلط بشان محل الجريمة أو وسيلة ارتكابها، فان محل جريمة دائما هو المعطيات (أما بذاتها أو بما تمثله) ووسيلة ارتكاب جريمة الكمبيوتر والإنترنت الكمبيوتر او أي من الاجهزة التكاملية التقنية (أي التي تدمج بين تقنيات الاتصال والحوسبة) وعلى أن يراعى ان دلالة نظام الكمبيوتر تشمل نظم تقنية المعلومات المجسدة في الكمبيوتر المحقق لتوأمة الحوسبة والاتصال في عصر التقنية الشاملة المتقاربة.
واذا كانت تعريفات الجريمة عموما تقوم على أساسين : عناصر الجريمة و السلوك ووصفه، والنص القانوني على تجريم السلوك وايقاع العقوبة، فان الجديد في مجال جرائم الكمبيوتر هو اضافة عنصر ثالث يبرز محل الاعتداء في هذه الظاهرة الاجرامية المستحدثة ، متمثلا بمعطيات الحاسوب. فقانون العقوبات ينطوي على نصوص تحرم الاعتداء على الأشخاص ، الأموال ، الثقة العامة ... الخ ، لكن المستجد ، هو الكيانات المعنوية ذات القيمة المالية أو القيمة المعنوية البحتة، أو كلاهما، ولولا هذه الطبيعة المستجدة في الأساس لما كنا أمام ظاهرة مستجدة برمتها، ولكان المستجد هو دخول الكمبيوتر عالم الاجرام ، تماما كما هو الشأن في الجرائم المنظمة، فهي في الحقيقة جرائم تقليدية المستجد فيها عنصر التنظيم الذي ينتج مخاطر هائلة واتساع نطاق المساهمة الجنائية وانصهار الارادات الجرمية في ارادة واحدة هي ارادة المنظمة الاجرامية المعنية .
وعلينا التاكيد هنا على ان جرائم الكمبيوتر ليست مجرد جرائم تقليدية بثوب جديد او بوسيلة جدية فهذا قد ينطبق على بعض صور الجرائم التي يكون الكمبيوتر فيها وسيلة لارتكاب الجريمة ، وليس صحيحا ما قاله الكثير من الاعلاميين الغربيين في المراحل الأولى لظاهرة الكمبيوتر انها ليست اكثر من ( نبيذ قديم في زجاجة جديدة ) . انها بحق ، جرائم جديدة في محتواها ونطاقها ومخاطرها ، ووسائلها ، ومشكلاتها ، وفي الغالب في طبائع وسمات مرتكبيها .
على ضوء ما تقدم من استخلاصات واستنتاجات فاننا في معرض تحديد ماهية هذه الجرائم والوقوف على تعريفها ، نخلص للنتائج التالية :-
1- ان الاعتداء على الكيانات المادية للكمبيوتر وأجهزة الاتصال يخرج عن نطاق جرائم الكمبيوتر لان هذه الكيانات محل صالح لتطبيق نصوص التجريم التقليدية المنظمة لجرائم السرقة والاحتيال واساءة الامانة والتدمير والاتلاف وغير ذلك ، باعتبار ان هذه السلوكيات تقع على مال مادي منقول ، والأجهزة تنتسب الى هذا النطاق من الوصف كمحل للجريمة .
2- ان مفهوم جريمة الكمبيوتر مر بتطور تاريخي تبعا لتطور التقنية واستخداماتها ، ففي المرحلة الأولى من شيوع استخدام الكمبيوتر في الستينات ومن ثم السبعينات ، ظهرت اول معالجات لما يسمى جرائم الكمبيوتر - وكان ذلك في الستينات - واقتصرت المعالجة على مقالات ومواد صحفية تناقش التلاعب بالبيانات المخزنة وتدمير أنظمة الكمبيوتر والتجسس المعلوماتي والاستخدام غير المشروع للبيانات المخزنة في نظم الكمبيوتر ، وترافقت هذه النقاشات مع التساؤل حول ما إذا كانت هذه الجرائم مجرد شيء عابر أم ظاهرة جرمية مستجدة ، بل ثار الجدل حول ما إذا كانت جرائم بالمعنى القانوني أم مجرد سلوكيات غير اخلاقية في بيئة او مهنة الحوسبة ، وبقي التعامل معها اقرب الى النطاق الاخلاقي منه الى النطاق القانوني ، ومع تزايد استخدام الحواسيب الشخصية في منتصف السبعينات ظهرت عدد من الدراسات المسحية والقانونية التي اهتمت بجرائم الكمبيوتر وعالجت عددا من قضايا الجرائم الفعلية ، وبدأ الحديث عنها بوصفها ظاهرة جرمية لا مجرد سلوكيات مرفوضة . وفي الثمانينات طفا على السطح مفهوم جديد لجرائم الكمبيوتر ارتبط بعمليات اقتحام نظم الكمبيوتر عن بعد وانشطة نشر وزراعة الفايروسات الإلكترونية ، التي تقوم بعمليات تدميرية للملفات او البرامج ، وشاع اصطلاح ( الهاكرز ) المعبر عن مقتحمي النظم ، لكن الحديث عن الدوافع لارتكاب هذه الأفعال ظل في غالب الاحيان محصورا بالحديث عن رغبة المخترقين في تجاوز إجراءات أمن المعلومات وفي اظهار تفوقهم التقني، وانحصر الحديث عن مرتكبي الأفعال هذه بالحديث عن صغار السن من المتفوقين الراغبين بالتحدي والمغامرة ، والى مدى نشأت معه قواعد سلوكية لهيئات ومنظمات الهاكرز طالبوا معها بوقف تشويه حقيقتهم واصرارهم على انهم يؤدون خدمة في التوعية لأهمية معايير أمن النظم والمعلومات ، لكن الحقيقة ان مغامري الامس اصبحوا عتاة اجرام فيما بعد ، الى حد إعادة النظر في تحديد سمات مرتكبي الجرائم وطوائفهم ، وظهر المجرم المعلوماتي المتفوق المدفوع بأغراض جرمية خطرة ، القادر على ارتكاب أفعال تستهدف الاستيلاء على المال او تستهدف التجسس او الاستيلاء على البيانات السرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية . وشهدت التسعينات تناميا هائلا في حقل الجرائم التقنية وتغيرا في نطاقها ومفهومها ، وكان ذلك بفعل ما احدثته شبكة الإنترنت من تسهيل لعمليات دخول الأنظمة واقتحام شبكات المعلومات ، فظهرت انماط جديدة كانشطة انكار الخدمة التي تقوم على فكرة تعطيل نظام تقني ومنعه من القيام بعمله المعتاد ، واكثر ما مورست ضد مواقع الإنترنت التسويقية الناشطة والهامة التي يعني انقطاعها عن الخدمة لساعات خسائر مالية بالملايين . ونشطت جرائم نشر الفايروسات عبر مواقع الإنترنت لما تسهله من انتقالها الى ملايين المستخدمين في ذات الوقت ، وظهرت انشطة الرسائل والمواد الكتابية المنشورة على الإنترنت او المرسلة عبر البريد الإلكتروني المنطوية على اثارة الاحقاد او المساس بكرامة واعتبار الأشخاص او المستهدفة الترويج لمواد او أفعال غير قانونية وغير مشروعة (جرائم المحتوى الضار).
3- ان محل جريمة الكمبيوتر هو دائما المعطيات اما بذاتها او بما تمثله هذه المعطيات التي قد تكون مخزنة داخل النظام او على أحد وسائط التخزين او تكون في طور النقل والتبادل ضمن وسائل الاتصال المندمجة مع نظام الحوسبة .
4- ان كل جرم يمس مصلحة يقدر الشارع اهمية التدخل لحمايتها ، والمصلحة محل الحماية في ميدان جرائم الكمبيوتر هي الحق في المعلومات (كعنصر معنوي ذي قيمة اقتصادية عاليـة) ويشمل ذلك الحق في الوصول الى المعلومات وانسيابها وتدفقها وتبادلها وتنظيم استخدامها كل ذلك على نحو مشروع ودون مساس بحقوق الآخرين في المعلومات .
5- ان تعريف الجريمة عموما يتأسس على بيان عناصرها المناط بالقانون تحديدها ، اذ من دون نص القانون على النموذج القانوني للجريمة لا يتحقق امكان المساءلة عنها ( سندا الى قاعدة الشرعية الجنائية التي توجب عدم جواز العقاب عند انتفاء النص ، وسندا الى ان القياس محظور في ميدان النصوص التجريمية الموضوعية ) ، وهو ما يستوجب التمييز بين الظاهرة الجرمية والجريمة . ولذلك فان ظاهرة جرائم الكمبيوتر تعرف وفق التحديد المتقدم بانها (الأفعال غير المشروعة المرتبطة بنظم الحواسيب)[18]اما تعريف جريمة الكمبيوتر فانها (سلوك غير مشروع معاقب عليه قانونا صادر عن ارادة جرمية محله معطيات الكمبيوتر) فالسلوك يشمل الفعل الإيجابي والامتناع عن الفعل ، وهذا السلوك غير مشروع باعتبار المشروعية تنفي عن الفعل الصفة الجرمية ، ومعاقب عليه قانونا لان اسباغ الصفة الاجرامية لا يتحقق في ميدان القانون الجنائي الا بارادة المشرع ومن خلال النص على ذلك حتى لو كان السلوك مخالفا للاخلاق . ومحل جريمة الكمبيوتر هو دائما معطيات الكمبيوتر بدلالتها الواسعة (بيانات مدخلة ، بيانات ومعلومات معالجة ومخزنة ، البرامج بانواعها ، المعلومات المستخرجة ، والمتبادلة بين النظم) واما الكمبيوتر فهو النظام التقني بمفهومه الشامل المزاوج بين تقنيات الحوسبة والاتصال ، بما في ذلك شبكات المعلومات.
[/align]