[align=justify]
الملخص الخاتمة:
بعد الدراسة المستفيضة لضمانات الحماية الجنائية الدولية ، والتي بدأت بالضمانات ذات الطابع الموضوعي باعتبارها الأساس القانوني لتلك الحماية، فقد تناولت ذلك في الباب الأول من هذه الأطروحة ، حيث بينت بأنها تتمثل في قواعد الحماية المستقاة من الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة العامة منها والخاصة ، تلا ذلك بيان أهمية وجود تقنين دولي للجرائم الدولية، فقد أوضحت المحاولات التي بذلت في هذا الجانب ، وفي ثنايا الفصل الأخير من هذا الباب تحدثنا فيه عن الركيزة الأساسية في هذه الضمانات والمتمثل في ضرورة تطبيق قواعد الحماية الجنائية من قبل الدول ، وهو ما يتفق وطبيعة الاتفاقيات الدولية ، التي يغلب عليها الطابع الرضائي .
أما الباب الثاني فقد أفردته لبيان الضمانات ذات الطابع الإجرائي ، حيث تناولت في الفصل الأول منه آلية الإشراف والرقابة ، تتبعت من خلاله الأجهزة الرئيسة التابعة للأمم المتحدة سواء كان إختصاصها ذا طابع عام أو أنشئت من أجل مراقبة تطبيق قواعد حماية حقوق الإنسان ، بالإضافة إلى الآلية المنبثقة عن الوثائق الدولية، وفي الفصلين الأخيرين من هذا الباب بينت دور المحاكم الجنائية في تحقيق تلك الحماية كضمانة مهمة في هذا المجال حيث تتبعت في ثناياه الجهود التي بذلت في سبيل إيجاد قضاء دولي جنائي ، وقد أوضحت من خلاله التطورات التي لحقت بذلك إلى أن أضحى القضاء الدولي الجنائي حقيقة ترى في الواقع والمتمثل في المحكمة الجنائية الدولية القابعة في مقرها الرئيس بمدينة المحاكم الدولية (لاهاي) ، حيث أن المحكمة الجنائية الدولية مثلت خطوة مهمة في ضمان حماية حقوق الإنسان ، بل أعتبرت ومعي ثلة من الدارسين أن إقرار نظام وحصوله على نصاب القبول لنفاذه رغم الإعتراض الأمريكي نجاحاً باهراً في مجال الشرعية الدولية بصفة عامة والحماية الجنائية لحقوق الإنسان بصفة خاصة، فقد كسرت كبرياء الهيمنة الأمريكية ومن على شاكلتها ، غير أن هذا المولود الجديد ولد مهيض الجناح بسبب عدد من العوائق والصعوبات بعضها وجد في مواد النظام الأساسي نتيجةً للطبيعة التوفيقية التي وصف بها ، وأخرى خارج هذا النظام كالسيادة وضعف تعاون الدول وطغيان الولايات المتحدة التي تسعى إلى إضعاف عمل هذه الآلية في تحقيق الحماية المنشودة لحقوق الإنسان ، وقد أوضحت الحلول التي يمكن من خلالها إزالة تلك المعوقات أو الحد منها .
وقد توصلت من هذه الدراسة إلى عدد من النتائج ، والتي أردفتها بالمقترحات التي آمل من خلالها الإسهام في الجهود المبذولة من قبل فقهاء القانون الدولي بغية الوصول إلى إيجاد نظام دولي يحقق حماية حقوق الإنسان على المستوى العالم .

النتائج والمقترحات:
1ـ إن الكم الهائل من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان تعد شاهداً ودليلاً على حرص المجتمع الدولي على إرساء قواعد قانونية ذات طابع دولي لحماية حقوق الإنسان ، حيث تمثل هذه القواعد الجانب الموضوعي للحماية الجنائية الدولية لحقوق الإنسان ، والتي تعد في نظري ضمانة مهمة لهذه الحماية ، وإن كانت الصيغة عامة خاصةَ في الاتفاقيات العامة إلا أن الاتفاقيات الخاصة كانت مفصلة لذاك التعميم غير أنما يؤخذ على هذه الاتفاقيات أنها قد خلت من الشق الثاني للقواعد الموضوعية وهو الشق العقابي والذي يمثل الحامي الحقيقي والرادع الأساسي لتحقيق تلك الحماية، ويبدو لي أن معدي تلك الاتفاقيات قد راعوا في ذلك مشكلة السيادة باعتبار الدول هي صاحبة الحق أولاً وأخيراً ، وأن هذه الاتفاقيات تمثل فقط سقفاً لبيان أنواع الحقوق والأعمال التي تعد انتهاكاً لها ، وعلى الدول القيام بدمج تلك الاتفاقيات في تشريعاتها وتحديد العقوبات المناسبة لمخالفة تلك القواعد .
2ـ نتيجةً للحيف الذي وقع أثناء محاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية في محكمتي نورمبرج وطوكيو ، فقد سارعت الأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة لصياغة المبادئ المنبثقة عن محكمة نورمبرج لتكون بمثابة الشرعة الدولية لمحاكمة مقترفي الجرائم بحق الإنسانية ، ومنعاً لتعسف القضاء الدولي ، وقد كلفت تلك اللجنة بعمل تقنين للجرائم الدولية ، حيث قامت بإعداد مشروع يتضمن الجرائم الماسة بأمن وسلام البشرية ، تلا ذلك مشروع مدونة الجرائم الدولية والذي كان بمثابة تطوير لذلك المشروع ، ولم تقتصر تلك الجهود على اللجنة المعنية بل كانت هناك جهود تبذل من قبل الفقهاء في هذا المجال ، غير أن تلك الجهود لاسيما الرسمية يعوقها عوامل أغلبها سياسية, ورغم تلك الجهود المبذولة لوضع تقنين للجرائم الدولية وعقوباتها فإن هذا التقنين لم ير النور، ظل حبيس الأدراج في الأمم المتحدة إلى يومنا هذا ، وقد كان نظام روما يمثل خطوة مهمة في مجال هذا التقنين ، حيث تضمن أهم الجرائم الدولية وعقوباتها ، إلا أن هذا النظام قد شابه عدد من العيوب أهمها خلوه من عقوبة الإعدام وهذا يعد خرقاً واضحاً في العدالة الدولية التي تحمي الجاني وعميت عيناها عن جرمه المرتكب ..؛ ناهيك على أنه قد اقتصر على عدد محدود من الجرائم بينما يوجد جرائم أخرى لم يتضمنها هذا النظام كجرائم الإرهاب ..
وبما أن الجهود التي بذلت في هذا المجال لايستهان بها لاسيما الجهود المبذولة لإيجاد محكمة جنائية دولية وما رافقها من تقنين لقواعد الحماية الجنائية ، إلا أنه مازال القصور يعتري ذلك التقنين ــ كما بينا سابقاً ــ وللطابع التكميلي لعمل المحكمة بالنسبة للقضاء المحلي ، إضافة إلى الطابع الرضائي الذي تتصف به تلك القواعد فإن علاج هذه المسألة من أجل تحقيق الحماية الجنائية لحقوق الإنسان يتمثل في أمرين :
الأول:وضع تقنين عام يضم جميع الجرائم الدولية وعقوباتها حسب النظم الدولية العالمية مع مراعاة الثقافات المتنوعة للشعوب، وأعتقد أن الأمر سهل طالما أنه يوجد عدد من الوثائق الدولية التي تجرم الأفعال الماسة بحقوق الإنسان والتي صادقت عليها أغلب الدول.
ثانياً : إلتزام الدول بتطبيق قواعد الحماية الجنائية الدولية المنبثقة عن الوثائق الدولية المصادق عليها بما فيها نظام روما ، وهذا ما أكدت عليه الوثائق الدولية والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ، وما تقتضيه طبيعة العلاقة بين القواعد الدولية والداخلية.
3 ـ إضافة إلى ما سبق فقد اتضح من خلال الدراسة أن فقهاء القانون الدولي مختلفون في القيمة القانونية لقواعد الحماية الجنائية لحقوق الإنسان ، باعتبارها جزءاً من قواعد القانون الدولي العام ، فإنني أؤكد هنا ما ذهبت إليه في ثنايا هذه الأطروحة بأن قواعد حماية حقوق الإنسان ذات الطابع الجنائي لها خصوصية مغايرة لبقية القواعد الدولية وإن كان الطابع الرضائي يشملها لكن طبيعة الأفعال التي تجرمها والمحل الذي تحميه أضحت قواعد متعارف عليها في جميع التشريعات العالمية ، الأمر الذي يجعل من شأن هذه القواعد أن تسمو على بقية القواعد الدولية وقواعد القانون الداخلي ، لذا ولضمان تحقيق الحماية الجنائية الدولية لحقوق الإنسان ، يلزم جميع الدول مراعاة تلك القواعد أثناء تطبيقها من خلال تشريعاتها وعبر سلطاتها القضائية وغير القضائية حتى وإن لم تك تلك الدول قد صادقت على تلك القواعد التي تضمنتها تلك الاتفاقيات.
4 ـ والرديف الآخر للحماية الموضوعية وجود آلية تضمن تطبيق تلك القواعد من قبل الدول وهو ما سعت الأمم المتحدة إلى إنشائها ، وتبين لنا في ثنايا هذه الدراسة بأن تلك الآليات منها ذات طبيعة وقائية ( آلية الإشراف والرقابة) ومنها ماله طابع علاجي كآلية الحماية القضائية ، فبالنسبة للأولى فإن دورها لا يقل شأناً عن هذه الأخيرة لاسيما أنه في بعض الأوقات قد تقوم بالتحقيق وإرسال الفرق العاملة في الميدان لتلمس مدى تطبيق الاتفاقيات الدولية وحقيقة الإدعاءات التي تصلها عن انتهاكات حقوق الإنسان ، غير أن تلك الآليات رغم كثرتها إلا أن وسائلها غير فعالة بل يفتقد بعضها إلى المصداقية كالتقارير الواردة من الدول الأعضاء ، وحتى الوسائل الأخرى فإن الأمر ينتهي بالحل الودي ، أو بالاستجداء من الدول المعنية بمراجعة الموضوع من قبلها ، إلا إذا كانت الدولة المعنية ضعيفة ، و قد تتماثل الإجراءات التي تقوم بها تلك الآليات ، لذا يجب أن يكون بينها تنسيق وخاصةً بعد أن وجدت أجهزة تتربع تلك الآليات مثل المفوض السامي لحقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان .
5 ـ بالنسبة لمجلس حقوق الإنسان والذي أنشئ قريباً تبين من خلال الدراسة بأنه قد حل محل لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وأعطي جميع الصلاحيات المخولة لتلك اللجنة ، وتبين بأن أعضاؤه محددين بـ (46) عضواً ، بخلاف اللجنة التي وصل أعضاؤها إلى (53) ، وقد نجح بعضوية المجلس دول لم تكن أعضاء في اللجنة السابقة ، بل بعضها مصنف من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تنتهك حقوق الإنسان ، وأعتقد أن إنشاء هذا المجلس يعد ضربةً في نعش النظام العالمي الجديد التي تتزعمه أمريكا ، ولنجاحه يجب على الدول الأعضاء وبقية الدول لاسيما الدول العربية والإسلامية ومنظمات المجتمع المدني أن تسعى جاهدةً في مد العون له ليقوم بالمهام الموكلة إليه .
6 ـ أما عن الشق الآخر والمتعلق بالآلية القضائية ذات الطابع الجنائي ، فقد تبين من خلال الدراسة بأن المجتمع الدولي عقب الحرب العالمية الثانية سارع إلى معاقبة مجرمي تلك الحرب وشكل لذلك محكمتين في الغرب و الشرق ، ورغم أن تلك المحاكم كانت تمثل الدول المنتصرة في تلك الحرب إلا أنها كانت بمثابة النواة الأولى لإنشاء قضاء دولي جنائي وقد كانت الجهود على وتيرة في هذا الشأن ، وإن هدأت فترة ليست باليسيرة رغم المآسي التي تعرضت لها الإنسانية ، إلا أنها عادت عقب المجازر البشعة التي وقعت في البوسنة والهرسك ، وفي راوندا إلى الظهور من جديد حيث سارع مجلس الأمن إلى تشكيل محكمتين في كلا الدولتين لمعاقبة مجرمي تلك الحرب ، إلا أن الطابع المؤقت وتحكم مجلس الأمن في نشأتهما قد أفقدهما صلاحيتهما كقضاء دولي جنائي دائم ، حيث سارع المجتمع الدولي إلى إنشاء قضاء دولي جنائي دائم والمتمثل في المحكمة الجنائية الدولية ، وتبين في ثنايا هذه الدراسة بأن هذه المحكمة تمثل خطوة مهمة خطاها المجتمع الدولي في سبيل إرساء العدالة الدولية وضمانة أكيدة لتحقيق الحماية الجنائية الدولية لحقوق الإنسان .
7 ـ وأثناء دراسة فعالية هذا القضاء الحديث تبين بأن ثمة عوائق تواجهه ، منها عوائق داخلية تضمنها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كالصلاحيات الممنوحة لمجلس الأمن ، وقصور صلاحيات المحكمة إلى حد الآن على جريمتين فقط هما جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية ، بينما جرائم الحرب نص النظام الأساس على أنه من حق الدول أن تعلق عدم قبولها اختصاص المحكمة لمدة سبع سنوات من بدء سريان هذا النظام وذلك فيما يتعلق بقائمة الجرائم الواردة في المادة (8) عندما يكون هناك إدعاء بارتكاب هذه الجرائم فوق تراب هذه الدول من قبل مواطنيها ، إضافةً إلى عدم اختصاص المحكمة بالمعاقبة على جريمة العدوان حتى يتم تعريفها ، هذا ما يخص العوائق الداخلية، وأعتقد بأن تلاشي تلك العوائق من خلال إعادة النظر في تلك الصلاحيات لاسيما وأن النظام الأساسي قد تضمن المرونة الكافية التي تمكن الدول من تعديله ، أو إعادة تركيبة مجلس الأمن بحيث يكون بمثابة الجهاز التنفيذي للمحكمة ، شريطة أن يكون أعضاؤه يمثلون كل المجتمع الدولي وفق المعيار الجغرافي أو السكاني .... .
أما ما يخص المعوقات الخارجية وأهمها وقوف الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية للحيلولة دون قيام المحكمة بعملها ، ومن ثم إفشال المجتمع الدولي من تأسيس قضاء دولي جنائي ، يجب تعاون الدول المصادقة على النظام الأساسي لهذه المحكمة مع المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية لتشكيل رأي عالمي يقف إلى جانب إنجاح عمل هذه الهيئة ، وحث الدول التي ما زالت تتريب من عمل هذه المحكمة على المصادقة عليها .
8 ـ و لأن الأمم المتحدة ــ نتيجة للأحداث المتواترة تجاه حققو الإنسان وانتهاك قواعد الحماية الدولية المعنية بهذا الأمر ــ بدأت تصحو من سباتها العميق لاعادة ترتيب أجهزتها العاملة في مجال حقوق الانسان ، حيث شرعت في إيجاد عدد من الأجهزة تشرف على حماية حقوق الإنسان ، مثل المفوض السامي لحقوق الإنسان ومجلس حقوق الانسان أضافة الى تأسيس قضاء دولي جنائي ، وما زالت بحاجة الى إعادة النظر في أجهزتها الأخرى كمجلس الأمن .. فالزمن الذي أنشئت فيه لا يصلح لمعالجت قضايا الزمن الحالي ، وخاصة وأن المجتمع الدولي قد فاق من غفلته وبدأ ينظر بعين المبصر بأن وضع هذه الإجهزة بالصورة التي عليها يعد مكمن الحيف والظلم .
9 ـ ولضمان تنفيذ قرارات وأحكام آلية الأمم المتحدة العاملة في مجال حماية حقوق الإنسان يجب أن تزود بقوة شرطة دولية تشترك في تكوينها دول العالم ، مثلما يوجد حالياً قوة البوليس الدولي ( الأنتربول ) في شــأن التعاون بين الدول لتعقب المجرمين الدوليين ، وأن تكون هذه القوة مزودة بما يكفل لها تنفيذ أحكام المحكمة الجنائية الدولية.
10 ـ ولباب القول بأن الناظر بعين البصيرة إلى الواقع يرى بأن المجتمع الدولي والذي تتزعمه الولايات المتحدة وحلفاؤها ، مستمر بتبني سياسات إنتقائية في تطبيق قواعد الشرعية الدولية في حال ارتكاب الجرائم الدولية ، وهو ما ظهر في أكثر من مناسبة تجلت فيها الإزدواجية في التعامل . و هذا الوضع من شأنه أن يجعلنا كباحثين نسعى لمعرفة الحقيقة ومكمن الداء ووضع بعض الدواء لمعالجة تلك النتوءات ، غير أن البحاث في مجال الحماية الدولية لحقوق الإنسان مثله كمثل المسافر في الصحراء أثناء الظهيرة الحارة وقد أشتد به الظمأ ، ينظر إلى السراب المترامي في تلك الفلاة يخيل إليه بأنه ماء ، وفي آخر المطاف لا يجد إلا التعب ومزيداً من الإعياء في سبيل البحث عن ماء يروي ظمأه . لذا أرى أنه لا يحقق حماية حقوق الإنسان وجود قواعد موضوعية الأساس الشرعي لتلك الحماية ، و لا آلية الرقابة لتطبيق تلك القواعد ، ولا حتى وجود هيئة قضائية دولية كما هو حال المحكمة الجنائية الدولية ، بقدر ما يوجد ضمير إنساني حي ينظر إلى البشرية بمنظار واحد يحقق لها العيش في أمان على هذه البسيطة ، فإن صفة الإستعلاء هي مكمن الداء .

[/align]