إجراءات التحقيق:




هناك بعض إجراءات التحقيق التي تُعد منابع للأدلة وهي الإنتقال، والمعاينة، وندب الخبراء، والتفتيش، وسماع الشهود، والاستجواب، وليس لها أي ترتيب يجب اتباعه بل يبدأ المحقق بما يراه أكثر ملائمة بالنسبة لظروف كل جريمة ([1])، وسيتضمن هذا المبحث دراسة هذه الإجراءات حيث سيتم تقسيمه إلى عبر خمسة مطالب وذلك على النحو التالي:

اولا ـ الإنتقال والمعاينة وضبط الأشياء المتعلقة بالجريمة والتصرف بها




يتضمن هذا المطلب ثلاثة فروع نخصصها على النحو التالي: الأول عن الانتقال والمعاينة، والثاني عن ضبط الأشياء المتعلقة بالجريمة، والثالث عن التصرف في هذه الأشياء المضبوطة.








الانتقال والمعاينة:




الانتقال من أهم إجراءات التحقيق فهو يُسهّل مهمة المحقق بالوقوف السريع والمباشر على مكان الجريمة، وبذلك يتمكن من تصور مكان الجريمة وسماع الشهود الموجودين قبل مغادرتهم المكان، ويقف حائلاً دون الجاني أو المتهم أو حتى المجني عليه أو ذويهم من التأثير على الشهود أو محاولة طمس معالم الجريمة وتلفيق أدلتها([2]).




والإنتقال من النقل وهو تحويل الشيء من موضع إلى آخر([3])، وهو في مجال الإجراءات الجزائية عمل يقوم به المحقق، وقد يكون انتقاله لإتخاذ إجراء من إجراءات التحقيق، وقد يكون للمعاينة، وقد يكون لأمر أخر كضبط متهم وإحضاره، أو تفتيش مسكنه، أو لسماع شهود، وانتقال المحقق أمر جوازي تفرضه أهمية الكشف عن الحقيقة وهو يخضع للسلطة التقديرية للمحقق([4]) وقد نصت المادة (79) من نظام الإجراءات الجزائية على أنه "ينتقل المحقق ـ عند الإقتضاء ـ فور إبلاغه بوقوع جريمة داخله في إختصاصه إلى مكان وقوعها لإجراء المعاينة اللازمة قبل زوالها أو طمس معالمها أو تغييرها"، وبذلك فقد جعل المنظم انتقال المحقق جوازياً، لأن بعض الجرائم لا تستدعي ذلك مثل جرائم التزوير والرشوة([5]).




والملاحظ أن النظام قد جعل هذه المهمة من واجبات رجل الضبط الجنائي، وعند الانتقال عليه أن يُبلغ هيئة التحقيق والإدعاء العام، فهي الجهة الأصيله للتحقيق في الجرائم، وعليه المحافظة على الآثار المتخلفة عن الجريمة، حتى لاتصل إليها يد الطمس والتلفيق، ويتأكد هذا الواجب في أحوال الجرائم المتلبس بها([6]).




أما المعاينة فهي أحد منابع الأدلة بل هي الخطوة الحقيقية الأولى لإستجلاء غموض القضية وجمع المعلومات عنها، وتتمثل في إثبات حالة الشخص أو المكان أو أي شي آخر، ووصفه وصفاً دقيقاً وفاعلاً لما لذلك من فائدة في الكشف عن الحقيقة على أن يكون هذا الوصف كتابة، وقد تكون المعاينة مُقدِمةً يُبنى عليها إجراءات أخرى حاسمة وسريعة، كالقبض على المتهم أو سماع أقوال الشهود في موقع الحادثة حتى لا تخونهم الذاكرة وينسون تفاصيل الجريمة التي شاهدوها، أو قد يحاول المتهم أو أحد ذويه التأثير عليهم بترغيبهم أو ترهيبهم([7])، ومن المفترض الا يحول المحقق دون إسعاف المصابين([8])، ليس هذا فحسب بل يجب أن يكون هذا العمل أول إجراء يتم اتخاذه بعد الوصول إلى موقع الحادثة، وإذ ثبت وجود متوفين فعلى المحقق أن يعمل على حفظ جثثهم في أماكن آمنة حتى تصدر الأوامر بشأنها([9]) ، والمعاينة لمسرح الحادث وإثبات حالته بعد فحصه وما يحويه من أشخاص وأشياء والتحفظ عليها هي من واجبات رجل الضبط الجنائي العادية([10]).




ضبط الأشياء المتعلقة بالجريمة:




الضبط هو وضع اليد على كل ما يُفيد في كشف حقيقة الجريمة، أو يُسهم في التعرف على مرتكبها، وقد يكون ما يُضبط عقاراً أو منقولاً مملوكاً للمتهم أو لغيره، مهما كانت قيمته، سواءً كان بحوزة المتهم أو بحوزة غيره، شريطة أن يكون له علاقة بالجريمة المعنية ويفيد في كشف حقيقتها، ويُفترض أن تكون المضبوطات أشياء مادية، إنما إن كانت الأشياء معنوية فلا تصلح محلاً للضبط بل يمكن مراقبتها مثل المحادثات الهاتفية، والضبط قد يكون تالياً لتفتيش أو معاينة، وقد يكون إجراءاً مستقلاً ([11]) فيُجيز نظام الإجراءات الجزائية للمحقق استصدار أمر من رئيس الدائرة التي يتبعها بتكليف من توفرت أدلة على حيازته أشياء لها علاقة بالجريمة أن يبرزها ليتمكن المحقق من الإطلاع عليها([12]).




ومن المعلوم أن ضبط الأشياء ما هو إلا غرض أو أثر مباشر للتفتيش الذي يجب أن يتجه للبحث عن الأشياء المتعلقة بالجريمة التي من اجلها يجري التفتيش، ومع ذلك فإن الضبط قد لا يكون أثراً من آثار التفتيش فيجوز ضبط ما يُقدمه المتهمون، أو الشهود بإرادتهم فيكون هذا إجراء مستقل عن التفتيش([13])، ويُمكن ضبط الأشياء الأخرى إذا كانت حيازتها تمثل جريمة، أو متعلقة بجريمة أخرى على أن يكون العثور عليها قد تم عرضاً دون سعي وراءها، ويجب أن تُحصر المضبوطات في محضر يبُيِّن ماهيتها والأسباب الداعية لضبطها([14]).










التصرف في المضبوطات:




إن ضبط الأشياء المفيدة في كشف حقيقة جريمة والتعرف على مرتكبها، هو إجراء مؤقت إلى حين التصرف في الدعوى إما بإصدار أمر بالاّ وجه لإقامة الدعوى، أو قرار بحفظ الأوراق أو إحالتها إلى المحكمة المختصة وصدور حكم فيها، علماً أنه إذا كانت الأشياء المضبوطة مما يُعد حيازته جريمة فإنها لا تُرد وإنما تُصادر سواءً إدارياً أو عن طريق حكم قضائي، لكن إن كان المضبوط مباحاً وهو مما يتلف بمرور الزمن أو يستلزم حفظه نفقات تستهلك أكثر من قيمته، فأن المحكمة تأمر برده أو بيعه ويحفظ ثمنه لحين يسلم للمستفيد منه([15])، أما إن كان مما يمكن رده إلى صاحبه أو الحائز له فإنه يرد إليه([16])، ويحق لكل صاحب مصلحة أن يطالب المحقق برد أشيائه المضبوطة، علماً بأن الأصل في الرد أن تُسلم المضبوطات لمن كان يحوزها وقت ضبطها فإن قوبل طلبه بالرفض فله حق التظلم أمام رئيس الدائرة التي يتبعها المحقق، وإن كانت المضبوطات أوراقاً لصاحبها مصلحة عاجلة بها فقد أتاح له النظام أن يحصل على صورة منها، إلاَّ إن كان في ذلك ضرراً لسير التحقيق([17])، وقد ألقت المادة (60) من نظام الإجراءات الجزائية على عاتق من يطلِّع على المضبوطات ويصل إلى علمه منها شيئ واجب المحافظة على سريتها، فإن خالف هذا الواجب فإنه يكون عرضة للمساءلة دون تحديد نوعية هذه المساءلة هل هي جنائية أم تأديبية أم غيرها ؟.










الاستجواب والمواجهة:




الاستجواب هو "مناقشة المتهم تفصيلياً في الأدلة والشبهات القائمة ضده ومطالبته بالرد عليها: إما بإنكارها أو إثبات فسادها، وإما بالتسليم بها وما يستتبع ذلك من اعتراف بالجريمة"([18]).




ويختلف الاستجواب ـ الذي هو من مهام سلطة التحقيق ولا يمنح استثناءاً لرجل الضبط الجنائي ـ عن السؤال وهو من الاختصاصات الأصيلة لرجل الضبط الجنائي، إذ أنه لا يتعدى سؤال المتهم عن التهمة بشكل عام لاستيضاح ما يجهله رجل الضبط الجنائي([19])، ومع ذلك إذا ندبت جهة التحقيق رجل الضبط لإجراء عمل أو أكثر من أعمال التحقيق فله في حالة خشية فوات الوقت أن يواجه المتهم بغيره كشاهد على شفير الموت مثلاً، بشرط أن يكون هذا العمل مرتبطاً بما نُدب به من إعمال تحقيقية ([20])، والمواجهة ماهي إلا استجواب، لأن كليهما مواجهة للمتهم بما يدور حوله من أدلة إثبات على ارتكاب الجرم، لكن الاستجواب مواجهة موسّعة تشمل جميع الأدلة القائمة قبله سواءً كانت قولية أو مادية مكتوبة أو وجاهية، بينما المواجهة مختصرة على دليل معين لذلك فإن المواجهة تدخل ضمن الاستجواب([21])، وهذا ما نصت عليه المادة (66) من نظام الإجراءات الجزائية حيث قررت أن المحقق يندب غيره لإجراء بعض التحقيقات على أن يكتب ما يُريد أن يندب به، وللمندوب أن يجري أي عمل تحقيقي بل له إستجواب المتهم إن خشي فوات الوقت، على أن يكون هذا العمل متصلاً بما ندب به ولازماً لكشف الحقيقة، علماً أن المادة (65) من نظام الإجراءت الجزائية حظرت ندب رجل الضبط الجنائي لإجراء الإستجواب، لأنه من الإجراءات الخطيرة التي لابد أن يُمنح فيها المتهم ضمانات قضائية، إضافة إلى أن الاستجواب هو باب التوقيف الاحتياطي وهو عمل إجرائي محظور على رجل الضبط الجنائي، والإستجواب كما هو وسيلة للاتهام فهو وسيلة للدفاع فيجب عدم اعتباره مساعداً للإتهام فقط([22]).




ولكي يكون الإستجواب صحيحاً، خالياً من العيوب سالماً من البطلان لابد أن يتوفر فيه شروط، وهي من قبيل الضمانات التي أحاط بها النظام هذا الإجراء الخطير لما فيه من مساس بحرية المتهمين وحقوقهم الأساسية وأهمها([23]):




1. أن يجريه من يتمتع بصفة المحقق.




2. أن يكون المحقق مختصاً به نوعياً ومكانياً.




3. ألا يصاحبه تأثيرات خارجية من قبيل الإكراه المادي أو المعنوي.




4. إحاطة المتهم علماً بالتهمة المنسوبة إليه.




5. إتاحة الفرصة للمتهم أن يستعين بمن يدافع عنه، علماً أن المدافع ليس له أن يكون رقيباً على المحقق عند إجرائه، وليس له التدخل أو الكلام إلا بإذن المحقق وبإمكانه إبداء ملاحظاته في ورقه تُسلم للمحقق ليضمها إلى أوراق القضية([24])