أفكار ضد الرصاص‏!‏
اشراف :أحمد البرى


استدعي من الذاكرة رحيل العالم الجليل والمفكر المبدع نصر حامد أبوزيد كتابا كنت قد قرأته للراحل محمود عوض بعنوان‏(‏ أفكار ضد الرصاص‏)‏ الذي أشار فيه إلي أربع جرائم قتل مع سبق الاصرار والترصد حسب تعبير الكاتب‏,‏

والغريب في هذه الجرائم أن القتيل هو كتاب‏(‏ مجرد كتاب‏)‏ مجرد حبر علي ورق وعليهما رأي‏,‏ وكان هدف الجريمة في كل مرة هو هدف عاجل يتلخص في اعدام الكتاب أو بمعني آخر مصادرة رأي‏.‏ وكان هناك هدف آخر آجل هو اعدام الحرية‏,‏ حيث قرر المجتمع في ذلك الوقت اعدام اربعة من الكتب لنخبة من المفكرين والعلماء وهم قاسم أمين والكواكبي وعلي عبدالرازق وطه حسين‏,‏ ودافع هؤلاء العلماء عن حرية الرأي في كتبهم فأصر المجتمع في ذلك الوقت علي معاقبتهم‏,‏ كانت جريمة قاسم أمين هي الحرية للمرأة في مواجهة المجتمع الذكوري‏!‏ وكانت جريمة الكواكبي هي طلب الحرية للشعب في مواجهة السلطان عبدالحميد أيام الحكم العثماني أما جريمة العالم الجليل علي عبدالرازق فكانت انه طلب الحرية للدين‏(‏ فصل الدين عن السياسة‏)‏ في مواجهة الملك وكانت جريمة طه حسين هي انه طلب الحرية للأدب في كتابه المشهور‏(‏ في الشعر الجاهلي‏).‏
وبالطبع لو كان نصر حامد ابوزيد قد عاش في زمن هؤلاء المفكرين والعلماء لضمه المؤلف اليهم إلي الجريمة التي ارتكبها وهي طلب الحرية للعقل في مواجهة الفكر السلفي فقد تعرض نصر حامد أبو زيد في كتبه للصراع الذي كان يدور حول أيهما له الأولوية العقل أم النقل وبعبارة أخري اذا تعارض العقل والنقل فأيهما تكون له الهيمنة أو السيطرة علي الآخر؟
ويري أبوزيد ان التخلف الذي نعانيه علي جميع الأصعدة يكمن في تضاؤل سلطة العقل‏,‏ وعلي هذا فإن سعي الخطاب الديني لتكريس سلطة النص هو في حقيقته تكريس لسلطة عقل أصحابه علي بقية العقول ليصبح الخلاف معها كفرا وهرطقة‏!‏ لذا فهو لايدعو إلي التحرر من النصوص بل من سلطة النصوص بعد أن أخذت طابعا شموليا فتحولت إلي قيود يمسك بها الرجال وهو في هذا لاينسي التمييز في أحكامها بين النص التأسيسي‏(‏ القرآن‏)‏ والنصوص الشارحة التي تراكمت حول النص الاصلي‏.‏ والقراءة الجديدة التي يقترحها لاتتعلق بالنسبة إليه بالتمييز بين تفسير حرفي وآخر اقل التزاما بالحرف وإنما يرتبط كما يقول بإدراك مجمل الظاهرة القرآنية داخل سياقها التاريخي‏,‏ وذلك هو ما يتيحه لنا ادراك طبيعة الاتصال بين الله والبشر المقصودين بالخطاب‏,‏ ويأتي بلسان إيجابي من سلوك عمر بن الخطاب تجاه النص في مسألتين هما المؤلفة قلوبهم وقطع يد السارق وهو لم يتعامل مع أحكامهما كسلطة مطلقة بل ببساطة ادرك النص في سياقه‏.‏ ان تكفير الآخر مازال سلاحا يستعمله رجال الدين لترهيب الضحايا من الافراد ومعظم ضحاياه في تاريخنا المعاصر هم من المفكرين والمثقفين وأصحاب العلم والرأي والقلم من أنصار الفكر المستقل الحر‏,‏ وهم العزل الذين إن امتلكوا جرأة في طرح الآراء ومناقشة المسائل الدينية التشريعية لغويا ودراستها بشكل شفاف وصحيح علميا وبطريقة قد يعجز اصحاب العقول المغلقة والمحدودة بأسوار مثل عقود بعض رجال الدين التقليديين في عصرنا هذا عن فهمها فانهم سيردونها علي أعقابها خاسرة حتي وان كانت صحيحة مبررين سلوكهم هذا بتكفير أصحاب الفكر والعلم‏.‏ هؤلاء التكفريون يتواصل حضورهم ونفوذهم في كل مكان وزمان من خلال مؤلفاتهم المليئة بأحكام التكفير واستباحة دماء البشر ممن يخرجون عن الالتزام بآرائهم الفقهية التي انتجتها عقولهم البشرية‏!‏ محاكمة العالم أبو زيد وزوجته أستاذة الأدب الفرنسي إعتدال يونس كانت اشبه بمحاكمات التفتيش الاسبانية في القرون الوسطي‏,‏ وبمنطق العلماء ورفض أبو زيد ان يستجوبه محامون اعتبرهم دون مستواه العلمي وهو الفيلسوف الاكثر علما في تفسير الدين منهم عما اذا كان مسلما ام لا لانها باختصار مسألة شخصية في قلبه بينه وبين الله ولا شأن لمخلوق بها حتي ولو كان قاضي محكمة‏!‏ ولما حكمت المحكمة بطلاقهما ترك الرجل وزوجته البلد لهؤلاء المكفرين يلهون في برك جهلها وتوجها إلي هولندا التي كسبت علما وعالمين منحتهما جنسيتها وكسبت تلاميذ جامعة أوتريخت المعرفة والخبرة التي حرم طلاب مصر منها‏.‏ ويحضرني هنا كلمات للشاعر والفيلسوف الهندي طاغور يقول فيها حيث العقل لايخاف والرأس مرفوع عال وحيث المعرفة حرة وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة وحيث يقود العقل نحو ساحات افسح من الفكر والعمل تحت سماء الحرية تلك‏..‏ يا إلهي ايقظ وطني‏.‏
د‏.‏ عماد إسماعيل