أما عن الإدارة أو الحكومة المدنية الرومانية في مصر كما أرسى أغسطس قواعدها وطورها خلفاؤه من بعده فكانت ذات طابع روماني متميز وإن كان الموظفون القائمون عليها – باستثناء المناصب العليا الرفيعة في القمة – من السكان المحليين، كما كانت اللغة اليونانية – وليست اللاتينية – هي لغة الإدارة. وفي الإسكندرية كان كبار الموظفين القريبين من الوالي يضمون بعض الضباط والموظفين وكانوا يعرفون اللغتين اللاتينية واليونانية وكانوا يتسلمون نصوص المراسلات اللاتينية من الإمبراطور أو الوالي ويصيغونها باللغة اليونانية لنشرها في أرجاء الولاية. وفي مجال الإدارة المحلية فقد تم الإبقاء على بعض الألقاب من العصر البطلمي وإن أجرى بعض التغييرات في مسئوليات المنصب كما هو الحال في وظيفة الاستراتيجوس. أما بالنسبة لبقية الوظائف والألقاب فقد استحدثت وظائف وألقاب جديدة حسب الحاجة وأرسيت قواعد جديدة تحكم الجوانب الهامة في الاقتصاد والمجتمع والدين.

كانت هذه خلفية سريعة عن العلاقات بين مصر وروما قبل الغزو الروماني ثم ذكر أهم ملامح الإدارة الرومانية لمصر – بعد الغزو – في عجالة قصيرة. والآن ولكي تكتمل هذه الصورة بعض الشيء نعود لنرى كيف بسط الرومان سيطرتهم على مصر وكيف أمكنهم تأمين حدودها الجنوبية وحملاتهم هناك وفي شبه جزيرة العرب على عهد الولاة الثلاثة الأول لمصر تحت حكم أغسطس وهم كورنيليوس جالوس وايليوس جالوس وبترونيوس.


وأول ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو إخضاع الرومان لمصر العليا والإقليم الطيبي الذي اشتهر بتمرده وثورته ضد الغزاة والحكم الأجنبي وآخرهم الملوك البطالمة، فقد أخضع الرومان مصر السفلي في أول الأمر ولكن ذلك لم يقترن بإخضاع جنوب مصر والذي كان لسنوات طويلة في حالة تمرد وثورة شبه مستمرة ضد الحكم البطلمي، وكان في حالة رفض لتقبل إمبراطور روماني مثلما رفض من قبل الملوك البطالمة. ولذلك كان من أول المهام التي أنيطت بأول الولاة الرومان في مصر – كورنيليوس جالوس – من قبل الإمبراطور أغسطس هو قمع هذه القلاقل والاضطرابات الداخلية. وفي نطاق هذه المهمة قمع هذا الوالي تمردًا في هيروبوليس (بالقرب من السويس) وهي مدينة لها بعض الأهمية العسكرية في الطريق إلى فلسطين وعلم بأن الإقليم الطيبي قام بثورة عارمة انتشرت على نطاق واسع بسبب وصول جباة الضرائب الرومان. وردًا على ذلك أرسل كورنيليوس جالوس قواته للقضاء على هذه الثورة 29ق.م وسرعان ما أدرك المصريون في الجنوب أن القوات الرومانية ذات بأس شديد وأنها أكثر صلابة من القوات البطلمية، وتم سحق التمرد في خمسة عشر يومًا في معركتين ضاريتين وتم إخضاع خمس مدن يتكون منها الإقليم الطيبي. وسار الوالي بعد ذلك إلى مدينة سيني (أسوان) وفي جزيرة فيلاي (فيلة) التقى برسل من حاكم الأثيوبيين في مملكة مروي جنوب مصر، وتوصل كورنيليوس جالوس إلى اتفاق مع هؤلاء السفراء تصبح بمقتضاه منطقة ما بعد الشلال الأول محمية رومانية بصورة ما ويظل حكمها في أيدي الأثيوبيين. ويبدو أن هذا الفتح السهل للبلاد قد أدار رأس الوالي الأول لمصر إذ يقال أنه أمر بإقامة تماثيل تكريمًا لشخصه وأن تكتب وتعلق النقوش على المباني العامة وبذلك أثار امتعاض واستياء الإمبراطور أغسطس. ورغم أن أحد هذه النقوش التي تمتدح كورنيليوس جاللوس قد عثر عليه في جزيرة فيلة ورغم أن هذا النقش لا يوحي بأدنى شك في ولاءه للإمبراطور رغم لهجته المتباهية فإن الإمبراطور أغسطس رغب أن يؤكد حكمه الفردي المطلق في مصر فاستدعى واليه المتعجرف مما أدى إلى انتحار الأخير.


وبعد انتحار كورنيليوس جالوس تم إرسال أيليوس جالوس واليًا على مصر 27ق.م وعلى عاتقه مهمة خاصة تتمثل في إخضاع القبائل على جانبي البحر الأحمر وكذلك الأثيوبيين أو التوصل إلى اتفاق معهم. ومن هنا خطط أيليوس جالوس لحملة على شبه الجزيرة العربية وحشد حملة مكونة من عشرة آلاف رجل من القوات الرومانية في مصر والقوات الحليفة التي كان من بينها ألف من مملكة الأنباط (جنوب الأردن) أرسلهم أوبوداس (عبادة) الملك النبطي الموالي للرومان تحت قيادة وزيره الأكبر سيلايوس (سُلّي أو صالح) وكان ترتيب وإعداد هذه الحملة سيئًا منذ البداية حيث جهز الرومان أسطولاً عند خليج السويس لخوض حرب بحرية، ويبدو أنهم كانوا يجهلون أنه لن تكون هناك مقاومة بحرية عربية. وأدرك الرومان هذه الحقيقة بعد فوات الأوان حينما انتقلت هذه القوات بالفعل عبر البحر الأحمر إلى الساحل النبطي بعد رحلة استغرقت خمسة عشر يومًا فقد خلالها الأسطول الروماني عددًا من سفنه وانتشر المرض بين الجنود. وقضت الحملة الشتاء في مملكة الأنباط وفي الربيع تحركت الحملة برًا على الساحل الغربي لشبه الجزيرة إلى حدود مملكة سبأ، ولم تواجه معارضة منظمة من قوات عربية ولم تجد صعوبة كبيرة في تفريق القوات العربية ذات التسليح المتواضع وفي الاستيلاء على عدد من المدن هناك ووصلوا إلى مملكة سبأ وعاصمتها مأرب بعد ستة أشهر.

ورغم ذلك فإن الحملة اضطرت على التخلي عن محاولة إخضاع مأرب بعد حصار دام ستة أيام وعادت أدراجها إلى الحدود النبطية وعبرت بقايا هذا الجيش البحر الأحمر إلى ميناء "ميوس هوروموس" المصري على البحر الأحمر ومنه إلى صحراء مصر الشرقية إلى فقط ثم ركبوا النيل شمالاً إلى الإسكندرية.

وقد تكبد الرومان في هذه الحملة خسائر فادحة بسبب المرض ونقص الإمدادات خلال الرحلة البرية الطويلة وعدم حصول قائد الحملة أيليوس جالوس على معلومات كافية عن تلك البلاد التي كان بصدد غزوها وقد كان بإمكانه أن يفعل ذلك عن طريق التجار الذين يعلمون الكثير عن شبه جزيرة العرب وأقصر الطرق المؤدية إليها من خلال البحر الأحمر مباشرة عن طريق ميناء "ميوس هورموس" أو ميناء "بيرنيكي" في أقصى جنوب مصر دون حاجة إلى الرحلة البرية الطويلة بمحاذاة البحر الأحمر إلى الجنوب على ساحل شبه الجزيرة. وقد ألقيت مسئولية فشل هذه المغامرة على القائد النبطي سيلايوس الذي أُخذ إلى روما حيث أعدم، كما استبعد أيليوس جالوس من ولاية مصر ربما في إشارة إلى عدم الرضا عن إخفاقه في الحملة.


وكان من آثار غياب أيليوس جالوس وجزء من الحامية الرومانية عن مصر في شبه جزيرة العربة أن شجع الأثيوبيين على خرق الاتفاقات التي سبق أن أبرمها معهم والي مصر الأول كورنيليوس جالوس وحشدوا ثلاثين ألف رجل وتمكنوا سنة 25ق.م من الاستيلاء على أسوان واليفانتين وفيلة وهزموا ثلاث كتائب رومانية كانت مقيمة في تلك المنطقة. ولكن الوالي الجديد بترونيوس جمع قوة قوامها عشرة آلاف من المشاة وثمانمائة من الفرسان وطردوا الأثيوبيين حتى بسيلكيس Pselkis وبعد ثلاثة أيام من المفاوضات العقيمة بين الطرفين هاجم الرومان الأثيوبيين واجتاحوا بسيلكيس ثم بريميس ثم العاصمة نباتا Napata على التوالي. وأرسلت "كانداكي" ملكة الأثيوبيين تطلب السلام وسلمت الأسرى والغنائم التي غنمتها عند أسوان من قبل فوجد بترونيوس أنه ليس من الحكمة أن يتوغل في هذه البلاد أكثر من ذلك فعاد إلى الإسكندرية تاركًا حامية من 400 رجل أقامت لمدة عامين في بريميس، وبعد هذين العامين وصلت الأنباء إلى بترونيوس أن الملكة كانداكي حاصرت حاميته بقوة كبيرة فأسرع إلى نجدتهم وفك الحصار عنهم. وحين عرضت الملكة العودة إلى المفاوضات مرة أخرى أمرها بأن تتصل بالإمبراطور مباشرة. وكان من نتيجة اتصال الملكة بالإمبراطور أغسطس أن انسحبت القوات الرومانية من الجزء الشمالي من تلك المنطقة التي أصبحت منطقة عسكرية فاصلة بها مجموعة محطات متقاربة بمحاذاة النهر سنة 21ق.م، أما فيما يتعلق بالأمور المدنية فقد كانت تعتمد على السلطات الرومانية في أقرب نومات مصر إلى هذه المنطقة وهي اليفانتين. ولم نسمع شيئًا عن الأثيوبيين بعد حملة بترونيوس، ولكن يبدو أن علاقاتهم بروما كانت علاقات سلمية بصفة عامة.


وفي مصر نفسها نفذ بترونيوس بعض الإصلاحات حيث أشرف على تطهير الجيش لقنوات الري التي سدت خلال حكم أواخر ملوك البطالمة بسبب تفاقم الاضطرابات والصراعات على العرش البطلمي مما نجم عنه تناقص مساحة الأرض الزراعية في أواخر عهد البطالمة بصورة خطيرة. وبعد تطهير قنوات الري بنجاح كبير أحس المزارعون بالرضا عن الإدارة الرومانية لأن الفيضان الذي يبلغ ارتفاعه اثنى عشر ذراعًا أصبح يثمر خيرات زراعية تفوق تلك التي تنتج عن فيضان ارتفاعه أربعة عشر ذراعًا في أواخر حكم البطالمة.


ومن بين ما قام به بترونيوس أيضًا أنه صادر ممتلكات المعابد المصرية وجعلها تؤول إلى خزانة الدولة. وكانت ممتلكات هذه المعابد وقوتها قد ازدادت بشكل ملحوظ في ظل حكم الملوك البطالمة الضعاف في أواخر العصر البطلمي بعد أن كان البطالمة الأوائل قد نظموا أمورها تنظيمًا دقيقًا، وكان أغسطس يدرك مدى أهمية إخضاع هذه البؤرة التي تؤجج الإحساس الوطني بالعمل في إضعافها، ولذلك فقد ألحقت الأراضي الزراعية التابعة للمعابد بأراضي الدولة حوالي سنة 20 أو 19ق. م. وقد سمح لبعض الكهنة بالاستمرار في زراعة الأرض التي كانت تابعة للمعابد من قبل على أن يدفعوا إيجارًا مخفضًا نسبيًا للدولة، في حين أعطيت لمعابد أخرى "إعانات Syntaxeis ولم تستمر في زراعة أراضيها حيث أسندت تلك الأرض لمزارعين آخرين. وعهد بتنظيم أمور المعابد المحلية كلية إلى موظف يطلق عليه لقب "أيديولوجوس Idiologos وهو الموظف المختص بالأمور المالية في مصر الرومانية وكان يحمل أيضًا لقب "الكاهن الأكبر للإسكندرية وسائر مصر". ولكن على الرغم من كبح أغسطس لجماح قوة الكهنة فإنه لم يتدخل في العبادات والطقوس المحلية بل وبنى قدر كبير من المعابد الكبرى في مصر العليا في عهده.