(2) اليهود:

كان اليهود يؤلفون أكبر وأهم الجاليات الأجنبية في الإسكندرية في خارج هيئة مواطنيها، فقد كان عددهم يتزايد بأطراد في العصر البطلمي بفضل ما نعموا به عندئذ من أمن على عقائدهم وحرية في مزاولة ما يعوا فيه دائمًا من الأعمال المالية والنشاطات الاقتصادية، ويفعل ما عرفوا به من التماسك وحسن التنظيم، حتى انتعشت جالياتهم ليس في الإسكندرية وحدها بل في سائر أنحاء مصر. وقد قدر الكاتب اليهودي فيلون Philo عدد اليهود في مصر في أيامه، أي في بدايات العصر الروماني بمليون نسمة. أما يهود الإيكندرية فقد ذكر المؤرخ يوسف أن عددهم بلغ في عهد بطليموس الثاني (فيلادلفوس) مائة وعشرين ألفًا. ولي من شك في أن هذا العدد بقى على ما هو عليه إن لم يزد دليل أن اليهود على أيام فيلون (أي في بدايات العصر الرومان) كانوا يشغلون اثنتين من أحياء الإسكندرية الخمس بعد أن كانوا يشغلون في العصر البطلمي حيًا وحدًا هو الحي الرابع (حي دلتا)، بل ربما جاوزوا هذين الحبيبين إلى حي ثالث.


وقد مر بنا أن أوغسطس أقر لجالية اليهود في الإسكندرية بامتيازاتها التي نعمت بها في العصر البطلمي والتي أتاحت لها قدرًا واضحًا من الاستقلالية في إدارة مختلف شئونها، بل زاد أوغسطس على ذلك بأن منحهم الحق في إنشاء مجلس للشيوخ. وقد جعلهم هذا كله في وضع يقترب من وضع المواطنين الإسكندريين وإن لم يتساووا معهم. ولعل ذلك ما أغرى كلاً من الكاتبين اليهودين فيلون ويوسف على الزعم بأن يهود الإسكندرية كان لهم حق المواطنة فيها، وذلك باللعب بالأفاظ والتقريب بين كلمة بوليتيوما Politiuma، وتعني الجالية المعترف بها رسميًا من السلطات (وهو ما كان معترفًا به ليهود الإسكندرية فعلاً) وكلمة بوليتيا Politeia وتعني هيئة مواطني المدينة (وهذا لم تشمل اليهود). والواقع أن هذين الكاتبين حاولا بشتى الوسائل أن يثبتا تمتع اليهود بحق المواطنة الإسكندرية، غير أن الشواهد التاريخية المتعددة تنفى ذلك، وأوضح هذه الشواهد هي التي تقطع بأنهم كانوا يدفعون ضريبة الرأس Laographia، ولو أنهم كانوا من مواطني الإسكندرية لأعفوا منها.


وقد سبق أن ذكرنا إن إصرار اليهود على زعمهم بحق المواطنة كان أهم سبب لما شجر بينهم وبين الإسكندريين من نزاع تحول إلى فتنة طائفية دامية. وتضيف هنا عاملاً للنزاع من نوع آخر وهو المنافسة الاقتصادية، لأننا نعلم من شواهد كثيرة أنه كان في يد يهود الإسكندرية جانب كبير من رؤوس الأموال الضخمة ومن النشاط التجاري والمصرفي. والواقع أن نشاط اليهود الاقتصادي كان على قدر كبير من التنظيم، إذ كان لديهم على سبيل المثال نقابة خاصة لكل مهنة من المهن التي زاولوها، بل إن هذا التنظيم بدا مرتبطًا بممارسة شعائر العبادة في بيعتهم الكبرى (معبدهم الرئيسي) بالإسكندرية، إذا وردت إشارة في كتاب "التلمود" اليهودي تفيد أنهم كانوا يجلسون في هذه البيعة كل حسب المهنة التي ينتمي إليها.


أما عن حياة اليهود الدينية فقد تمتعوا فيها بالحرية الكاملة في ممارسة الشعائر وهوما جرت عليه سياسة الرومان الدينية بصفة عامة من التسامح مع كافة العقائد الديانات. وقد استمرت "البيعة" اليهودية الكبرى بالإسكندرية قائمة بل اتسعت كثيرًا لتصبح المركز الذي يتجمع حوله يهود المدينة لإقامة الصلوات وقراءة التوراة التي كانت قد نقلت في العصر البطلمي من العبرية أو الآرامية إلى اليونانية ليتدارسها اليهود الذين نشأوا بالإسكندرية وتعلموا هذه اللغة وصاروا يجهلون العبرية والآرامية. ومن ناحيتهم حافظ اليهود بصفة عامة على تعاليم الشريعة وعلى عادتهم وتقاليدهم وإقامة أعيادهم في مواعيدها، والتقيد بعطلة يوم السب. ولم تمتعهم السلطات الرومانية من الحج إلى بيت المقدس حيث الهيكل وإرسال المال والهيبات إليه (قبل تدميره في عام 70م) غير أننا نستطيع في ضوء المصادر أن نتبين فريقين من يهود الإسكندرية فرِّيق تمسك بحرفية الشريعة وتشبث بالتقاليد بكافة دقائقها، وكان هؤلاء من طبقات اليهود الدنيا غالبًا، وفريق آخر من أثريائهم حاولوا الاقتراب من المجتمع اليوناني في المدينة ليؤكدوا لأنفسهم مكانًا ودورًا اجتماعيًا يتوازى مع دورهم الاقتصادي الكبير، ولكن دون أن يتذكروا لتعاليم الشريعة.

وكانت وسائل هذا الفريق إلى ذلك هي ارتداء الزي اليوناني واتخاذ الأسماء اليونانية واستخدام اليونانية لغة للحديث والكتابة واصطناع أساليب الحياة اليونانية.

ونستطيع أن نعتبر الفيلسوف اليهودي الإسكندري فيلون ممثلاً لهذا الفريق الثاني وتوجهاته نحو الاقتراب من المجتمع اليوناني بالإسكندرية. وهو من أسرة يهودية أرستقراطية، ولم يكن يخفي إعجابه بتفوق الثقافة اليونانية أو يتحرج من أن يغشى الجمنازيوم اليوناني ويشاهد ما يجرى فيه من مباريات، أو أن يحضر ما كان يعرض على مسرح المدينة من مسرحيات يونانية ويظهر إعجابه بها، بل كان يقول إن اليونانية هي لغتنا وقد تبين أنه لم يكن يعرف اللغة العبرية. ومن حيث اشتغاله بالفلسفة درس فيلون الفلسفة اليونانية، استعار كثيرًا من أفكاره ومناهجه منها. وهو في شروحه للترجمة اليونانية للتوراة نحا نحو الفلاسفة من الفيثاغوريين والأفلاطونيين والرواقبين حتى غدت الشخصيات الدينية في التوراة عنده رموزًا لأفكار بعد أن كانت رموزًا دينية قومية لدى اليهود خاصة دون غيرهم من الشعوب، حتى يمكن القول بأنه ألبس التوراة لباسًا يونانيًا. ولعل فيلون أراد أن يجرد فلسفته من مظاهرها القومية اليهودية لتصبح أفكارًا عامة عالميًا يتقبلها اليونان واليهود معًا، وبهذا يتحقق التقريب بين الشعبين بعد أن يزول ما لدى اليونان من شعور بالنفور والاستغراب والازدراء للعنصر اليهودي والثقافة اليهودية. غير أن تفجر الفتن الطائفية وتصاعدها على نحو ما مر بنا بيانه بين الفريقين جعلت محاولة فيلون وإضرابه من اليهود المعتدلين تذهب أدراج الرياح.


(3) المصريون:


كان المصريون في الحقيقة هم أقدم عناصر السكان في الإسكندرية، باعتبار أنهم كانوا يقيمون أساسًا في قرية راقودة (راكوتيس) التي ضمتها مدينة الإسكندرية الجديدة فأصبحت هي الحي الشعبي أو الوطني بها. كذلك نتصور أن المصريين كانوا يمثلون في المدينة كثرة عددية لأنهم كانوا يشكلون قوة العمل في مختلف الصناعات التي ازدهرت بالإسكندرية في العصر الروماني أيما ازدهار وعلى رأسها صناعات الزجاج والنسيج والبردي. وبالرغم من ذلك لم يكن للمصريين وضع أو كيان اجتماعي محدد على أية صورة، فلا كانت لهم جالية "بوليتيوما" ولا ما دون ذلك من نقابات أو روابط، وإنما كانوا مجرد عمال ننتفع المدينة بعملهم بشكل مباشر في نشاطاتها الاقتصادية، وتلك هي علة وجودهم الوحيدة كما كانت ترى السلطات الرومانية.


والواقع أن هذه السلطات كانت حريصة على ألا يفد إلى الإسكندرية "مصريون" من خارجها إلا على أساس قيامهم بعمل محدد تفرضه الضرورة لأن الرومان كانوا حريصين على بقاء أبناء الريف (الخورا) في مواطنهم بالقرى والنجوع المصرية ليفلحوا الأرض ويوفوا بالجزية والخراج. ويتضح لنا هذا التوجه من وثيقتين إحداهما من السنوات الأولى من القرن الثاني الميلادي وهي مرسوم لأحد ولاة مصر في عهد الإمبراطور تراجان، وفيه إشارة إلى ضرورة عودة المصريين الذين نزحوا إلى الإسكندرية للعمل في مواطنهم بالريف، وإلى أن من الضروري لأولئك الذين تحتاج إليهم المدينة أو يرون أن لديهم سببًا مقنعًا للبقاء فيها أن يحصلوا من السلطات على إذن بالإقامة ومن الواضح أن هذا المرسوم صدر لمواجهة ظاهرة النزوح إلى الإسكندرية من الريف زهدًا من الفلاح المصري في العمل الزراعي الذي لم يعد يجزيه بل أن يقيم أوده نظرًا للأعباء الضريبية وأعمال السخرة المتزايدة. وكانت تلك ظاهرة عامة ترد الإشارة إليها في الوثائق الرسمية باسم الهروب أو "التسحب" Anachoresis، ومعناها ترك الموطن الأصلي والتواري عن أعين السلطات. وأما الوثيقة الثانية فهي خطاب موجه من الإمبراطور كاراكالا إلى والي مصر (حوالي عام 215م) وفيه أمر بطرد المصريين من الإسكندرية ليعودوا إلى الريف باستثناء فئات من العاملين في مجالات ضرورية للمدينة نص عليها الخطاب بالتحديد، أو أولئك الذين يقيمون لبعض الوقت إما "للتفرج" بالمدينة أو لتقديم الأضحيات والقرابين في الأعياد الدينية. ونحن نتصور أن انعدام "الحيثية" للمصريين في الإسكندرية على هذا النحو قد انعكس في عبارة ذكرها فيلون عندما قال في معرض حديثه عن فلاكوس والي الإسكندرية: "إنه ليعلم أن في الإسكندرية ومصر كلها طائفتين من السكان؛ نحن (يعني اليهود) وهؤلاء (يعني اليونان) وفي هذا تجاهل تام للعنصر المصري بالمدينة. وعلى هذا النحو نتصور أيضًا نظرة اليونان كذلك إلى هذا العنصر.
منقول