وفضلاً عن ذلك فإنن نستطيع أن نتصور ما يمكن أن يكون عليه سلوك بعض العناصر الوضيعة التي مارست في حماية السلطة وسائل القهر بالعنف، واستمرأت حياة التطفل على حساب فئات مغلوبة على أمرها، وقد انفتحت أمامها فرصة التميز الطبقي، فهي تريد عندئذ أن تضع بينها وبين أصلها الوضيع أبعد ما يكون من المسافات الاجتماعية بل الحواجز الشعورية بالتعالي المبالغ فيه على الأعالي. ولعله إحدى الوثائق تفصح عن رد فعل بعض هؤلاء الأهالي إزاء صلف أو عجرفة واحد من هؤلاء وهي عبارة عن شكوى مرفوعة من أحد الجنود المسرحيين ويدعى جابوس ويولينوس نيجر من أضرار وإهانات بالغة لحقت به. والحق أن تفاصيل الموضوع لم تصل إلينا بضياع الجزء الأعلى من هذه الوثيقة، وهو الجزء الذي يقترض أن الموضوع كان واردًا فيه، لكن صاحب الشكوى في الجزء المتبقي من الوثيقة يقول: "......وعلى ذلك فحيث أن الأذى الذي وقع على واضح، وحيث أننا روماني لحقته مثل هذه الإهانات على يد مصري، فإنني أطلب...".

وإلى جانب هذا الشعور غير الودي من جانب الأهالي إزاء المستوطنين الجدد من هؤلاء المواطنين الرومان، فإن لدينا من الوثائق ما يوحى بأن العلاقة بينهم وبين سلطات الحكم المحلي لم تخل من المتاعب، وأن مبعث المشكلات كان في الأغلب هو ميل هذه السلطات إلى الانتقاض من امتيازات الجنود المسرحين وتقليص حجم الإعفاءات الممنوحة لهم. ونستطيع أن ننظم هنا في سياق واحد أربع وثائق ترجع اثنتان منها إلى حوالي عام 63م والثالثة إلى عام 139 والرابعة إلى عام 172م. فأما الوثيقتان الأوليان فتتناولان على الأرجح قضية واحدة من خلال مقابلة تمت بالإسكندرية على مدى أربعة أيام بين والي مصر يوليوس كيكينا توسكوس ومجموعة من الجنود المسرحين الذين رفعوا إليه شكاياتهم، ويفهم أن الوالي أجابهم بأنه سيكتب إلى مديري الأقاليم التي ينزلون بها حتى لا يتعرض لهم أحد مضايقات، طالبًا منهم أن يعود كل منهم إلى مباشرة شئونه دون إبطاء. وأما الوثيقة الثالثة فهي تلك التي أشير إليها مرارًا في دراسات مختلفة من قبل، أنا للتدليل على تميز طبقة على الرومان في مصر من حيث عدم خضوعهم لسلطات الحكم المحلي، وأنا أخر لبيان اندماج طبقة مواطني الإسكندرية من حيث الوضع الاجتماعي مع طبقة المواطنين الرومان بمرور الوقت.


وتتضمن هذه الوثيقة تلك الشكوى المشهورة التي رفعها مدير إقليم فقط Coptos إلى الوالي في عام 139م بأن الرومان والإسكندريين والجنود والمسرحين العاملين في جباية الضرائب من خلال الخدمة الإلزامية المفروضة عليهم، يرفضون الامتثال لأوامره ويعلنون أنهم غير خاضعين له.

ويمكن أن ننتظر إلى هذه الوثيقة نفسها من زاوية جديدة نستخلص منها أن ما كان يوجد فرص الاحتكاك بين الجنود المسرحين الذين استقروا في مواطنهم الجديدة وبين السلطات المحلية هو الميل الطبيعي لدى هذه السلطات للانتقاص من امتيازاتهم. ولعل الوثيقة الرابعة التي رأينا أن نسلكها في السياق نفسه تؤكد لنا هذا الاتجاه وهي وثيقة ترجع إلى عام 172م وتتضمن شكوى من أحد ملاك الأراضي من الجنود المسحريين المقيمين في قرية كرانيس بالفيوم ويدعى جايوس يوليوس أبولينا ريوس يذكر فيها أن السلطات لم ترع حقوقه بوصفه جنديًا مسرحًا في الإعفاء من الخدمة الإلزامية لمدة خمسة أعوام بعد تسريحه من الجيش، فكلفته بأعمال من هذا النوع بعد عامين فقط من تسريحه.

ويقد يعن لنا لي ختام هذا الحديث عن المواطنين الرومان في مصر أن نتساءل عن الدور الثقافي أو الحضاري الذي يمكن أن يكونوا قد قاموا به في مصر في الفترة ما بين بداية الحكم الروماني وصدور قانون (دستور) كاراكالا في عام 212م. وهو المرسوم الذي جعل كل سكان مصر مواطنين رومانا (عدا طائفة بعينها استثناها). إن ما ينبغي ملاحظته هو أن لامواطنين الرومان الأصليين لم يتدفقوا على مصر تدفق العنصر اليوناني من قبل في أعقاب حملات الإسكندر الأكبر في الشرق وقيام مملكة البطالمة، ولم يتغلغل هؤلاء الرومان في الريف المصري مثلما فعل اليونان، ولذلك لم يشكلوا جالية أجنبية مؤثرة في الحياة المصرية العامة وإنما ظلوا مجرد (طبقة) متميزة تميزًا اجتماعيًا واقتصاديًا. وينبغي أن نتذكر أيضًا ما ذكرناه من أن من أكبر مصادر أفراد الجالية الرومانية في مصر كان الذين حصلوا على حق المواطنة الرومانية من مكان البلاد سواء من مواطني مدينة الإسكندرية (الذين كان وضعهم يؤهلهم لأن يمنحوا هذا الحق)، أم من سائر اليونان والمتأغرقين وبعض العناصر الشرقية بعد أدائهم الخدمة العسكرية في الجيش الروماني وفقًا للقواعد التي حددها القانون. ولم يكن وضع، الجالية، الرومانية في مصر بهذه الصورة يتيح فرصة لتأثير روماني ثقافي قوي في حياة المجتمع.


ولنا أن نضيف هنا في استطراد عابر يبين سببًا من أسباب ضعف هذا التأثير أن السلطات الرومانية لم تتدخل لفرض اللغة اللاتينية لغة رسمية للإدارة وإنما أبقت على وضع اللغة اليونانية في هذا الخصوص واقتصر استخدام اللاتينية على الجيش الروماني ومعاملات المواطنين الرومان في إطار القانون المدني الروماني كما سبق أن أوضحنا في موضع سابق.

منقول