الأعمال التي زاولها المواطنون الرومان:

وإلى جانب هذا التنوع في المصادر التي أمدت "الجالية الرومانية" بأفرادها المقيمين في مصر إقامة دائمة، تشير الوثائق إلى تنوع الأعمال وتباين وجوه النشاط التي مارسها هؤلاء الأفراد. لكن المجال الغالب الذي تظهره هذه الوثائق هو مجال امتلاك العقارات والأراضي الزراعية بشتى أنواعها على وجه الخصوص. غير أنه في ملاحظتنا هذه، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار طبيعة الوثائق البردية من حيث هي مصدر للمعلومات. ذلك أن هذا النوع من الملكيات الثابتة يشغل المكان الأول من حيث الكثرة العددية بين الوثائق المتعلقة بتصرفات البيع والشراء وقوائم الضرائب وسائر العقود والوصايا. وعلى ذلك فإن من الممكن أن يكون لأحد أصحاب هذه الملكيات نشاط اقتصادي إضافي في مجال صناعي أو تجاري آخر، لكن هذا النشاط لا يتردد ذكره في الوثائق كذلك ينبغي ألا ننسى طبيعة الاقتصاد المصري الذي كان إبان العصور القديمة برمتها اقتصادًا زراعيًا، وأن جانبًا كبيرًا من الجنود المسرحيين وجهوًا استثماراتهم عندما استقروا في البلاد إلى امتلاك الأراضي والعقارات في "ريف" مصر، ويبدو ذلك واضحًا على وجه الخصوص في وثائق كرانيس. وعلينا أن نتذكر أيضًا ما سبق أن نوهنا عنه عن افتقارنا إلى المصادر الوثائقية الخاصة بمدينة الإسكندرية حيث كانت للرومان فيها بالتأكيد مجالات نشاط غير زراعية.


وتقدم لنا بالبردية رقم 79 من برديات جامعة بيل الأمريكية (P.Yale79) مثلاً واضحًا على توجه المواطنين الرومان إلى امتلاك الأراضي الزراعية، سواء أكان هؤلاء المواطنون جنودًا في الخدمة أم جنودًا مسرحيين أم مدنيين. وأظهرت الدراسة التحليلية لقوائم الضرائب في قرية كرانيس Karanis بإقليم الفيوم (كوم أوشيم) تزايد عدد أسماء كبار ملاك الأراضي الزراعية من المواطنين الرومان بحيث يمثلون نسبة عالية بصورة لافتة للنظر.


والواقع أن مقدرة الجندي المالية عند تسريحه كانت تتيح له فرصة امتلاك الأرض والعقارات على نحو يسمح له بأن يبدأ حياته المدنية بعد التقاعد كرجل أعمال له وزنه. ذلك أن الجندي كان يحصل في نهاية الخدمة على مكافأة قدرها إثنا عشر ألفًا من الدراخمات لمن خدم في صفوف الفرق الأساسية وأقل من ذلك شيدًا ما لمن خدم في القوات المساعدة. كذلك يبدو أن جزءًا من مرتب الجندي كان يحتجز لحسابه طوال فترة خدمته على مدى ربع قرن فيما يشبه الودائع الجبرية Deposita. وقد كان هذا المرتب منذ عهد الإمبراطور دوميتيان 1200 دراخمة بالنسبة إلى جندي الفرق الأساسية ووحدات الخيالة و 1000 دراخمة بالنسبة إلى جندي القوات المساعدة. وفي خلال فترة الهدوء والاستقرار التي لم يكن الجندي يقوم فيها بمهام قبالية والتي كثيرًا ما كانت تطول، وجد هذا الجندي متسعًا من الوقت والمال لممارسة صفقات وأعمال تدور عليه إما ريحًا سريعًا سهلاً، أو ريحًا وفيرًا في مشروعات طويلة المدى. وقد شملت هذه الأعمال شراء العبيد وبيعهم، وإقراض الأموال لقاء فائدة شهرية قدرها واحد في المائة، وهي فائدة مجزية، وإن كان الجنود لم يقنعوا بها فزادوها بالرغم من منافاة ذلك للقانون.


ونستطيع أن نذكر بضع حالات واردة في الوثائق تبين قدرة الجنود المالية، ومنها حالة لجندي كان قادرًا على شراء نول لقاء ثلاثة عشر ألفًا من الدراخمات دفعها فورًا، وآخر كان يمتلك قاربًا تهربًا حمولته خمسمائة أردب (حوالي 12.5 طن) ويستأجر بحارًا لتشغيله لحسابه، وثالث يسجل في وصيته قائمة بممتلكاته التي ضمت ـ إلى جانب متعلقاته الشخصية والعسكرية ـ مالاً سائلاً قدره ثماني قطع ذهبية، و199.5 وزنه (تالنت) من الفضة، وهو ما تربو قيمته على المليون دراخمة (لولا أننا يجب أن ننتبه هنا إلى أن التضخم وتدهور قيمة العملة في وقت تحرير هذه الوصية كان قد وصل إلى معدل مرتفع حقًا) وقد كان جزء من مال صاحب الوصية محفوظًا في خزانته، لكن الجانب الأكبر منه كان يمثل قروضًا له في ذمة مدينين بلغ عددها خمسة عشرة قرضًا.


كذلك فإنه في مثل هذه الظروف من استقرار الأحوال وعدم انهماك الجنود في أعمال القتال مع توفر القدرة المالية لديهم، كان من الطبيعي أن ينغمسوا في الحياة الاجتماعية في خارج المعسكرات وينشدوا مع الأهالي علاقات كانت ثمرتها إنجاب أبناء وتكوين أسر. وعلينا أن نتذكر هنا ما سبق أن ذكرناه أن سنوات الخدمة العسكرية الطويلة كانت بالنسبة إلى هؤلاء الجنود هي سنوات الشباب والرجولة الناضجة. وكان مما يخالف طبيعة الأشياء أن يظل الجندي الشاب إلى سن الأربعين أو يزيد عطلاً من زينة الاقتران بالمرأة والإنجاب. ومن المعروف أن القانون الروماني كان يحظر على الجنود الزواج في أثناء الخدمة العسكرية، حيث لم يكن حق الزواج Conubium يمنح لهم إلا بعد تسريحهم. غير أنه يتضح من الوثائق أن هذه القاعدة انتهكت، وعاشر الجنود في أثناء الخدمة نسوة من الأهالي معاشرة الأزواج، وأنجبوا منهن أبناء كانوا أمام القانون أبناء غير شرعيين Spurii باعتبار أنه لم يكن هناك عقد يقيم زواجًا شرعيًا Iustum Matrimonium وحتى عهد الإمبراطور هادريان، كانت تصدر عن الأباطرة أوامر تؤكد حظر زواج الجند أثناء الخدمة ولكن السلطات الرومانية تغاضت عن تلك الممارسات غير القانونية، وعند تسريح الجندي آخر الأمر كان يعترف بزواجه الذي تم أثناء خدمته، وعلى ذلك، فإن حصوله عندئذ على حق المواطنة كان يشمل زوجته وأبناءه. غير أن كثيرًا من المشكلات كانت تنشأ في حالة وفاة الجندي الأب قبل تسريحه حيث لا يكون للأبناء عندئذ حق الميراث. وقد وصلنا عدد من القضايا في صورة التماسات رفعتها أمهات لهؤلاء الأبناء إلى السلطات طالبات إقرار حق أبنائهن في الإرث وكان الحكم يصدر بعدم شرعية ذلك. وإزاء تزايد حالات انتهاك قاعدة حظر زواج الجنود وتزايد مشكلات قضايا الميراث، لم يجد الإمبراطور هادريان بدّا من إصدار قرار في عام 119 يقضي بمنح هؤلاء الأبناء الحق الشرعي أن يرثوا آباءهم.


ولعل من الواضح أنه لم يكن من اليسير على الجندي يعد تسريحه أن يتحلل من هذه الروابط الاقتصادية والاجتماعية. وإنما كان من الطبيعي أن يتخذ الجنود المسرحون مقامهم في مصر متمتعين بما يتيحه لهم حصولهم على حق المواطنة الرومانية من مركز أدبي وامتيازات جمة، وإعفاءات كلية أو جزئية من الضرائب ومن العمل الإلزامي أو الجبري كما أن عددًا من هؤلاء الجنود كانوا من أهل البلاد أصلاً، لذلك غدًا عنصر الجنود المسرحين كما أسلفنا هو المصدر الأكبر للمواطنين الرومان في مصر وكان أمرًا طبيعيًا أن نحد هذا العنصر أكثر منه بالنسبة إلى العناصر الأخرى المكونة للجالية الرومانية بالبلاد.


ولدينا أولاً من تلك البرديات التي تلقي ضوءًا على ظروف استقرار الجندي المسرح عدد من الوثائق الخاصة بعملية فحص المستندات Epikrisis التي كانت تجري تحت إشراف والي مصر نفسه أو أحد كبار المسئولين العسكريين ممن كان ينيبهم ينيبه الوالي عنه في هذا الصدد. وقد أصبح من الواضح لنا الآن أن عملية "فحص المستندات" كانت بكل أنواعها ومستوياتها في مصر إجراء إداريًا الهدف منه إثبات وضعية اجتماعية يترتب عليها التمتع بحقوق أو امتيازات بعينها. وقد كان هذا الفحص الذي يتولى أمره والي مصر أو نائب عنه يتعلق أساسًا بشئون مواطنين رومان يرد ذكرهم تعميمًا باسم الرومان Romaioi وجنود مسرحين Veteranoi وكانوا جمعيًا مؤهلين بحكم وضعهم للحصول على حق المواطنة الرومانية بعد إقرار حقهم فيها، هذا إلى جانب فئات أخرى من السكان هم في الأغلب تابعون لهؤلاء. ولدينا الآن من وثائق هذا النوع من الفحص ثلاث عشرة وثيقة منشورة، منها سبع (وربما ثمان) تتعلق بالجنود المسرحيين، حيث نرى المطلب المتكرر فيها هو طلب الجندي السماح له ـ إما بمفرده أو مع أبنائه ـ بالإقامة بناحية ما من البلاد ومن المعلوم أن المتقدم بهذا الطلب كان يتعين عليه المثول بنفسه أمام لجنة الفحص حيث يقدم المستندات المطلوبة، ونقصد بها "الدبلوما" Diploma أو براءة التسريح المشرف من الخدمة العسكرية Missi Honesta Missione وكانت على هيئة لوح برونزي مزدوج مسجل فيه باللاتينية ما يفيد هنا التسريح المشرف للجندي سواء أخدم في الفرق الأساسية أم في القوات المساعدة، مع ذكر الحقوق والامتيازات المترتبة على هذا التسريح، ولما كان الاستهلال الوارد في صدر كل وثيقة من وثائق هذا الفحص تفيد بأنها مستخرج Antigraphon من سجل فحص المستندات الخاص بالوالي (فلان)، فإن المفترض أن الطالب كان يزود عند إقرار حقه بوثيقة يستخدمها فيما بعد في شتى المعاملات ومنها يعيه للإقامة في مكان محدد بالبلاد.


وفي سياق تتبعنا لحياة الجندي المسرح وهو يبدأ حياته الجديدة مواطنًا رومانيًا، نورد بعد ذلك وثيقة مهمة فيها شيء من الطرافة أيضًا لأنها تتيح فرصة قراءة ما بين السطور على حد تعبير ناشرها الأول لويس. وتقدم لنا هذه الوثيقة المؤرخة في عام 136م أنموذجًا واضحًا للطريق الذي كان يملكها هذا الجندي وهو يخطط لحياته المستقبلة بعد التقاعد، وهي تتضمن خطابًا من شخص يدعى فاليريوس بالينوس لا يزال يؤدي الخدمة العسكرية ويتوقع ترسيحه بعد عام، إلى أخيه فالريوس أبوليناريوس المقيم بقرية كرانيس بالفيوم، يوصيه بالعمل على تيسير مهمة حامل خطابه المذكور على النحول التالي:


أوصيك بحامل هذا الخطاب ترنتيانوس الجندي المسرح تسريحًا مشرفًا، واجعله يتعرف على طرائق حياة سكان القرية حتى لا تلحقه إهانة وحيث أنه رجل موسر ويرغب في الإقامة هناك، فقد بذلت له أن يستأجر منزلي لهذه السنة والسنة التالية لقاء ستين دراخمة وأن يؤجر أرضي لقاء ستين أخرى ونحن نفهم من هذه الوثيقة جملة أمور منها أن الجندي إيان العام أو العامين الأخيرين قبل التسريح كأن يدبر أمر مستقبله حين يصبح في جعبته المال اللازم والمستندات التي تثبت وضعه الجديد الممتاز، وأنه كان يتجه إلى مكان يوفر له الإقامة الطيبة والاستثمار الطيب في آن معًا، وأن الأمر كان يقتضي منه أن يلتمس البداية الصحيحة في مجتمع الأهالي حتى لا يلحقه ضرر أو مهانة وتبدو هذه النقطة الأخيرة مفهومة لنا تمامًا بالنسبة إلى شعور التوجس من جانب هؤلاء الأهالي إزاء هؤلاء الغرباء القادمين للاستيطان بينهم والذين كانت ذاكرتهم تحتفظ بصور عنهم وهم جنود أثناء الخدمة عندما كانوا ينفذون سياسة الحكومة في فرض المزيد من الأعباء سواء العينية أم النقدية، حيث كانوا بوصفهم أدوات السلطة لا يعدمون وسيلة لتحصيل فوائد شخصية لهم منها في غمار الجو الابتزازي العام، خاصة وأن من هذه الأعباء ما كان يتصل بإيواء الجند المراطبين بالأقاليم وإمدادهم بالمئونة والغذاء. وهكذا كان ظهور هؤلاء القادمين الجدد للاستيطان يقترن في وجدان الأهالي برموز سلطة حكومية غاشمة، فلم يكن غريبًا ألا يستقبلوهم بالترحيب بل إنه حتى لو كان من القادمين الجدد من هو على استعداد لأن يكون إنسانًا خيرًا بل محسنًا، فإن أهل القرية كان يدركون بما يشبه العزيزة الجماعية أن الامتيازات التي يكفلها له القانون تتضمن بالضرورة إعفاءات عليهم هم أن يتحملوها عنه.