كان من الأمور الطبيعية أن يفد إلى مصر عدد كبير من المواطنين الرومان بعد دخول البلاد في حوزة الإمبراطورية الرومانية. . وقد قدم هؤلاء من أجل أغراض مختلفة منها تولي الوظائف في الإدارة المركزية أو ممارسة النشاط الاقتصادي، أو الانخراط في سلك الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الذي رابطت فرقه وكتائبه في أنحاء البلاد. ولما كان هذا العنصر الوافد الجديد هو عنصر السادة الفاتحين، فقد كان طبيعيًا أن يتبوأ أفراده مكان الصدارة في ذلك المجتمع الطبقي الذي أجملنا في الفصل السابق وصفه والذي حولته السياسة الرومانية إلى مجتمع جامد التركيب اتخذت طبقاته شكلاً هرميًا واضح المعالم جاء المواطنون الرومان في قمته.

مصادر إمداد الجالية الرومانية في مصر بالأفراد :


وتقصد بتغيير الجالية الرومانية هنا أولئك الرومان الذين أقاموا بمصر إقامة دائمة سواء أكانوا مواطنين رومانًا بالأصل أم بالتجنس أم بالاكتساب ويعني هذا أننا نخرج من حسابنا الموظفين الرسميين الرومان على اختلاف مستويات وظائفهم، فهؤلاء كانوا يؤدون سنوات خدمتهم بالبلاد ثم يغادرونها، وتستثنى كذلك أولئك النفز من وجهاء الرومان الذين كانوا يقدمون إلى مصر لأغراض السياحة أو العلاج ثم يرحلون، وكبار ملاك الأراضي الرومان من أفراد عائلة الإمبراطور رجالاً ونساءً، أو عنقائه Liberti أو خلصانة وأصفيانه، وهؤلاء وأولئك جميعًا امتلكوا في مصر مساحات كبيرة من أراضي "الوسية" Ousia خاصة إبان القرن الأول من الحكم الروماني، لكنهم كانوا ملاكًا "متغيبين" Absentees وربما لم تطأ أقدامهم أرض مصر قط.


هذه الجالية الرومانية ضمت أفرادًا أتوا من مصادر شتى أولها من حيث الترتيب التاريخي أولئك الرومان الذين كانوا مواطنين بحكم المولد أصلاً وقدموا إلى مصر في ركاب الاحتلال ليعملوا في المجالين المالي والاقتصادي مستفيدين من الامتيازات العديدة والمركز الرفيع الذي حظي به المواطنون الرومان. وقد تركز الجانب الأكبر من نشاطهم أولاً في مدينة الإسكندرية حيث نجد عددًا كبيرًا من المشتغلين بالتجارة والصيرفة في عهد أوغسطس يحملون أسماء تفصيح عن هويتهم الرومانية، كما نجد بعض القرائن على وجود نشاط لهم في الأقاليم منذ ذلك العهد. ويطرد ذكر الرومان Romaioi بعد ذلك في الوثائق الخاصة بإقرارات الإحصاء المنزلي Kat, Oikian apographe بما يفيد إقامتهم بأنحاء مختلفة من البلاد، ولاشك أن الكثير منهم كانوا من ملاك الأراضي. ويتضح من المقارنة أن ملكياتهم في القرن الأول من الحكم الروماني كانت كبيرة نسبيًا إذا قيست بمساحات ملكياتهم في القرن الثاني غير أنه ينبغي أن نلاحظ أن توافد هؤلاء الرومان على مصر في أعقاب الاحتلال لم يكن يماثل بأي حال حجم توافد العنصر اليوناني عليها بعد قيام الحكم البطلمي حيث اندفع اليونان عندئذ إلى البلاد زرافات ووحدانا، وكان للبطالمة سياسة مرسومة لتطوينهم في البلاد. لكننا لا نعرف أن أحدًا من الأباطرة الرومان انتهج في مصر سياسة إنشاء مستوطنات رومانية، كما فعل بعضهم في ولايات أخرى. كذلك نستدل من حصيلة ما لدينا من الوثائق أن تغلغل هؤلاء الرومان في حياة الأقاليم كان محدودًا.


وأما المصدر الثاني لأفراد الجالية الرومانية في مصر فكان من الذين تجنسوا بالجنسية الرومانية بمقتضى منحة من أحد الأباطرة، وكان يأتي في مقدمة هؤلاء مواطنو مدينة الإسكندرية الذين شغلوا في سلم الترتيب الطبقي المكانة التالية مباشرة بعد المواطنين الرومان. وقد كان من الامتيازات المهمة التي خص بها الرومان هؤلاء المواطنين الإسكندريين دون سائر سكان مصر حق الحصول على المواطنة الرومانية مباشرة (دون أن يؤدوا الخدمة العسكرية في الجيش الروماني بضعًا وعشرين عامًا). ونحن نعلم من إحدى المراسلات المشهورة بين الإمبراطور تراجان والكاتب بليني الأصغر في حوالي عام 100م أنه كان يتعين على أي "مصري" يسعى إلى الحصول على حق المواطنة الرومانية أن يحصل أولاً على حق المواطنة الإسكندرية. وإزاء شعور الإسكندريين بعدم الارتياح لوجود طبقة أرفع وأكثر تميزًا منهم من الناحية الرسمية بالبلاد، سعوا بكل وسيلة إلى اكتساب الجنسية الرومانية مستفيدين بهذا الامتياز المذكور. وهكذا وجدنا أن عددًا كبيرًا من المواطنين الرومان في مصر كانوا في الأصل إسكندريين.


أما المصدر الأكبر للمواطنين الرومان في مصر فكان في الواقع هو جيش الاحتلال الروماني الذي كان عدد أفراده في عهد أوغسطس يجاوز اثنين وعشرين ألفًا، وإن خفض بعد ذلك غير مرة. وقد كان هذا الجيش يتألف من فرق أساسية Legiones ا يجند فيها إلا المواطنون الرومان وينخرطون في سلك الخدمة فيها خمسًا وعشرين سنة، وكنائب من القوات المساعدة Auxilia، وكان الغالبية العظمى من أفرادها يجندون من غير الرومان Pergrini من جميع ولايات الإمبراطورية ويؤدون الخدمة العسكرية ستًا وعشرين سنة في صفوف المشاة أو الخيالة أو الأسطول، وعند تسريحهم بعد نهاية الخدمة تسريحًا مشرفًا Honesta missio كانوا يكافئون بمنحهم حق المواطنة الرومانية. وسواء أكان هؤلاء الجنود المسرحون Veterani مواطنين رومانًا في الأصل أم اكتسبوا الجنسية الرومانية من خلال أداء الخدمة العسكرية، فإن كثيرًا من هؤلاء وأولئك أثروا البقاء في مصر بعد تسريحهم من الجيش بعد أن ألفوا الحياة في البلاد نحوًا من ربع قرن هي مدة خدمتهم العسكرية إذا اتفق أن يكونوا قد قضوها كلها في مصر كما كان يحدث في غالب الأحوال، لاسيما وأنهم في خلال هذه المدة ـ وهي تمثل سنى الشباب بالنسبة إليهم ـ كانوا ينشئون مع الأهالي علاقات اقتصادية واجتماعية لم يكن من السهل التحلل من ارتباطاتها. ومن ناحية أخرى وجدنا كثيرًا من اليونان المصريين من ذوي الأوضاع الممتازة في عواصم الأقاليم Metropoleis يحصلون على حق المواطنة الرومانية من خلال أدائهم الخدمة العسكرية ذلك أنه منذ عهد الإمبراطور هادريان (117-138م) مالت سياسة الأباطرة إلى تعبئة جنود الحاميات الرومانية في الولايات من أهلها بعد أن ظلت السياسة الرومانية على مدى فترة القرن ونصف القرن السابقة تتجه إلى تعبئة هؤلاء الجنود من خارج الولاية. ولذلك نلاحظ أن عددًا كبيرًا من الجنود المسرحيين الذين تذكرهم الوثائق المصرية منذ متصف القرن الثاني الميلادي وتتحدث عنهم بصفتهم مواطنين رومانا كاملين، كانوا في الأصل من مواطني عواصم الأقاليم المصرية.