أشرنا من قبل إلى أن الرومان اتخذوا من أداء ضريبة الرأس مقياسًا لتقسيم سكان مصر إلى طبقات وفئات، وأن هذا التقييم ـ على ما يظهر فيه من نزعة رومانية واضحة نحو التقنين ـ قد كان صادرًا عن سياسة رومانية عملية تمامًا . ذلك أن لارومان كانوا محتاجين احتياجًا ماديًا إلى تعاون العنصر اليوناني معهم، سواء أكان هذا العنصر من مواطني المدن اليونانية الثلاث أم من المقيمين في خارجها، فرأوا أن يميزوا اليونان عن سائر سكان مصر الذين كان يعبر عنهم على اختلاف جنسياتهم باسم عام هو المصريون Aegyptioi فأما مواطنوا المدن اليونانية فقد أسقطوا عنهم الضريبة المذكورة بأن أعفوهم منها إعفاء تامًا، على افتراض أنهم ظلوا يونانًا خالصين. وأما من دونهم من اليونان في الأقاليم، فلم يكن الرومان يستطيعون افتراض ذلك فيهم بعد أن ظلوا يخالطون العنصر المصري الوطني على مدى ثلاثة قرون دون أن يكون هناك قيد قانوني أو عرفي ما يحول دون هذا الاختلاط. لكن القانون الروماني ـ خدمة منه لأغراض رومانية عملية ـ كان يستطيع أن يفترض أن هناك عناصر بعينها من هؤلاء وهم سكان عواصم الأقاليم، أعنى سكان كبريات البلدان في "ريف" مصر، يمكن اعتبارها على قدر من "التأغرق" أي من تلقى التعليم اليوناني وتحصيل الثقافة اليونانية، بحيث تكون قادرة على النهوض بأعباء وظيفية إدارية. ومن هنا كان اتجاه الرومان إلى تقوية هذه العناصر بتمييزها تمييزًا اقتصاديًا هو منحها إعفاء جزئيًا من دفع ضريبة الرأس.

وهذه الفئات اليونانية أو المتأغرقة المتميزة هي التي ننظر الآن في أوضاعها وبعض أحوالها العامة، ثم ننظر بعد ذلك إلى وضع سائر المصريين الذين تدفعوا الضريبة كاملة غير منقوصة.

(1) فئة سكان عواصم الأقاليم Hoi metropolitai :


علمنا من الوثائق البردية بعض معدلات للتخفيض الذي تمتعت به هذه الفئة وإن لم نعلم دائمًا نسبته المئوية من الضريبة الكاملة. ففي إقليم أوكسيرينخوس (البهنسا) كان المعدل المنخف هو 12 دراخمة ولذلك عرفت هذه الفئة هناك باسم سكان عاصمة الإقليم دافعي الاثنى عشرة دراخمة Metropolitai Dodekadrachmoi وفي هرموبوليس Hermopolis (الأشمونين) وهيراكليوبوليس Heracleopolis (اهتاسيا) كان المعدل المنحفض ثماني دراخمات وبالتالي عرفت الفئة هناك باسم دافعي الثماني دراخمات Metropolitai أما في إقليم أرسينوي (الفيوم) فكانت ضريبة الرأس الكاملة تزيد قليلاً عن أربعين دراخمة، أما المعدل المنخفض الذي كانت تدفعه الفئة الممتازة فكان عشرين دراخمة أي بمقدار النصف تقريبًا. ولعلنا نلاحظ ارتفاع مقدار ضريبة الرأس الكاملة في إقليم الفيوم ومن الأرجح أن يكون ذلك راجعًا إلى ارتفاع مستوى المعيشة في هذا الإقليم بالذات. غير أننا لا نعلم مقدار الضريبة الكاملة في بقية أقاليم مصر لكي نحدد نسبة الإعفاء الذي تمتعت به فئة مواطني عواصم الأقاليم وإن كانت هناك بعض الشواهد الخاصة بإقليم أكسيريتخوس تجعلنا نرجح أن الضريبة الكاملة ك انت 16 دراخمة أي أن نسبة الإعفاء هناك كانت أربع دراخمات فقط باعتبار أن المعدل المنخفض كان 12 دراخمة كما سبق أن ذكرنا.


وتشير الوثائق التي وصلت إلينا والخاصة بعملية فحص مستندات الأفراد الذين كانوا ليتقدمون لإدراج أسمائهم في فئة سكان عواصم الأقاليم Epikrisis تشير إلى أن امتياز هذه الفئة المالي كان متوارثًا، وأنه لم يكن من اليسير على أفراد من خارج هذه الفئة التسلل إلى صفوفها. لكن لا يبدو في هذه الوثائق ما يشير إلى أن هذه الفئة كانت تؤلف طبقة اجتماعية مغلقة كما كان الحال بالنسبة إلى الفئة الأخرى التي وحدت في داخلها وهي فئة الرجال من خريجي الجمنازيوم، والتي يرد ذكرؤها في الوثائق صراحة على أنها Tagma وهي كلمة يونانية مرادفة للكلمة اللاتينية Ordo بمعنى طبقة. ذلك أنه كان يمكن أن تمنح السلطات شخصًا ما لقب متروبوليتس Metropolotes (أي مواطن في عاصمة الأقاليم) تشريفًا له لقاء عمل من أعمال الخبر قام به أو فوز رياضي أحرزه وفي هذه الحالة لا يكون هناك شروط لمنحه هذا اللقب. ومن الأمور ذات الدلالة فيما يتعلق ببعد هذه الفئة عن أن تكون "طبقة" مغلقة ما نلاحظه من أن بعض أسماء أفرادها الواردة في الوثائق تبدو أسماء يونانية مصرية مختلفطة، مما يشير إلى أن بعض أفرادها كانوا يونانًا تمصروا أو مصريين تأغرقوا.


(2) خريجو الجمنازيوم:


وأما فئة خريجي الجمنازيوم Hoi Apo Gymnasiou فإن كثيرًا من القرائن في الوثائق تؤكد أن أفرادها كانوا يؤلفون طبقة Tagma اجتماعية مغلقة بكل ما في كلمة الطبقة من معنى مدد وأن النفاذ إلى داخل الدائرة المغلقة على هذه الطبقة كان أمرًا بالغ الصعوبة فنحن نحس مثلاً أن إجراء فحص مستندات الأفراد Epikrisis المتقدمين بطلبات من صاحب الطلب المقدم إبراز مستندات أدق من ناحية إثبات الوراثة وأكثر مما كان مطلوبًا من طالب القيد في قوائم مواطني عواصم الأقاليم. وقد كان الهدف العملي من وراء سياسة الرومان في خلق هذه الطبقة هو أن يحصلوا على رجال أكفاء قادرين بفضل تعليمهم اليوناني الذي سبق أن تلقوه في الجمنازيوم، على أن ينهضوا بأعباء الوظائف المحلية في عواصم الأقاليم بل أعباء مناصب أعلى في الإدارة الحكومية كوظيفة مدير الإقليم Strategos أو الكاتب الملكي Basilicogrammateus وليس من شكل في أن أفراد هذه الطبقة كانوا شديدي الإحساس بتميزهم الطبقي بين سكان العواصم. ولا يسع الدارس إلا أن يخرج بهذا الانطباع وهو يطالع الوثائق البردية الخاصة بعملية فحص طلبات المتقدمين لإدراك أسمائهم فيها. ففي بعض هذه الوثائق التي ترجع إلى القرن الثالث الميلادي نجد أسرًا يونانية قادرة على أن ترجع بأنسابها عبر سبعة أجيال سابقة وعلى مدى قرنين ونصف قرن تقريبًا إلى جدها الأول الذي توارثت عنه هذه الأجيال صفة الانتماء إلى هذه الطبقة، أي منذ الوقت الذي قام فيه أوغسطس باختيار أفراد هذه الطبقة اختيارًا وذلك في السنة الرابعة والثلاثين من حكمه كما تشير القرائن أي في عام 4-5 ميلادية. غير أن امتياز هذه الطبقة كان امتيازًا اجتماعيًا لأنهما كانوا يدفعون ضريبة الرأس بمعدلها المنخفض كسائر أفراد فئة مواطني عواصم الأقاليم ولم يكونوا يعفون تمامًا منهم.


(3) طبقة المستوطنين في إقليم الفيوم:


ونحن نملك معلومات عن وجود "طبقة" خريجي الجمنازيوم في داخل فئة مواطني العواصم في بعض أقاليم مصر، لكن ما يسترعى النظر هو عدم ورود ذكر هذه الطبقة في إقليم الفيوم بالرغم من كثرة ما وصلنا من وثائق هذا الأقاليم وتشير بعض الشواهد إلى أن الأرجح أن الطبقة التي كانت تقابلها من حيث الوضع الاجتماعي في هذا الإقليم كانت هي طبقة المستوطنين Hoi Katoikoi. ومن المعلوم أن هذه التسمية ترجع إلى العصر البطلمي لكن مدلول المصطلح اختلف اختلافًا أساسيًا في العصر الروماني. وينبغي أن نذكر أن مرجع ظهور هذه التسمية في اصطلاحات الوثائق في العصر البطلمي كان هو الرغبة في التفرقة بين أصحاب الاقطاعات الأصليين من المقدونيين واليونان الذين كانوا أقدم من منحهم البطالمة حق الانتفاع بالإقطاعات العسكرية، وبين أصحاب الإقطاعات الآخرين من دون المقدونيين واليونان، وقد كان من أسس نظام الخدمة في قوات البطالمة أن يمنح الجندي أقطاعًا عسكريًا Kleros في مقابل أن يلبي احتياجات الملك العسكرية كلما طلب منه ذلك في أي وقت. وقد حمل أصحاب الاقطاعات الآخرين من دون المقدونيين واليونان. وقد كان من أسس نظام الخدمة في وقات البطالمة أن يمنح الجندي إقطاعًا عسكريًا Kleros في مقابل أن يلبى احتياجات الملك العسكرية كلما طلب منه ذلك في أي وقت وقد حمل أصحاب مثل هذه الإقطاعات البطلمية في بداية الأمر اسم كليروخوي Klerouchoi، لكن عندما بدأ المصريون يحصلون على حق الانتفاع بمثل هذه الإقطاعات وذلك نتيجة لإشراكهم في الخدمة العسكرية في الفرق الأساسية بالجيش البطلمي خاصة بعد واقعة رفح في عام 217 ق.م أخذ اصطلاح ثان في الظهرو وهو اصطلاح كاتويكوي Katoikoi لكي يدل بالتحديد على أصحاب الاقطاعات القدامى من المقدونيين واليونان، ويفرق بين هؤلاء ومن سواهم من أصحاب الاقطاعيات الجدد، وهم الذي أصبح يطلق عليهم وحدهم الاسم القديم "كليروخوي".


وعندما احتل الرومان مصر وجدوا أراضي الاقطاعات العسكرية تؤلف قسمًا عامًا من الأراضي الزراعية. وكان من الممكن لأوغسطس أن يصادر كل هذه الأراضي ويضمها إلى قسم بعينه من الأراضي عرف باصطلاح الأراضي العامة Demosia ge ذلك أن كلا من الكانويكوي والكليروخوي قد فقدوا علة وجودهم كفئات متميزة، وبالتالي سقط أساس انتفاعهم باقطاعاتهم، لأن أساس الخدمة العسكرية البطلمي الذي كان يعتمد على استدعاء الجند للخدمة العسكرية عند الحاجة فقط قد انتهى بسقوط النظام البطلمي، وأصبح جيش الاحتلال الروماني في مصر جيشًا محترفًا تدفع الأجور لأفراده الذي يقيمون إقامة دائمة في مسعكرات أو حاميات. وبالرغم من أنه لم يعد هناك ما يسوغ تمتع الكانويكوي والكليروخوي بالانتفاع بأراضي الاقطاعيات فإن أوغسطس لم يصادر هذه الأراضي بل أبقاها في أيديهم لأن سياسة المصادرة كانت تتنافى مع سياسة أوغسطس العامة في تشجيع الملكية الشخصية من أجل زيادة عدد الملاك الزراعيين في مصر وهي سياسة كانت لها مواميها السياسية كما ذكرنا في مناسبة سابقة. والواقع أن أرباب الإقطاعات قد أفادوا من ذلك فائدة مزدوجة لأن واجب الخدمة العسكرية سقط عنهم واحتفظوا بالأراضي دون مقابل، بل أصبحوا أصحابها الشرعيين من الناحية القانونية وليس مجرد منتفعين. حقًا أنهم كانوا في محرة سابقة إبان الحكم البطلمي قد تحولوا بالفعل إلى ملاك لإقطاعاتهم من الناحية العملية، لكن ما أضيف إلى موقفهم هنا هو الناحية النظرية أي من وجهة النظر القانونية.