وقد كان من المنطقي تبعًا لذلك أن تختفي في مصر في العصر الروماني التفرقة التي كنا نلاحظها من قبل في الوثائق البطلمية بين اسطلاحي كانويكوي وكليروخوي، باعتبار أن كلاً من الفريقين أصبح في العصر الروماني مساويًا للفريق الآخر من حيث الأساس القانوني الموحد لملكية الأرض لكن التفرقة بين اللفظين بقيت في وثائق العصر الروماني. بحيث أصبح لفظ كاتريكوي يستخدم بمعنى اجتماعي محدد سوف نشير إليه بعد قليل، على حين فقد لفظ كليروخي كل معنى اصطلاحي خاص وأصبح مرادفًا لكلمة يونانية عامة هي جيوخوي Geochoi أي حائز (مالك) لقطعة أرض.

ولقد اعتبرت الإدارة الرومانية في مصر الأفراد الذين كانوا في العصر البطلمي يحملون لقب كاتويكوي. اعتبرتهم ورثة المقدونيين واليونان الأوائل الذين أسكنهم ملوك البطالمة ريف مصر وخاصة في إقليم الفيوم والذين اعتمدوا عليهم اعتمادًا كليًا في تعبئة قواتهم الحربية حتى آواخر القرن الثالث ق.م. ولذلك منحوهم وضعًا اجتماعيًا متميزًا منذ البداية غير أن الرومان لم يكونوا يستطيعون افتراض أن كل من وجدوه في مصر حاملاً هذه الصفة كان يونانيًا من حيث السلالة، إذ جاء في عصر البطالمة وقت أصبحت فيه هذه الصفة كانويكوس (أي مستوطن) صفة اصطلاحية يحملها كل من يكون بحوزته قطعة أرض من ذلك القسم من الأراضي الذي عرف في ذلك العصر باسم أراضي المستوطنيين Katoikeke Ge. وأما كان جزء من هذه الأراضي قد آل في خلال القسم الأخير من العصر البطلمي بخاصة إلى أفراد لم يكونوا في الأصل من سلالة المقدونيين أو اليونان وذلك بسبب التنازلات أو البيوع التي لم تكن قانونية وأن تغاضت السلطات البطلمية عن عدم قانونيتها، فإن السلطات الرومانية لم تكن لتضعهم في ذات المستوى الاجتماعي الذي وضعت فيه طبقة مواطني مدينة الإسكندرية فتعفهيم من ضريبة الرأس إعفاء كاملاً ولم يكن من الممكن اعتبارهم يونانًا خالصين.


ويصبح وضع الكانويكوي الاجتماعي في إقليم الفيوم في العصر الروماني في رأينا أنهم كانوا يؤلفون طبقة متمايزة عن فئة "مواطني عاصمة الإقليم" هناك تمايزًا اجتماعيًا فقط، على النحو الذي تمايزت فيه طبقة خريجي الجمنازيوم في داخل فئات مواطني العواصم في سائر الأقاليم الأخرى، بمعنى أن الكاتويكوي في إقليم الفيوم كانوا يدفعون ضريبة الرأس بمعدلها المنخفض في الفيوم وهو عشرون دراخمة، وأن التمتع بحق تولي الوظائف المحلية كان مقصورًا عليهم والذي يجعلنا نميل إلى هذا الرأي أنه لا يرد في الوثائق ذكر لطبقة خريجي الجمنازيوم في الفيوم، وإنما بر برد ذكر لطبقة تحمل اسم "الـ6475 هيليتي" وهو اسم يوحي هذا الرقم الثابت فيه بأن الأمر يتعلق بطبقة اجتماعية مغلقة ويبدو أن أوغسطس أو أحد خلفائه الأوائل قد انتقى من سكان عاصمة إقليم الفيوم هذا العدد (6475) على أساس وضعهم الاجتماعي الراهن آنذاك، على غرار ذلك الإجراء الذي اتبع في اختبار طبقات خريجي الجمنازيوم في السنة الرابعة والثلاثين من حكم أوغسطس (4/5 ميلادية) بالنسبة إلى الأقاليم الأخرى. ونحن نضيف في هذا المجال ما أثبته "بيكرمان" من أن لفظ كاتويكوس بمدلوله الاجتماعي الذي يرد به في وثائق إقليم الفيوم في العصر الروماني كان صورة مختصرة لإصطلاح كامل ترجمته العربية هي كاتويكرس من جماعة الـ6475 هيليني، بحيث نشير الصورتان المختصرة والكاملة إلى فئة واحدة بلا اختلاف.


تلك كانت أوضاع فئات اليونان المتمايزة في ريف مصر. وليس من شك في أنه وجدت إلى جانب هذه الفئات أعداد كبيرة من اليونان الذين لم يدخلوا في عداد مواطني عواصم الأقاليم، لأنهم أثروا العيش في قراهم ولم ينتقلوا إلى عاصمة الإقليم استجابة للسياسة الرومانية التي كانت تهدف في هذا المجال إلى تركيز العناصر اليونانية في تلك العواصم من أجل تقوية مركزها ولعل هذه السياسة الرومانية تتجلى فيما قام به أوغسطس من إلغاء مؤسسات الجمنازيوم التي كانت قائمة في قرى مصر في العصر البطلمي، مكتفيًا بما كان موجودًا منها في عواصم الأقاليم فقط، حيث أصبح للجمنازيوم هناك صفة رسمية وأصبح مديره ذا منزلة رفيعة على نحو ما مر بنا. وليس من شك في أن اليونان الذين كانوا يعيشون في القرى والذين لم يكن يمنع زواجهم من المصريين قانون ما من قبل السلطات أو خوف من ناحيتهم هم من أن يؤدي زواجهم هذا إلى فقدانهم امتيازًا اقتصاديًا أو اجتماعيًا بعينه، والذي توقعوا عن ممارسة أساليب الحياة اليونانية واختلطوا بالسكان الوطنيين، ليس من شك في أنهم اندمجوا مع هؤلاء الوطنيين وأصبحوا شديدي الشبه بهم.


المصريون:


أما السكان الوطنيون الذين كانوا يؤلفون الأغلبية الساحقة في ريف مصر فنحن نتصور حال ملايينهم في القرى والكفور، وقد كانوا أفقر الطبقات وأكثرها أعباء. فإلى جانب ضريبة الرأس التي كانوا يؤدونها كاملة، كانوا يخضعون لأعمال السخرة ـ وهي تعتبر في ذاتها ضريبة نوعية ـ ثم لأنواع أخرى من الضرائب شتى. وكان غالبية عامة للمصريين يشتغلون بالزراعة ويزاولون مختلف الحرف والصناعات. أما فئة أصحاب الأراضي منهم، وهم الذين كانوا في البداية على شيء من اليسر فعلهم كانوا أسوأ خطأ من غيرهم إذ سقط على كاهلهم عبء الخدمات الإلزامية كزراعة الأراضي المهجورة وأداء الضرائب المفروضة عليها والقيام ببعض المهام الإدارية التي تكلفهم بها السلطات نظرًأ لأن بعضهم كان ملمًا بشيء من لغة الإدارة التي ظلت هي اللغة اليونانية أساسًا، فضلاً عما كان لديهم من أملاك زراعية كان يمكن أن تستوفى منها السلطات استحقاقاتهم من هؤلاء الأفراد إذا ما قصروا في أداء التزامهم ولسوف نلاحظ أنه عندما كثرت أعباء هؤلاء لجأوا مع سائر الفلاحين إلى القرار من أراضيهم بعيدًا عن عيون السلطات المحلية. وعلى مر الأيام إزدادت ظاهرة هذا الفرار التي عرفت في لغة البردي بتعبير Anachorisis وكان الفارون يختبئون في أحراش الدلتا أو يتسللون إلى مدينة كبيرة كالإسكندرية حيث يتوارون في رحمة سكانها يجدون لهم فيها عملاً متواضعًا يقتاتون منه.


أما فيما يخص رجال الدين المصريين الذين كانوا في كل العصور أرفع فئات المصريين شأنًا فإن السياسة الرومانية تعمدت إضعافهم، فرأينا أوغسطس بصادر جانبًا كبيرًا من أراضي المعابد بالرغم من أن سياسته العامة نحو الأراضي كانت تسير في اتجاه يعاكس المصادرة. لكن الهدف هنا كان إضعاف نفوذ الكهنة. كذلك انتقص من عدد المعابد التي كانت تتمتع بحق حماية اللاجئين إليها، ولم يعف من أداء ضريبة الرأس إلا عددًا محدودًا من الكهنة في كل معبد، وحتى هذا العدد المحدود كان آخذًا في التناقص على مر الوقت.

منقول