مواجهة الفكر الوثني

مدرسة الإسكندرية المسيحية:


لم تكن اضطهادات السلطات الرومانية للمسيحية هي التحدي الوحيد الذي واجهته كما سبق أن أشرنا، وإنما كان هناك الفكر الوثني الذي تركز في مؤسسة "الموسيون" (دار العلم) التي لم تعد في عصر الرومان مجرد مركز للبحوث كما كانت على أيام البطالمة، بل أصبحت جامعة لتخريج الطلاب أيضًا، كما أخذت الدراسات الفلسفية تزدهر فيها. ولم يكن هناك بد من أن يتصدى الآباء المسيحيون لهذا الفكر الفلسفي الأخذ في الانتشار من خلال من تعلموا في هذه الجامعة الإسكندرية، ومن أن يستخدموا ذات الأسلوب الذي استخدمه فلاسفة الوثنية.


وبمرور الوقت بدأت تظهر مدرسة دينية سكندرية تعتبر أول مؤسسة دراسية مهمة للدراسات اللاهوتية في تاريخ المسيحية الأول، لأن أساتذتها على التوالي شغلوا أنفسهم بصياغة اللاهوت المسيحي وتحديد المفاهيم والعقيدة الأصلية. كذلك فإن عمل هذه المدرسة لم يقتصر على المسائل اللاهوتية وإنما امتد إلى عدد من الدراسات الإنسانية والرياضيات والآداب، ولعلها أرادت بذلك أن تجتذب إليها الدارسين في مواجهة منافسة مدرسة الإسكندرية الوثنية القديمة.


ويشار إلى هذه المدرسة بعدة أسماء منها المدرسة التعليمية Didascalia ومنها المدرسة الوعظية الحوارية Catechetic على أساس أنها اشتغلت بدرس وتدريس مبادئ المسيحية بأسلوب السؤال والجواب، كما اشتهرت باسم المدرسة الدفاعية Schoola Apologatica باعتبار أنها اهتمت بالدفاع عن العقيدة. وقد ذكر لنا القديس جيروم أستنادًا إلى يوسيبيوس أن القديس مرقص هو الذي أسس هذه المدرسة. غير أنه لا يمكن قبول ذلك، من ناحية لأن يوسيبيوس لا يذكر ذلك تحديدًا في الواقع، ومن ناحية أخرى لأننا نتصور أن الأمر لم يكن محتاجًا في أيام مرقص إلى إنشاء مدرسة تعلم أصول الدين المسيحي بقدر ما انصرف اهتمام مرقص إلى كسب مريدين متحمسين لهذا الدين الجديد. والأغلب أن تكون المدرسة قد نمت نموًا طبيعيًا، فكانت نواتها تلك العظات التي كان يقدمها الآباء المسيحيون للراغبين في معرفة الديانة المسيحية واعتناقها. غير أن ما يبدو واضحًا من مراجعة أقوال جيروم وغيره من المصادر أن المدرسة ترتبط باسم بنتايوس Pantaeus الذي يعتبر أول من تولى رئاستها على وجه التحديد ولعل مما ساعد على ازدهار المدرسة آنذاك (أواخر القرن الثاني الميلادي) هو شخصية الأسقف ديمتريوس الذي ازدهر في عهده كرسي الأسقفية بالإسكندرية بفضل براعته في إدارة شئون الكنيسة حيث أصبحت كنيسة الإسكندرية محكمة التنظيم تماثل في نظامها كنيسة روما ونستخدم اللغة اليونانية في طقوسها. ونشط المبشرون لتعليم التلاميذ أصول الديانة المسيحية وتولوا تقديمهم للكنيسة لتعميدهم وتنصيرهم. وقد رأس بنتايوس المدرسة على مدى عشرة أعوام (180-190 تقريبًا) وكان مالكًا لزمام الفلسفة اليونانية ميالاً إلى الفلسفة الرواقية بما فيها من نزعة صوفية. وقد أسهم من غير شك في إرساء دعائم مدرسة الإسكندرية، كما تعزى إليه فكرة تكوين الأبجدية القبطية من الحروف اليونانية ويضع حروف ديموطيقية من أجل ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة المصرية.


وخلف بنتايوس في رئاسة المدرسة تلميذه كلمنت Clement الإسكندراني الذي يعتبر المؤسس الأول للدراسات اللاهوتية المسيحية. وقد ولد لأبوين وثنيين وقدم إلى الإسكندرية بعد أن درس الفلسفة اليونانية. وتفوق فيها وتلقى العلم في الوقت نفسه على كثير من المعلمين المسيحيين ثم اعتنق المسيحية بإرشاد أستاذه بنتايوس. وقد ألف كلمنت كتبًا عديدة ضاع معظمها لكن بقى البعض منها وهو يدل على سعة معرفته بالأدب اليوناني والفلسفة اليونانية ومن هذا الذي بقى كتاب "حديث إلى الهلينيين" Protrepticos Pros Hellenas ويبين سمو الأفكار المسيحية على الديانات والفلسفات الوثنية، وكتاب "المعلم" Paidagogos وفيه شرح لتعاليم المسيح الأخلاقية ثم كتابه الكبير "المتنوعات" Stromateis الذي عارض فيه الدعوات الغنوصية المنحرفة وبين فيه أن الغنوصي الحقيقي أو الفيلسوف المسيحي هو ذلك المسيحي المستنير الذي يستطيع أن يستخلص من الفلسفة والاستدلال العقلي الدلالات الصحيحة للحياة المسيحية. وقد أسهم كلمنت بنصيب كبير في التوفيق بين الديانة المسيحية وأسمى ما في الفلسفة اليونانية من أفكار. وقد اضطر كلمنت إلى مغادرة الإسكندرية عام 202 عند بدء اضطهاد الإمبراطور سبتميوس سفيروس للمسيحية ورحل إلى فلسطين وظل بها حتى وفاته.


وظل منصب رئيس المدرسة شاغرًا عدة سنوات بسبب الاضطهاد حتى عهد به أسقف الإسكندرية ديمتريوس إلى أوريجن Origen وهو لم يزل في سن الشباب الباكر. وكن أوريجن اسكندري الأصل ولد لأبوين مسيحيين ومات أبوه في اضطهاد سفيروس المذكور، وقد أظهر نبوغًا وتعمقًا في دراسة أصول الديانة المسيحية مما جعله أشهر شخصية في تاريخ المسيحية المصرية. ولأوريجن كتب كثيرة وصل البعض بعددها إلى قرابة الألف ويهمنا أن نشير منها إلى عملين كبيرين أولهما ذلك الكتاب الذي ألفه للرد على هجوم كلسوس Celsus على المسيحية وعرف باسم Contra Celsum وفيه دفاع عن الديانة وتفنيد لكل اتهامات كلسوس كما اشتمل هذا الكتاب على أفكار أوريجن الأساسية عن المسيحية. والعمل الثاني من نوع آخر وقد قصد منه أوريجن تحقيق نص العهد القديم ويعرف باسم Hexapla (ويمكن أن يعرف في العربية باسم الكتاب ذو الأعمدة الستة) وهو عمل علمي ضخم يعتب رمعلمًا بارزًا في مجال تحرير نص موثوق به للكتاب المقدس، إذ جمع فيه أوريجن الترجمات السابقة للعهد القديم في أعمدة متوازية كان العمود السادس يحتوي على الترجمة اليونانية بعد أن راجعها أوريجن وأجرى فيها التصحيحات اللازمة حتى تتفق مع النص العبري.


وقد نال أوريجن تقديرًا عظيمًا في العالم السيحي، لكن الخلاف دب بينه وبين الأسقف ديمتريوس مما أدى إلى رحيل أوريجن عن الإسكندرية في عام 231 حيث أقام في قيساوية بفلسطين وهناك التف حوله عدد كبير من التلاميذ وأستأنف هو الكتابة والتأليف وأتم تصنيف عدد كبير من الكتب منها الهكسابلا الذي سبق ذكره. وفي عام 255 توفي أوريجن في مدينة صور متأثرًا بما أصابه من تعذيب إبان اضطهاد الإمبراطور ديقيوس Decius المعروف.


وقد احتدم الجدل حول أفكار أوريجن بعد وفاته حتى القرن السادس. ورفضت المجامع المسكونية الدينية الكثير منها. وبالرغم من ذلك فقد ظلت صياغته للمشكلات اللاهوتية ذات أهمية كبرى، وليس من شك في أن ما يعزى إلى مدرسة الإسكندرية من أثر في نمو الفقه المسيحي وتوطيد دعائم الكتاب المقدس وتقويم نص العهد الجديد (الأناجيل) وتحريره واستخلاصه، إنما يرجع الفضل فيه بصفة أساسية إلى جهود أوريجن.


وخلف أوريجن في رئاسة المدرسة أحد تلاميذه هيراكلاس Heraclas، وكان بدوره مثقفًا ثقافة يونانية رفيعة، لكن رئاسته لم تدمر طويلاً، ليحل محله ديونسيوس الذي كان بدوره تلميذًا من تلاميذ أوريجن. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن رؤساء مدرسة الإسكندرية الأوائل منذ بنتايوس حتى ذلك الوقت لم يكونوا من طراز الآباء الأرثوذكس المتشددين وإنما كانوا يحاولن التوفيق بين أسمى ما في الفلسفة اليونانية من أفكار وبين المسيحية.

منقول