لاتزال معلوماتنا قاصرة عن معرفة تاريخ دخول المسيحيًة إلى مصر وبداية انتشارها والخطوات التي قطعتها الديانة الجديدة حتى أصبح لها عند نهاية القرن الثاني وجود قوى ليس في الإسكندرية فحسب بل في مصر الوسطى والصعيد . وهناك تلك الرواية المأثولة المتواترة الواردة عند يوسيبيوس Eusebius مؤرخ الكنيسة المشهورة الذي كتب في القرن الرابع الميلادي، ومؤداها أن القديس مرقص Marcus أحد تلامذة السيد المسيح المقربين إليه وصاحب الإنجيل المعروف باسمه، قدم من مدينة القيروان بإفريقيا إلى الإسكندرية في منتصف القرن الأول تقريبًا مبشرًا بالدين الجديد، وأسس كنيسة الإسكندرية، وظل مداومًا على نشاطه الدائب في التبشير حتى وفاته شهيدًا في عام 68م أثناء اضطهاد الإمبراطور نيرون المسيحية. وتحوم حول هذه الرواية ظلال من الشك جاءت من أن هذا الحدث أن يعتبر مهمًا بل خطيرًا في تاريخ المسيحية الباكر لم يرد في مصدرين سابقين على يوسيبيوس وهما كليمنت الإسكندري Clement وأوريجن Origen، وكلاهما من دعاة المسيحية الأوائل ورأسًا على التوالي مدرسة الإسكندرية المسيحية في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث وكان أحرى بهما أن يتحدثًأ عن هذا الأمر باستفاضة.

لكن هذا الشك لا يكفي دليلاً على عدم صدق الخبر الوارد عند يوسيبيوس وهناك من الباحثين من حاول أن يفسر فقرة ما في وردت في الخطاب الموجه من الإمبراطور الروماني كلوديوس إلى شعب مدينة الإسكندرية، وهي وثيقة ترجع إلى سنة 41 ميلادية وسبق أن أشرنا إليها في أكثر من مناسبة. وقد فسر هؤلاء هذه الفقرة على أن فيها إشارة إلى بداية دخول المسيحية إلى مصر منذ ذلك التاريخ. وإذا كان تفسير هؤلاء الباحثين لا يبدو مقنعًا، فإن خطاب كلوديوس المذكور يؤكد حقيقة يمكن أن نستدل منها استدلالاً عقليًا على دخول المسيحية إلى مصر في وقت مبكر بعد ظهورها بأرض فلسطين. فالخطاب تشير إلى كثرة اليهود الذين كانوا يفدون إلى الإسكندرية من سوريا، ونعلم في الوقت نفسه أنه كان بهذه المدينة جالية يهودية كبيرة ولابد أن بعضًا من أفرادها كانوا يترددون على فلسطين وأنهم تعرفوا هناك على الدين الجديد، وأن نفرًا منهم آمنوا به، وعادوا إلى مصر يحملون أفكاره وتعاليمه. وهكذا فليس من المتصور بحكم القرب المكاني وتوافر أسباب الاتصال أن يكون وصول الديانة الجديدة قد تأخر وقتًا طويلاً.


والواقع أننا نستطيع أن نتصور سرعة انتشار المسيحية في مصر، وأن نجد لهذه السرعة تعليلاً فيما كان الفكر الديني المصري القديم قد وصل إليه من ت طور في وقت ظهورها. ذلك أن هناك بعض المبادئ التي تحمل بعض أوجه الشبه بين الأفكار الدينية المصرية السائدة آنذاك وبين الديانة الجديدة، بحيث لم يجد المصري كبير عناء في استيعاب معانيها بل رموزها. ففكرة وحدانية الإله لم تكن غريبة على مصر، ويكفي أن نذكر هنا أشهر ما هو معروف عن تعبيراتها في تاريخ الديانة المصرية القديمة وهي حركة اخناتون الدينية في النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وفكرة "التثليث" التي قالت بها المسيحية كانت شائعة في ديانة المصريين القدماء، وإن كان هذا قياسًا مع الفارق في الجوهر طبعًا، وأشهر ثالوث كان لدى المصريين هو ثالوث إيزيس وأزوريس وحورس، وقد كانت تتمثل في الأب في هذا الثالوث وهو أوزوريس طبيعة الإله وطبيعة الإنسان في الوقت نفسه. هذا إلى أن أفكار البعث والحياة الآخروية ومبدأ الثواب والعقاب في المسيحية، كانت أفكارًا أصيلة في الديانة المصرية القديمة، وهي تتجلى بوضوح تام في عمارتهم الدينية الشامخة وفي سائر تعبيرات آدابهم وفنونهم، بل إن شكل الصليب الذي اتخذته المسيحية رمزًا لحياة الروح الأبدية الخالدة كان قريب الشبه من علامة الحياة "عنخ" التي تبدو وكأنها صليب معقود الرأس. ولذلك فإن من المتصور أنه عندما بدأ التبشير بالديانة المسيحية في مصر، لم يجد المصريون أفكارًا شديدة الغرابة تصدمهم، بل الأولى أن يكونوا قد وجدوا فيها إعلاء لأفكار ألغوها من قبل واعتادوا عليها.


ومن ناحية أخرى فإن علينا أن نتصور أن مناخًا فكريًا يتولد عن تجاور عقائد وأفكار دينية شتى مصرية ويونانية رومانية وأسيوية شرقية، كان لابد أن يوجد بالضرورة شيئًا من البلبلة. فهذه العقائد، وإن بدا أنها تعايشت بتعايش أصحابها جنبًا إلى جنب من أجل المصالح، فإنها كانت في الواقع يضعف بعضها بعضًا، وتنتهي بالشخص من حيرته وارتباكه إلى اعتقاد بأنها جميعًا مجرد هراء وانتحالات زائفة. ولعل ما ظهر في تلك الفترة من ابتكار ال"الغنوصية" Gnosticism (مذهب الأدرية) لكل الأديان القائمة والاعتقاد في فكرة إلهية عليا كان رد فعل لهذه البلبلة الفكرة. وكان ذلك مما يمهد السبيل لقبول ديانة جديدة.


غير أننا نقدر أن الثورة المدمرة التي أشعلها اليهود في الإسكندرية وجهات عديدة من مصر في عهد الإمبراطور تراجان قد قضت على أعداد كبيرة من المسيحيين. ذلك أن عددًا كبيرًا من سكان الإسكندرية هلكوا وسط الدمار العام الذي لحق بالمدينة. وينبغي أن ندرك أن اليهود كانوا ينظرون إلى معتنقي المسيحية بعين الكراهية، وأن العناصر اليونانية والسلطات الرومانية من ناحية أخرى لم يكونوا يستطيعون التمييز بين اليهود والمسيحيين، وبذلك نتصور مدى العنت الذي لقبه معتنقو الديانة الجديدة من كل هذه الأطراف. لكن الدلائل تشير إلى أن المسيحية ظلت قوية في الإسكندرية، وكان لابد لها من أن تنتشر منها إلى سائر أرجاء مصر فالإسكندرية كانت مقرًا للحكم والإدارة المركزية يفد إليها الكثير من أقاليم مصر للتقاضي أو لإنهاء أعمال رسمية، فضلاً عن اجتذاب المدينة الزاخرة بالحركة والنشاط لسكان مصر لأغراض التجارة والمتعة وبالرغم من أن الدين الجديد لم يترك لنا أي أثر في وثائق القرن الأول الميلادي، وأن وثائق القرن الثاني لا تمدنا إلا بمعلومات طفيفة عن مدى تأثيره، فإن ما عثر عليه في مصر الوسطى والعليا من برديات تضم شذرات من الأناجيل يكفي أن نستنبط منه أن المسيحية تغلغلت في تلك الأنحاء منذ بداية القرن الثاني. وقد يلاحظ قلة عدد هذه البرديات، لكن ينبغي أن ندخل في حسابنا أن ما يلي وتلف من البردي بصفة عامة هو أضعاف أضعاف ما وصل إلينا كذلك يمكن أن نغزو قلة الإشارات إلى المسيحية في الوثائق البردية إلى أن طبيعة الوثائق من عقود قانونية وإقرارات مقدمة إلى السلطات لم تكن تقتضي بالضرورة إشارات إلى الدين الجديد، أما الخطابات الشخصية التي غالبًا ما كانت تصاغ في عبارات تقليدية نمطية شبه ثابتة، فإن خلوها من هذه الإشارات قد يكون راجعًا إلى حرص كاتبيها على إخفاء أمرهم خشية الاضطهاد الذي كان قائمًا وإن لم يكن بصورة مستمرة.