وبالرغم من أننا لا نشك في أن كثيرًا من يونان مصر خاصة في المدن اليونانية الأربع (الإسكندرية ونقراطيس وبطوليموس ثم أنطينوبولس فيما بعد) قد احتفظوا في العصر الروماني بعبادة آلهتهم اليونانية القديمة، فإننا نستطيع أن نتصور أن مدينة كالإسكندرية لابد كانت مركزًا من أهم مراكز التقاء الديانات اليونانية والشرقية، وحيث كان لابد لهذه الديانات من أن يؤثر بعضها في الآخر ذلك أن الفترة التي أعقبت نشر ألوية "السلم الروماني" Pax Romana وتزايد الاتصال من خلال النشاط التجاري وغيره بين أجزاء العالم القديم، وفي ظل سياسة التسامح الديني التي انتهجها الرومان مع شتى الشعوب المتباينة التي شملتها إمبراطوريتهم، كان لابد أن تمتزج الديانات القديمة بصورة أكبر من وقت سابق، وان للعبادات المصرية في هذا المعترك العقدي قدر واضح من الغلبة على سائر العبادات الأخرى.

عيادة الأباطرة في مصر:


وفي مجال الديانة اليونانية استغل أباطرة الرومان مبدأ تألية الملوك وربطهم ببعض الآلهة اليونانية على نحو ما فعل البطالمة وغيرهم من ملوك العصر الهلنستي من قبل، بحيث يمكن أن نقول إن عبادة الإمبراطور بالنسبة إلى يونان مصر حلت محل عبادة الملك البطلمي مع بعض الفوارق.

ونحن نعلم أن أساس عبادة الملوك في العصر الهلنسي كانت قد قامت على أساس ما انتهى إليه التفكير الفلسفي من أن بعض الآلهة كانوا فيما مضى بشرًا ثم أدخلوا في عداد الآلهة بفضل ما أظهروه من قدرات وملكات خاصة من خلال قيامهم بأعمال فذة خارقة أو إصلاحات جليلة.
وبناءً على هذا التفكير لم يكن من المبالغة اعتبار أن شخص الإمبراطور أوغسطس أو واحد من خلفائه من أمثال تراجان أو هادريان أو سبتيميوس سفيروس ممن نشروا أّلوية السلام أو أحرزوا انتصارات باهرة، يرتفع إلى مصاف الآلهة. وليس من شك في أن الأباطرة كانت تروق لهم ضروب التكريم الفائقة التي كانت تخلع عليهم. ومن ناحية أخرى فقد كانت إقامة عبادة عامة لهم في الإمبراطورية وسيلة لشد أجزاء هذه الإمبراطورية بعضها إلى بعض. غير أنه ينبغي الالتفات هنا إلى أمرين:

أولهما: أن عبادة الإمبراطور لم تكن أعلى أساس أنه إله Deus بل على أنه مؤلة Divius أي على أن شخصه مقدس. وتحت هذه الصفة الأخيرة كان يجري ذكرى أرفع الأباطرة شأنًا في أيعن رعاياه وهو أوغسطس. والأمر الثاني أن تأليه الأباطرة كان يتم بعد وفاتهم وليس في خلال حياتهم. وعندئذ كانت تقام لهم التماثيل في بعض معابد الآلهة الكبرى ويخصص لعبادتهم في الأغلب كاهن في مدينة الإسكندرية.


وإذا كان الرومان قد فرقوا في اللفظ والمعنى بين كلمة Deus (إله) Divius مؤلة فإن رعايا الإمبراطور اليوناني في مصر لم يدركوا هذا الفرق فكانوا يطلقون على الإمبراطور اللفظ اليوناني Theos ومعناه إله. وفي الوثائق الرسمية التي كانت صيغتها تنتهي بحلف اليمين على صحة الوثيقة مثلاً كان صاحب اليمين يقسم باسم الإمبراطور الإله. إلخ أو باسم طالعه السعيد Tyche (في اللاتينية الملاك الحواس لروحة Genius(). غير أنه بالرغم من أن عبادة الإمبراطور كانت عبادة رسمية في مصر فإنه لم تقم على تنظيمها الحكومة المركزية كما كان الحال في أيام البطالمة وإنما قام على ذلك الموظفون في المدن اليونانية أو موظفو الإدارة البلدية في الأقاليم. كذلك فإنه إذا كان الأباطرة قد قدموا أنفسهم من خلال هذه العبادات إلى اليونان في مصر فإنهم لم يفرضوها على المصريين أو على اليهود، وإن كان اليونان في الإسكندرية قد وجدوا أكثر من فرصة ليكيدوا فيها لليهود عن طريق إثارة غضب بعض أباطرة الرومان عليهم باتهامهم بأنهم لا يعبدون الإمبراطور وبهذا لا يقدمون له فروض الاحترام الكافية.


الرومان والديانة اليهودية:


أما سياسة الرومان الدينية إزاء اليهود فكانت تتمشى مع سياستهم العامة نحو هذه الجالية الكبيرة في مصر، وأعلى سياسة الرعاية والعطف. فقد أطلق الرومان لهم الحرية الدينية الكاملة واستمرت بيعتهم الكبرى (معبدهم) بالإسكندرية قائمة بل زاد اتساعها زيادة كبيرة كما سبق أن ذكرنا وقد كانت "البيعة" عند اليهود هي المركز الذي يجتمعون فيه وحوله حيث يقيمون شعائر صلواتهم ويتدارسون التوراة. ولم تطلب السلطات الرومانية منهم أن يشاركوا في العبادة الرسمية للدولة (عبادة الإمبراطور) أو أن يؤدوا أي التزام إزاء العبادات المحلية في مدينة الإسكندرية.


وقد نستطيع أن نتخذ مثالاً على حرص الأباطارة على حرية العبادة اليهودية ما أقره الإمبراطور كلوديوس في رسالته الشهيرة إلى الإسكندرية (41م) من حق اليهود في الحرية الدينية الكاملة. وقد جاء هذا الضمان بعد فتنة عام 38م التي وقعت بين الإسكندريين واليهود والتي اقتحم اليونان فيها أماكن العبادة اليهودية وأكرهوا اليهود على أن يضعوا فيها تماثيل الإمبراطور كاليجولا. هذا وينبغي أن نذكر أن الإجراء الذي قام به بعد ذلك الإمبراطور فسبسيان ضد اليهود في عام 73م بإغلاقه معبدهم في ليونتوبوليس Leontopolis (تل اليهودية) بالدلتا، لم يكن صادرًا عن اضطهاد ديني وإنما كان إجراء سياسيًا أو اقتصاديًا في تحليل بعض الباحثين. وتفصيل ذلك أنه في عام 70م تمكن تيتوس ابن الإمبراطور فسبسيان من قمع ثورة اليهود التي كانت قد نشبت في بيت المقدس (أورشليم) في عام 66م ودمر الهيكل. وقد أراد فسبسيانوس من إغلاق معبد اليهود الكبير في ليونتوبوليس بمصر أن يمنع انتقال نفوذ هيكل أورشليم بعد تدميره إلى ذلك المعبد في مصر، ولم يؤثر على فسبسيان من بعد أي اضطهاد ديني لليهود لأن سياسة ترك الحرية الدينية لهم أصبحت تقليدًا سار عليه كل الأباطرة. غير أن الشدة التي أخذ بها فسبسيان اليهود قد أضافت إلى شعورهم القديم بالمذلة بدفعهم ضريبة الرأس شعورًا جديدًا بالقهر أمام القوة الباطشة، حتى بدأت تنمو عند بعض فرقهم فكرة "الخلاص" على يد مسيح بعون من إلههم يهوه.


وأما من حيث الحياة الدينية لطائفة اليهود في مصر فالملاحظ أنهم استمروا يمارسون شعائر دينهم بمنأى عن التأثيرات العقدية منعزلين في بيعهم (معابدهم) الكثيرة التي وجدت في عدد من مدن مضر الكبيرة إلى جانب بيعتهم الكبرى ليونتوبوليس (تل اليهودية) في جنوب الدلتا. وكان التطور الوحيد الذي طرأ على الديانة اليهودية التقليدية ما حدثنا به فيلسوفهم الإسكندري فيلون عن الجماعة صومعة صغيرة يتعبد فيها وحيدًا ستة أيام في الأسبوع ثم يلتقي الجميع للصلاة في يوم السبت من كل أسبوع، ثم يومًا واحدًا كل خمسين يومًا. وقد حاول بعض الباحثين أن يرى في ذلك تأثرًا بنحلة شرقية هندية، لكن ما هو معلوم من تعصب اليهود لعقيدتهم وبعدهم بالتالي عن أسباب التأثير بالعقائد الأخرى يجعل البعض يرجع أن يكون عامل التأثير هنا محليًا من واقع البيئة المصرية حيث الصحراء بما فيها من قوة جذب خاصة لأولئك الذين تتملكهم الرغبة في التأمل والتعمق في شئون الدين.

منقول