رأينا أن سكان مصر في عصر الرومان كانوا يؤلفون خليطًا من الجنسيات والعناصر حيث كانت هناك الأغلبية الساحقة من المصرين الوطنيين، والأقلية الكبيرة الممتازة من اليونان سواء في المدن اليونانية أو في أقاليم مصر، ثم جاليات كبيرة أو صغيرة من اليهود أو من السوريين والليبيين وغيرهم، فضلاً عن العنصر الذي استجد مع الاحتلال الروماني وهم الرومان أنفسهم .
ونتيجة لذلك كان لابد من أن تضم مصر في ذلك العصر خليطًا من عقائد وديانات شتى، ما بين مصرية وأسيوية ويونانية وهكذا كان شأنها في الواقع في العصر البطلمي. وقد أضف إلى هذا وذاك جميعًا عنصر جديد بالغ الأثر والأهمية في الحياة الدينية والثقافية في مصر في العصر الروماني وهو الديانة المسيحية التي يرجح أن انتشارها في مصر يرجع إلى وقت مبكر من القرن الأول الميلادي وذلك بالرغم من أن قلة الإشارات إلى المسيحية في وثائق ذلك القرن المذكور بل وفي وثائق القرن الذي تلاه (الثاني الميلادي) لا تعيننا على معرفة كيفية انتشار الدين الجديد في أرض مصر.

ومع هذا الخليط من الديانات والعقائد في مصر في عصر الرومان، يكون علينا أن ننظر في سياسة الرومان إزاء كل منها لكن لا بأس من أن نقرر منذ البداية أن الإطار العام للسياسة الدينية الرومانية سواء في مصر أو في خارجها كان هو مبدأ التسامح الديني مع كل الأديان بل إنه حتى مع الديانة المسيحية التي صارت في وقت من الأوقات عاملاً قويًا بالغ التأثير في حياة شعوب الإمبراطورية، فإن الأباطرة الرومان الذين اشتهر عنهم القول باضطهاد الدين الحديد كانت سياستهم في ذلك نابعة من خوفهم على إمبراطورية روما من أن تتفكك بفعل الحركة المسيحية ولم يكن صادرًا عن اضطهاد للعقيدة ذاتها.

موقف الرومان من رجال الدين المصريين :


ونبدأ بالنظر إلى سياسة الرومان إزاء الديانة المصرية، وهنا ينبغي أن نفرق بين سياسة الرومان المتسامحة إزاء حرية ممارسة المصريين لعقائدهم، ويبين مسياستهم المتشددة إزاء رجال الدين المصريين. ذلك أن الرومان عقب استيلائهم على مصر وجدوا للكهنة المصريين شركة قوية. ولعل من المعلوم أن سياسة البطالمة الأوائل كانت ترمي إلى تشديد قبضتهم على أولئك الكهنة من أجل تقليم أظافرهم وكسر شوكتهم.

لكن البطالمة الأواخر اضطروا إلى إتباع سياسة لينة معهم، فأعادوا إليهم أكثر امتيازاتهم عن طريق إعفاءات متتالية من الضرائب المفروضة أو منح امتيازات الإنتاج في أراضي المعابد، وحق إيواء هذه المعابد للمستجبرين بها. ولم يكن أوغسطس بالطبع يستطيع أن يقر للكهنة المصريين بهذا الوضع القوي الذي عادوا إليه خاصة مع ما كان معلومًا من أن كثيرًا منهم ـ لاسيما في جنوب الوادي ـ كانوا قادة الثورات القومية في عهود البطالمة الأواخر. لذلك انتهج معهم سياسة حازمة كسياسة البطالمة الأوائل، فصادر مساحات كبيرة من أراضي المعابد على نحو ما مر بنا من قبل. وقد وضع أوغسطس تلك الأراضي المصادرة تحت إشراف موظفي الدولة الذين أصبحوا يتولون تأجيرها بدلاً من المعابد، ولم يسمح للكهنة إلا بزراعة الجزء الذي يكفي لسد حاجة المعابد وقد كانت السياسة الرومانية ترمي بذلك إلى أن يعتمد الكهنة ليس على دخل خاص بهم بل على إعانات تقررها الحكومة بمشيئتها هي لتضمن خضوعهم لها.

غير أنه ربما كان الأهم من ذلك أن الرومان أخضعوا كل ما يتصل بالديانة في مصر ـ بما فيها الدينة المصرية ـ لسلطة مركزية واحدة ومن المرجح أن هذه السلطة كانت في بداية الأمر في يد الوالي الروماني، لكننا نعلم أنها أسندت بعد ذلك إلى ذلك الموظف الروماني الكبير المعروف بلقب الأديوس لوجوس" والذي كان يعرف بحكم اختصاصاته وصلاحياته في هذا المجال باسم "الكاهن الأعلى للإسكندرية وعموم مصر" ومن المفهوم أن هذا الموظف لم يكن يمت بصلة إلى صفة الكاهن الدينية لأنه كان موظيفًا مدنيًا يزاول سلطة الإشراف على كل شئون العبادة، وهو إشراف توضح لنا الوثائق أنه كان بالغ الدقة. وقد كان كل معبد من المعابد المصرية مكلفًا بأن يرسل إلى مدير الإقليم كل عام قائمة بأسماء كهنته وممتلكاته وحساباته ليتمنى الإشراف عليها.


والواقع أن وثيقة لائحة ديون الإديوس لوجوس P. Gnom. التي كانت تحكم عمل هذا الموظف الروماني الكبير تبين مدى حرص الإدارة الرومانية على التحكم في كل أمر يتصل بالمعابد المصرية وكهنتها. فثمة تعليمات خاصة بترتيب المناصب الكهنوتية وأسلوب قيام الكهنة بأعمالهم، بل تطرقت أيضًا إلى نوع الملابس التي يرتدونها دون سواها وقد حظرت عليهم الاشتراك في أية أعمال لا تتصل بخدمتهم الدينية. وكانت مخالفة هذه التعليمات ترعضهم للعقاب الشديد، إذ كان الأديوس لوجوس يرسل مفتشيه إلى المعابد لتفقد أحوالها. وكثيرًا ما كان المخالفون يرسلون مقبوضًا عليهم إلى الإسكندرية.


كذلك نعلم أن مدير الإقليم (الاستراتيجوس) كان يتلقى من كتاب القرى الواقعة في إقليمه تقارير عن إيرادات المعابد ومصروفاتها وما كانت تحتويه من أثاث وتجهيزات. كذلك كان لابد من الحصول على موافقة هذا المدير على ختان الصبي المراد له أن يلتحق بسلك الكهنة، وكان لابد قبل ذلك من التأكيد من أنه سليم الجسم خالٍ من العيوب الخلفية، وأنه ينحدر من أصل كهنوتي وأنه ليس لقيطًا أو ابنًا بالتبني، حيث حظرت المادة 92 من لائحة الإديوس لوجوس أن يصبح هؤلاء كهنة.


وهكذا جرد الكهنة المصريون من كل امتيازاتهم، بل أنهم لم يسلموا من القيام بالأعمال الإلزامية والسخرة. وربما كان الامتياز الوحيد الذي تمتعوا به في العصر الروماني هو إعفاء عدد محدود منهم سنويًا من ضريبة الرأس. وقد حققت هذه السياسة الرومانية إزاء الكهنة أهدافها، فلم نسمع في خلال القرنين الأولين من حكم الرومان عن ثورات تزعمها الكهنة، اللهم إلا دورهم الذي نقدر أنهم لابد قد قاموا به في ثورة إقليم طيبة التي نشبت عقب الفتح الروماني مباشرة والتي سارع بإخمادها أول ولاة مصر كورنيليوس جالوس كما نعلم غير أنه مما يشير إلى أن الكهنة المصريين ظلوا يشكلون عند عامة الشعب الزعامة الروحية والقيادة الوطنية معًا أن إيزيدور الذي تزعم ثورة الفلاحين في الدلتا في عهد الإمبراطور ماركوس وأوريليوس (ثورة الرعاة) كان كاهنًا مصريًا، وأن نصوص أدب المقاومة الوطنية وأشهرها نبوئة، صانع الفخار، قد صيغت في إطار نبوئي كهنوتي من صنع أولئك الكهنة غالبًا.


الرومان والديانة المصرية:


بالنسبة للديانة المصرية ذاتها فإن الرومان احترموا كما قلنا حرية المصريين العقائدية، بل أنهم قاموا برعاية هذه الديانة عن طريق بناء معابد جديدة لها أو إصلاح المعابد القديمة وإدخال التحسينات عليها. وقد تابع الرومان سياسة البطالمة في استغلال استمساك المصريين بعقائدهم الراسخة في أن الملك يحكم من خلال الحق الإلهي باعتباره إلهًا وبشرًا في آنٍ معًا، وذلك بأن نصبوا أنفسهم ـ كالبطالمة ـ فراعنة، وهو ما كان يضفي على الإمبراطور الروماني صفة الشرعية لدى المصريين وإن كان يعيش بعيدًا عنهم تمامًا في روما ويحكمهم من خلال واليه الممثل له شخصيًا. وقد اتخذ أباطرة الرومان من ثم صفات الفراعنة. وتبدو لنا صورهم على جدران المعابد المصرية أو على النصب الرسمية في هيئة الفراعنة وفي أزيائهم التقليدية. ولعل مما يبين لنا حرص الحكومة الرومانية في مصر على التقاليد الفرعونية فيها ما سبق أن ذكرناه من أن والي مصر ـ وهو الذي كان يمثل الإمبراطور شخصيًا ـ كان يتشبه بالفراعنة في حرصه على تقاليد مصرية عتيقة ومنها ألا يركب النيل في وقت الفيضان وأن يقدم الهدايا والقرابين لإله النيل عند بلوغ الفيضان منسوبًا معينًا.


غير أن الأمور لم يلبث أن تعدي هذه المظاهر التي كانت الغاية منها سياسية في المقام الأول، بحيث لاحظنا تحولاً في نظرة الأباطرة الرومان إلى آلهة الديانة المصرية. ففي البداية كانت نظرة الأباطرة إلى هذه الآلهة نظرة امتهان وازدراء بالرغم من أن عبادة إيزيس كانت قد انتقلت إلى روما إبان القرن الثاني ق.م. وربما قبل ذلك حيث كثر اتباعها بالرغم من مقاومة السلطات الرومانية لها في كثير من الحالات، بل لقد اعترف بعبادة إيزيس في وقت ما عبادة رسمية في روما وذلك في عام 43 ق.م. غير أن ظروف الصدام التي نعرفها بين أوكتافيانوس من ناحية وماركوس أنطونيوس وكليوباترة من ناحية أخرى قد قوت من رد الفعل العدائي الذي كان لدى الرومان إزاء الآلهة المصرية لاسيما إيزيس التي كانت كليوباترة تكثر من تصوير نفسها على صورتها وقد تجلى رد الفعل هذا في قصائد الهجاء التي كثرت بعد انتصار أوكتافيانوس على غريميه والتي هجت " الملكة المصرية، بأبشع الصفات، ونددت معها بالآلهة المصرية تنديدًا شديدًا.


والأغلب أن ازدراء الآلهة المصرية الذي بلغ ذروته في أيام أوغسطس قد استمر في عهد خليفته الإمبراطور تيبيريوس الذي تميزت سياسته بالمحافظة والتشدد لكن الأباطرة: منذ أيام كاليجولا لم يلبثوا أن تحولوا إلى محاولة التعرف على أسرار الديانة المصرية، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الأباطرة أقاموا لبعض الآلهة المصرية التماثيل والمعابد في روما نفسها وقد حدث هذا أكثر من أي وقت في عهد أباطرة أسرة فلافيوس الثلاثة 69-96م) وهم على التوالي فسبسيانوس وتيتوس ودوميتيان فالأول كان شديد الإعجاب بايزيس، ولاثاني زار مدينة منف واشترك في حفل تكريس العجل أبيس الجديد وليس في هذا الحقل التاج التقليدي وفقًا للسنة الفرعونية في تلك المناسبة، والثالث رعي ديانة إيزيس رعاية خاص حتى لقد اعتبر عهده الأيام الذهبية لتلك العبادة في روما.


ولابد من أن نتصور أن ازدهار عبادة إيزيس قد أقترن به ازدهار عبادة الثالوث المقدس الذي كان يتألف منها هي ـ باعتبارها الأم في الثالث ـ ومن سيرابيس الأب ومن هاربوكراتيس (حورس) الابن والواقع أن عبادة هذا الثالوث التي بدأت وازدهرت منذ أوائل عهود البطالمة ظلت محتفظة بمكان الصدارة في العبادات في مصر في العصر الروماني. ومن خلال ما نلاحظه من بعض مظاهر هذه العبادة في مصر في تلك الفترة، وهي عبادة.

تعلم أنها قدمت في الأصل إلى المصريين في صورة مصرية وإلى اليونان في صورة يونانية، نستطيع أن نرصد ظاهرة بعينها، وهي أن اليونان في مصر أصبحوا أكثر ألفة بالآلهة المصرية نتيجة لطول إقامتهم في مصر ومخالطتهم المصريين، كما أن الديانة المصرية كانت نستهويهم بأسرارها الغامضة وفيما يختص بعبادة سيرابيس في هذا المجال نلاحظ أن القرابين التي كانت تقدم إليه من المصريين واليونان في فترة الحكم الروماني كانت تقدم إليه أكثر وهو في صورة العجل أبيس التي عهدها فيه المصريون. وليس أدل على ذلك من ذلك التمثال العجل أبيس الذي أهداه الإمبراطور الروماني هادريان عند زيارته لمصر إلى معبد السيرابيوم بالإسكندرية (وهو محفوظ بالمتحف اليوناني ـ الروماني بالإسكندرية).