رأس السلطة المركزية
على أثر انتصار أوكتافيانوس وانتحار كليوبترة آخر سلالة البطالمة أصبح القائد الروماني الظافر هو ملك مصر الشرعي أو "فرعونها، الذي لا تستقيم حياة شعبيها الدينية أو السياسية إلا بوجوده على رأسها .
هكذا كانت الموروثات والتقاليد المأثورة تقضي، وعلى هذا النحو صور ملوك البطالمة الأجانب أنفسهم على المعابد المصرية في زي الفراعنة وحملوا ألقابهم التقليدية وسجلوها على الآثار. وبالمثل صار أوكتاڤيانوس هو الفرعون وبالمثال سيصير تصويره على الآثار. وقد كان لزامًا عليه قبل أن يغادر مصر أن يعين لها من ينوب عنه في حكمها فيكون هو من الناحية العملية رئيسًا للسلطة المركزية فيها.

وقد مر بنا أن أوكتاڤيانوس اختار هذا الحاكم العام من طبقة الفرسان الرومانية Ordo Equester، وكانت تلك جماعة من رجال المال والأعمال بدأت في الظهور في روما منذ أواخر القرن الثالث. ق.م.، وأصبحت بمرور الزمن تؤلف طبقة اجتماعية في روما لا يقل النصاب المالي الذي يملكه من ينتمي إليها عن أربعمائة ألف سترتيوس روماني (4.000 جنيه تقريبًا) كما أصبح لها "سلك وظائف" خاص يترقى أفرادها فيه ويبدأ بمنصب قائد شرطة روما، يليه منصب مدير التموين فيها ثم منصب قائد الحرس البريطوري أما سبب اختيار أوغسطس لحاكم مصر من هذه الطبقة وليس من طبقة رجال السناتو كما فعل في بقية الولايات الإمبراطورية فراجع إلى أمرين أولهما عدم ثقته في أعضاء هذه الطبقة الأخيرة من حيث الولاء له أو الكفاءة في الإدارة. لقد خشى أن يدفع الطموح واحدًا من أعضائها حيث يسند إليه حكمها أن يستقل بها معتمدًا على مواردها وصعوبة غزوها، أو قد لا يجيد في أقل القليل إدارتها بما يحقق سياسة الإمبراطور. أما الأمر الثاني فهو أن "الفرسان" كانوا أهل خبرة عملية بشئون المالي والتجارة، وكان يفترض فيمن يختار منهم لمنصب والي مصر أنه مارس من قبل إدارة التموين في العاصمة وروما، وبالتالي فإنهم كانوا أقدر فئات الرومان على القيام على إدارة مصر وهي البلد الذي كان منذ أيام البطالمة (بل من قبلهم منذ أيام الفراعنة) قد ألف النظام البيروقراطي الذي يقوم فيه على تنفيذ القوانين (التي هي مراسيم صادرة من الملك) موظفون يخضعون لهذه الملك المؤلة خضوعًا تامًا وليس موظفين منتخبين مسئولين أمام الشعب كما كان الحال في نظم الرومان، الدستورية الجمهورية.


لقب الوالي وسلطاته:


وكان اللقب الذي أطلق على والي مصر لقبًا من ألقاب هيئة الفرسان وهو Praefctus ولم يحمل لقب مندوب الإمبراطور Legatus Augusti كما كان حال من تولى حكم ولاية من الولايات الإمبراطورية أو لقب "قائم مقام القنصل" pro – consul أو "قائم مقام البريطور" Pro – praetor كما كان الشأن في الولايات المسناتورية. ويبدو اللقب الذي حمله والي مصر لقبًا متواضعًا في حد ذاته لأنه كان يعني "رقيبًا" أو "وكيلاً" أما اللقب الرسمي الكامل الذي كان الوالي يذكر به في الوثائق الرسمية واللاتينية فهو "والي الإسكندرية ومصر Praefectus Alexandriae et Aegypti لأن الرومان لم يعتبروا الإسكندرية جزءًا من مصر وإنما قريبًا منها أو "متاخمة لها" Alexandria ad Aegyptum ، تمامًا كما اعتبرها البطالمة من قبل، ويمثل هذا اللقب كان يذكر الوالي في الوثائق اليونانية.


وكان الأمر يقتضي أن يمنح والي مصر سلطة الإمبريوم التي تخوله حق ممارسة كل السلطات في مصر بما فيها قيادة الجيوش الرومانية في مصر وهي التي كانت تضم فرقًا أصلية Legiones كما سبق أن ذكرنا. وقد ركزت هذه السلطة في يده كل السلطات بصفته ممثل الإمبراطور في الولاية، فكان هو الرئيس الأعلى للإدارة المدنية والقاضي الأعلى في جميع أنواع القضايا وقائد الحامية الرومانية، مما جعله يحتل من الناحية العملية مركز الملك البطلمي بالفعل. ومن هنا تبدو العبارات التي تردد ذكرها عند استرابون وتاكيتوس وأميانوس وماركيلينوس من أن ولاة مصر كان لهم مقام الملوك ومنزلتهم عبارات لها ما يبررها من حيث واقع سلطة الوالي في داخل مصر. بل أن الوالي حتى من حيث الشكل والتقاليد كان يراعى أمورًا ذات علاقة بوضع الملك في التقاليد المصرية العتيقة الراسخة، وهو ما أشار إليه الكاتب الروماني بلينيوس (وإن كان هو المصدر الوحيد الذي ذكر ذلك صراحة). فكان محرمًا على الوالي أن يركب النيل في وقت الفيضان، كما أنه كان يقوم ـ جريًا على عادة فرعونية قديمة ـ بإلقاء شيء من الهدايا الفضية والذهبية في النيل في مكان محدد وفي وقت ما من الفيضان تبركًا وتيمنًا أو عرفانًا.


ولم يكن والي مصر مسئولاً أمام أي سلطة في روما سوى الإمبراطور. وفيما عدا الموظفين الذين كان يعينهم الإمبراطور مباشرة، كان الوالي هو الذي يعين في مصر كل موظفي الإدارة في جميع مستوياتها. وكان يتمتع بحق مصادرة الأملاك وإصدار الأحكام بالأشغال الشاقة في المناجم والمحاجر، بل بإصدار أحكام الإعدام، وإليه تقدم الشكليات. غير أن بالرغم من ت ركز كافة السلطات على هذا النحو في يد الوالي فإن سلطته لم تكن مطلقة لأنه كانت أخر الأمر خاضعة لسلطة الإمبراطور الذي كان يعينه من قبله رأسًا ويعزله متى شاء. كذلك فإن الرسائل epistulae والفتاوي rescripta والتعليمات mandata الصادرة من الإمبراطور كانت تنظم مهام الوالي وتحددها من وقت لآخر. والإمبراطور، وليس الوالي، هو الذي كان يحدد مقدار الضرائب العينية والنقدية التي تجبي سنويًا من مصر. كذلك كان الوالي يرجع إلى الإمبراطور في المسائل التي يراها مجاوزة حدود اختصاصه أو يرفع إليه بعض الأمور ليفصل فيها بنفسه. وقد أصبحت تعليمات الأباطرة المتعاقبين وفتاواهم على مر الوقت بمثابة قواعد ثابتة كان الوالي يتصرف وفقًا لها ولا يستطيع مخالفتها. بل الواقع أن الوالي لم يكن يملك أن يتخذ قرارًا لا يتمشى مع سياسة الإمبراطور. لذلك يصح القول بأنه إذا كان الوالي في نظر سكان مصر حاكمًا مطلق السلطات مثله كمثل الفرعون تمامًا، فقد كان في نظر الإمبراطور أداة طيعة تأتمر بأمره وتنفذ كافة رغباته.