أما عن نظام الحكم في الإسكندرية، فقد وجد مبدأ الازدواجية نفسه الذي سبق أن أشرنا إليه في نظام الإدارة المحلية في عواصم الأقاليم، فكان هناك الموظفون المدنيون الذي يمثلون هيئة المواطنين فيها إلى جانب الموظفين المعينين الذين يمثلون السلطة المركزية. ومن النوع الأول وجدت الوظائف البلدية التي مر بنا ذكرها في العواصم، كوظيفة مدير الجمنازيوم ووظيف الأكسجتيس ومراقب الأسواق وما إليها، وإن كان لا يبدو أن الإسكندرية كانت في المثل الذي أقام أوغسطس هذه الوظائف في تلك العواصم على غراره. وقد كان هؤلاء الموظفون يؤلفون في مجموعهم هيئة عرفت باسم بريتانس Prytannis ويبدو أن رئيسها كان هو الإكسيجتيس. ونحن نستنبط من فقرة وردت في الرسالة المشهورة التي وجهها الإمبراطور كلاوديوس إلى الإسكندريين، ووافق فيها على أن يجعل وظيفة الكاهن فقط بالاقتراع، نستنبط أن سائر الوظائف المدنية الأخرى كانت تتم بطريقة مغايرة، ويبدو ذلك مما ذكر في هذه الرسالة نفسها من موافقة الإمبراطور على مطلب الإسكندريين بأن يصبح تولي هذه الوظائف لمدة ثلاث سنوات فقط، مما يفهم منه أنها كانت تشغل قبل ذلك لمدة أكثر من هذا، أو ربما لعدد غير محدود من السنين. وقد كان رأي الإمبراطور الحصيف في ذلك أن شاغل الوظيفة سيصبح أكثر حرصًا في مزاولتها عندما يعلم أنه سيتركو وظيفته وشيكًا ليكون محل مساءلة.

ومن ناحية أخرى كان للسلطة المركزية في الإسكندرية ممثلوها الذين كانوا يتدخلون في كثير من شئونها. كان هناك حاكم المدينة وقائد الشرطة بها. هذا إلى جانب ما نسمع عنه من العادة التي درج عليها الأباطرة من تعيين أعضاء في هيئة البريتانس (ونعني حكام المدينة خارج السلطة المركزية). وكان هؤلاء المعينون في العادة من عبيد الإمبراطور المعتقين الذين عرفوا باسم Kaisarioi وقد كانوا بمثابة عيون للسلطة المركزية على هيئة الحكام المحليين. وليس من شك في أن وجود هؤلاء إلى جانب ممثلي السلطة المركزية من الموظفين قد انتقص كثيرًا من حرية المدينة واستقلال هيئة المواطنين فيها بإدارة شئون مدينتهم، وقد كان هذا يتمشى مع سياسة الرومان إزاء مدينة الإسكندرية من حيث حرصهم على ألا تتمتع بقدر كبير من الاستقلال، ولعله كان هو السبب الواضح لرفض أوغسطس (وخلفائه من بعده) مطلب الإسكندريين بإنشاء المجلس التشريعي. وينبغي أن نذكر أخيراً وليس آخرًا مشيئة الإمبراطور وسلطة الوالي الروماني الواسعة وما كان ذلك يلقيه على حرية المدينة من قيل ثقيل. وفي أمر من أخص شئون المجتمع اليوناني في المدينة وهو منح حقوق المواطنة الإسكندرية لغير أبناء الإسكندريين كان الذي في المدينة وهو منح حقوق المواطنة الإسكندرية لغير أبناء الإسكندريين كان الذي يملك هذا الحق هو الإمبراطور، أما محاكمة أولئك الذين أقحموا أنفسهم في سجل مواطني المدينة بغير حق فكان من سلطة الوالي.


وأما "بطلمية" المدينة الوحيدة التي أسسها البطالمة في مصر فنعلم أنها تمتعت في الصعر البطلمي بقدر واضح من الاستقلال لم ينقص منه إنشاء عبادة محلية بها لمؤسسها بطليموس الأول (سوتر). كما نعلم من الأسماء المتواترة التي حملها مواطنوها حتى القرن الثاني الميلادي، أي في خلال العصر الروماني الأول، أنهم ظلوا يونانًا خا لصين. ويذكر استرابون أنه كان لهذه المدينة دستور على نمط دستور المدينة اليونانية، ونراها تقدم القرابين باسمها وبصفة كونها مدينة، مرة في أيام الإمبراطور هادريان ومرة بعد ذلك في عام 147م.


وهكذا فإن ما نعلمه من أحول الدن اليونانية الثلاث في مصر يشير إلى أن الرومان واصلوا سياسة البطالمة في السماح لها بالاحتفاظ باستقلال ذاتي شكلي أو اسمي، لكنهم حصروا ذلك في حدود ضيقة للغاية ولم يكن للرومان اهتمام بأن ينشئوا مدنًا يونانية جديدة، لولا أن واحدًا من أباطرتهم الذين أغرموا بالثقافة اليونانية على نحو خاص وهو هادريان أنشأ مدينة يونانية جديدة عند زيارته لمصر في عام 130م. وقد جلب الإمبراطور لمدينته مواطنين من عدة مصادر توخى فيها أن تكون يونانية خالصة بقدر المستطاع، كما منحها دستورًا يونانيًا على نمط دستور نقراطيس. وقد قسم مواطنوا الدينة الجديدة (التي حملت اسم أنطينوبوليس) قسموا كالعادة إلى قبائل وأحياء حمل أكثرها اسم أفراد عشيرة الإمبراطور. وكان تمنع المدينة بمجلس تشريعي محل فخر واضح من مواطنيها، وتجلي ذلك فيما أطلقوه على مدينتهم من وصف "مدينة الأنطينوئيين" وعلى أنفسهم من وصف "الهلينيين الجدد".

منقول