ولعل من أبرز خصائص الإدارة الرومانية في مصر تلك البيروقراطية المفرطة التي تتجلى في العناية الفائقة بتدوين كل شيء وتوثيقه وحفظه في سجلات لتحقيق ضبط الأوضاع القانونية للسكان والتغيرات التي تطرأ على ممتلكات الأفراد وقدرتهم المالية التي تؤهلهم للاضطلاع بعبء الخدمات الإلزامية Leitourgia وما إلى ذلك. وليس أدل على هذه العناية من تلك الوثيقة الطريفة رقم 31 من برديات استراسبورج وترجع إلى عام 194م وفيها نرى شخصًا يشغل في الأصل وظيفة الكاتب الملكي ويقوم في وقت تحرير الوثيقة إلى جانب وظيفته تلك بمهام وظيفة مدير الإقليم مؤقتًا، وهو يكتب الآن بصفة كونه "مدير إقليم" إلى نفسه بصفته "كاتبًا ملكيًا" يطلب الاهتمام بإرسال التقارير الشهرية المتعلقة بحصة الإقليم من القمح المرسل إلى روما.

ولحفظ تلك الكميات الهائلة من الوثائق والسجلات التي اقتضتها الأغراض الإدارية أقام الرومان سلسلة من دور المحفوظات فاقت بكثير تلك التي نراها في عصر البطالمة، وحملت هذه الدور أسماء متعددة، متدرجة من القرية وهي أصغر وحدة إدارية حتى عاصمة السلطة المركزية في الإسكندرية، وقد أفردت الإدارة لكل منها موظفين مختصين. فمن الجرافيون grapheion على مستوى القرية والمركز (ويشرف عليها النوموجراقواس Nomographos)، إلى دار المحفوظات العامة Bibiothike demosin logon على مستوى عاصمة الإقليم ويشرف عليها الأجورانوموس. وقد تفرعت عن هذه الدار أخرى لحفظ سجلات الممتلكات من أراض وعقار وعبيد عرفت باسم Biblotheke engtesion وقد انشئت فيما بين عامي 64، 67م وأصبح يشرف على الدارين موظفان حمل كل منهما لقب أمين المحفوظات Bibliophylax واختصت الدار القديمة بحفظ الوثائق العامة الرسمية الحكومية، وأصبح هناك قسمان أحدهما يختص بالوثائق المكتوبة باليونانية وعرف باسم agoranomeion والثاني بالوثائق المكتوبة بالديموطيقية وعرف باسم Mnemeion. فإذا بلغنا عاصمة الحكومة المركزية في الإسكندرية وجدنا دار محفوظات مركزية عرفت باسم Katalogeion ويشرف عليها موظف له صفة قضائية ويحمل اسم Archidikastes، وهو لقب انحدر إلى الرومان من عصر البطالمة غير أنه كان في ذلك العصر يتولى وظيفة أرفع بكثير هي وظيفة كبير القضاة أو وزير العدل. ومن هذه تفرعت دار يبدو أنها أنشئت في عهد الإمبراطور هادريان وحملت اسمه Adrianeion على حين عرفت القديمة باسم Naneion. وينبغي أن نضيف إلى هذا أخيرًا دار الوثائق الخاصة بوالي مصر في مدينة الإسكندرية وقد ورد ذكرها تحت اسم Hegemonike Bibiotheke وكانت بالطبع هي أعلى مستوى من حيث نوعية السجلات المحفوظة فيها.


لغة الإدارة:


ذكرنا أن اللغة اليونانية كانت هي لغة البلاد الرسمية منذ بداية العصر البطلمي. وقد أقر الرومان هذا الوضع، فكانت القرارات والمراسيم والأوامر تصدر جميعًا باللغة اليونانية، بل أنه حتى خطابات الأباطرة إلى الولاة وبياناتهم التي كانت تكتب أصلاً باللاتينية إلا في حالات قليلة هي على سبيل الحصر الوثائق الخاصة بالمواطنين الرومان Cives Romani في داخل إطار القانون المدني Ius Civile، وقرارات لاإدارة المركزية حين تكون متعلقة بالجيش الروماني، وأخيراً اللغة الرسمية للجيش الروماني ذاته. وقد ظل هذا الوضع قائمًا في مصر حتى أيام دقلديانوس الذي صدر في عهده قرار بأن تصبح اللاتينية لغة رسمية في جميع ولايات الإمبراطورية حتى تلك التي كانت اليونانية تحتل فيها هذه المكانة. وإزاء الضعف الشديد لتيار اللاتينية في مصر قبل دقلديانوس بالرغم من أن الرومان الفاتحين كانوا يملكون الوسائل لإلباس أداة حكمهم في مصر ثوبًا لاتينيًا، فقد نظر البعض إلى هذه الحقيقة على أنها شاهد من الشواهد على تفضيل أوغسطس وخلفائه لمبدأ الاستمرار والمواصلة على مبدأ فصم التقاليد البطلمية في مجال الإدارة. ومن هؤلاء من رتب على رأيه هذا رأيًا آخر، هو أن ولاية مصر تمثل في هذا وضعًا استثنائيًا بين ولايات روما الشرقية. فإذا استندنا إلى هذا الرأي الأخير بدا لنا الرومان متسامحين تسامحًا خاصًا في مصر بما يجعلهم أميل في هذا الأمر إلى التقليد منهم إلى التجديد.


غير أن دراسة المتاح من القرائن للمقارنة بين وضع اللغة اللاتينية في مصر ووضعها في الولايات الشرقية الأخرى لا تشير إلى فروق ذات أهمية من حيث الانتشار سواء في مجال الإدارة أو مجال الاستخدام العام، بمعنى أن مصر لا تمثل في هذا الأمر وضعًا خاصًا. والأمر الذي يبدو واضحًا، أن الرومان على مستوى ولايات الإمبراطورية كلها، لم يتدخلوا بسياسة لغوية، إن صح هذا التعبير، لفرض وضع لغوي بعينه على السكان غير المتمتعين بحقوق المواصلة الرومانية، في حين كان على المواطنين الرومان أن يستخدموا اللاتينية في الوثائق التي كانت تحرر في إطار القانون المدني الروماني فقط، وكان إبقاء الرومان على اليونانية لغة للإدارة تسليمًا بأمر واقع كان من الصعب تغييره في الولايات الشرقية. والدليل على ذلك أنه حتى عندما تقرر أن تكون اللغة اللاتينية هي اللغة الرسمية الوحيدة منذ أيام دقلديانوس باعتبار ذلك وسيلة من وسائل توحيد النظام الإداري في الإمبراطورية وتبسيط لتحقيق ترابط أجزائها، لم يترتب على هذا القرار إلا تغيير طفيف انعكس في الوثائق على إطار الخارجي فحسب، ونعني عنوان الوثيقة وتاريخها وموضوعها وملاحظات الحاكم أحيانًا، أما أقوال الطرفين في قضية ما وأقوال الشهود والقضاة فكانت كلها تكتب باللغة اليونانية.

منقول