ولم يكن اصلاح الرى وحده يكفى، اذ كان يلزم ان تستصلح الاراضى التى أصابها البوار فى أواخر عصر البطالمه. وقد استخدم اوغسطس فى ذللك ذات الوسائل التى استخدمها البطالمه الأوائل تقريبا، لكن سياسته نحو الاراضى الزراعيه اتجهت الى تشجيع الملكيه الخاصه. ومن المعلوم ان الملك البطلمى شأنه شأن الفرعون من قبله- كان من الناحيه النظريه هو المالك الوحيد لكل أراضى مصر. حقا أن الملك البطلمى كان يعفى مساحات كبيره من هذه الأراضى من سيطرته المباشره، لكن هذه الأراضى على أختلاف انواعها او اقسامها- كانت تؤول آخر الأمر الى الملك. وبالرغم من ان البطالمه كانوا يؤجرون الأراضى بعقود طويله الأجل مما كان يقرب من الملكيه فأنهم لم يشجعوا فيما يبدو الامتلاك الخاص بحيث يمتلك الأفراد الأراضى تملكا حقيقيا. وقد انتقلت ملكيه أراضى مصر بحق الفتح الى اوغسطس لكنه تخلى عن نظريه ملكيه التاج(الملك) لجميع الأراضى التى كانت تعرف فى العصر البطلمى بأسم أراضى الامتلاك الخاص Ge Idiotike، فتوسع فى بيع الأراضى التى كانت قد اقحلت وبارت او التى كان أصحابها قد هجروها، وقد كانت فرصه شراء هذه الأراضى متاحه لكل من يرغب فى ذلك، وكانت الشروط مشجعه، اذ كان من المعتاد ان تعفى الأراضى القاحله من الضريبه لفتره من الزمن، ثم تحصل عنها بعد ذلك الضريبه التى كانت فى العاده اردبا واحدا Artaba عن كل مساحه ارورة Aroura من الأرض (الاردب هنا يساوى سدس الاردب المصرى الحالى تقريبا، والارورة تساوى ثلاثه اخماس الفدان المصرى). وفضلا عن هذه الشروط المتسامحه فأن اسعار بيع هذه الأراضى التى وردت فى الوثائق البرديه كانت منخفضه للغايه حتى لتبدو هذه الأسعار وكأنها أسعار رمزيه. ومن ناحيه ثانيه اتجه اوغسطس فى أعقاب استيلاءه على مصر مباشره فيما يعدو، اتجه الى منح الجنود الذين استقروا فى مصر مساحات صغيره من الأراضى ثم عدل عن هذا النظام الى دفع مبلغ من المال للجندى مع تشجيعه على شراء قطعه أرض بثمن زهيد .

والى جانب تشجيع هذه الملكيات الخاصه الصغيره لجأ أوغسطس من أجل الاسراع بعمليه استصلاح الأراضى الى اسلوب يشبه الأسلوب الذى اتبعه من قبله بطليموس الثانى(فيلادلفوس) وان اختلف فى طبيعته. فقد حث اوغسطس أفراد الطبقه الارستقراطيه سواء من الرومان او مواطنى مدينه الاسكندريه الأثرياء على استثمار رؤوس أموالهم فى استصلاح مساحات كبيره من أرض مصر وزراعتها، وقد كانت هذه الاراضى تمنح للأفراد دون مقابل او تباع لهم بقيمه اسميه. وقد ترتب على هذه السياسه نشوء الملكيات الزراعيه الكبيره التى شكلت فى مصر فى العصر الرومانى قسما هاما من الاراضى عرف باسم أرض "الوسيه" Ousiake Ge. ولا شك ان هذه الملكيات الكبيره قد ادت دورا هاما فى استعاده قدره مصر الاقتصاديه على مدى القرن الأول من الحكم الرومانى .

وهكذا نرى ان سياسه اوغسطس فى تشجيع الملكيه الخاصه فى مصر كانت تستهدف فى المقام الأول اشراك جهود الأفراد فى العمل على استصلاح الأراضى البور، وكان هناك الى جانب ذلك هدف سياسى يتحقق بازدياد عدد ملاك الأراضى سواء من صغار الفلاحين او متوسطى الحال من يونان الأقاليم .

3- تقويه السلطه المركزيه وتنظيم اداة الحكم:

وكانت المهمه الثالثه امام اوغسطس هى ان يهيئ لمصر جهازا قويا يضمن له احكام السيطره عليها. وقد سبق ان اشرنا الى انه لم يكن محتاجا فى ذلك الى اجراء تعديلات جذريه فى نظام الاداره البطلميه الذى وجده فى مصر، لان هذا النظام كان كفيلا بأن يحقق له كل أهدافه اذا ما زال عنه الضعف والتراخى الذى لحقه على أواخر أيام البطالمه. ولذلك فاننا سنلاحظ قدرا كبيرا من الاستمراريه فى النظم الاداريه خاصه فى الوظائف الاداريه الرسميه على مستوى الاقليم او المديريه Nome، ومع ذلك فاننا نجد هنا العديد من التعديلات والاجراءات التى استحدثها الرومان فى نظم الاداره المحليه اما بقصد "رومنتها" او لمواجهة اوضاع استجدت بالضروره .

على مستوى السلطه المركزيه كان الامر يقتضى بالطبع تعيين موظفين جدد من الرومان لممارسه السلطات التى كانت للملك البطلمى. وقد توخى اوغسطس ان يكون هؤلاء تابعين له تبعيه مطلقه ليكونوا اداته الطيعه و المضمونه فى حكم الولايه الغنيه. ويأتى فى مقدمه هؤلاء الوالى الذى كان يمثل رأس السلطه المركزيه فى مصر والذى ذكرنا من قبل ان اوغسطس اختاره من طبقه الفرسان التى كان يثق فى ولاء افرادها له وقدرتهم على اداره مصر كما تدار الضيعه لصالح الشعب الرومانى، حيث انهم كانوا فى الأصل من الرجال العمال. وهنا نلاحظ انه بالرغم من الصلاحيات الواسعه التى تمتع بها والى مصر الرومانى حتى ترددت عند بعض المؤرخين القدامى (استرابون وتاكيتوس واميانوس ماركلينوس) عباره ان الوالى كانت له "مكانه الملوك" فانه لم يكن باى حال فى وضع "نائب الملك" وانما كان تعيينه بمقتضى "قانون" يجعله فى وضع موظف رومانى عام Magistratus Romanus يشغل وظيفته لمده محدده وان كان مسئولا عن تصرفاته امام الامبراطور وحده. اما الوظائف الرومانيه الأخرى على مستوى السلطه المركزيه فقد جعلت لمساعده الوالى فى القيام بمهامه المتعدده وكان اولها منصبا يلى منصب الوالى مباشره وهو اليوريديكوس Iuridicus (وهو يقابل فى الوثائق اسم Decaiodotes باليونانيه ومعناها الحرفى مصرف العداله) ولنا ان نطلق على هذا المنصب اسم وزير العدل. وقد كان الامبراطور هو الذى يعين هذا الموظف الكبير الذى كان لابد من ان يكون مواطنا رومانيا ولا يستطيع الواى عزله. ومما يدل على ان هذه الوظيفه كانت تلى وظيفه الوالى مباشره ما نعلمه من ان اصحابها كان يتولى مؤقتا منصب الوالى فى حاله خلو هذا المنصب فجأه بعزل الوالى او موته، الى ان يعين وال جديد. وبالرغم من اننا لا نعلم تفصيلات عن وظيفه اليوريديكوس (وزير العدل) واختصاصاتها فان المرجح ان هذا المنصب فى مصر كان يقابل منصب المندوب القضائى Legatus iuridicus فى الولايات الرومانيه الأخرى، كما ان من الواضح ان انشاء هذه الوظيفه كان يستهدف تزويد الداره الرومانيه فى مصر بالخبره القانونيه، وينبغى ان نتذكر هنا ان الوالى كان يختار من طبقه الفرسان كما قلنا، وهى هيئه لم يشتغل افرادها فى روما بشئون القضاء وانما اشتغلوا بشئون التجاره والمال وامدادات الجيوش والاداره فحسب.وحتى لا يؤدى انعدام خبره الوالى بالشئون القضائيه الى تعارض احكامه واجراءاته مع مبادئ القانون الرومانى العام، أنشأ اوغسطس هذا المنصب ليكون بمثابه المستشار القانونى للوالى او ربما ليكون الرقيب على تصرفاته القانونيه. وكثيرا ما كان الوالى ينيب عنه هذا الموظف الكبير فى نظر القضايا الكثيره التى ترفع اليه. وقد كانت سلطه اليوريديكوس تشمل عموم مصر، وبالتالى فاننا نستطيع ان نشبه منصبه فى هذا المجال بمنصب قاضى القضاة (ارخيديكاستس) Archidikastes على ايام البطالمه. ومما يجدر ذكره ان منصبا قضائيا آخر يحمل هذا اللقب نفسه(ارخيديكاستس) قد بقى فى مصر تحت حكم الرومان لمساعده الوالى، لكن يبدو من الوثائق ان هذا المنصب اصبح مرتبطا كل الارتباط بمدينه الاسكندريه وكان يشترط ان يكون صاحبه من مواطنى هذه المدينه الذين حصلوا على حق المواطنه الرومانيه، كما يبدو انه كان موظفا تنفيذيا موكولا اليه تنفيذ الأحكام مشرفا على دار الوثائق العامه(المحفوظات)Katalogeion بمدينه الاسكندريه. وتعطينا وظيفه الارخيديكاستس هذه مثالا على بقاء بعض الوظائف التى وجدت عند البطالمه بأسمائها فقط مع تغير جذرى فى اختصاصاتها. وفى الشئون الماليه التى كانت تشكل جانبا كبيرا بل اساسيا من اختصاص الوالى، عين لمساعدة الوالى موظفان كبيران حمل احداهما لقب Dioeketes ونستطيع ان نطلق عليه "المتصرف المالى" وحمل الثانى لقب Idios Iogos ونستطيع ان نطلق عليه "مدير الحساب الخاص" ومن الواضح ان كلا من هاتين الوظيفتين كانت معروفه فى نظم البطالمه، غير انه طرأ على اختصاصات كل منها فى الفتره الرومانيه بعض التغيير الذى اقتضاه تغير الأوضاع. ففى العصر البطلمى كان الديويكتيس على رأس الاداره الماليه فكان فى وضع وزير الماليه ولعلنا نذكر ممن شغلوا هذه الوظيفه كمثال ابولونيوس وزير ماليه بطليموس الثانى (فيلادلفوس) اما الاديوس لوجوس فكان فى العصر البطلمى احد مرءوسى الديويكتيس ويختص بجانب من الشئون الماليه، ومن هنا كانت تسميه "مدير الحساب الخاص" تنطبق على طبيعه هذه الوظيفه.

لكنه مع اعتبار والى مصر فى العصر الرومانى رئيسا اعلى للاداره الماليه فان مرتبة وظيفته الديويكتيس هبطت لتصبح من الناحيه النظريه مساويه لوظيفه الاديوس لوجوس. غير انه من الصعب تحديد اختصاصات وظيفه المتصرف المالى فى العصر الرومانى او تحديد علاقتها بالوظيفه الثانيه المذكوره، وقد كان يراعى فى اختيار شاغلها ان يكون من المواطنين الرومان وكان المستحسن بالطبع ان يكون من هيئه الفرسان المتمرسه بالشئون الماليه. والواقع ان معلوماتنا عن وظيفه الاديوس لوجوس(مدير الحساب الخاص) اوفر بكثير، وذلك بفضل تلك الوثيقه المهمه التى اشرنا اليها من قبل اكثر من مره وهى P.Gnomon التى تتضمن القواعد والاحكام الاداريه الخاصه بهذه الوظيفه فى مصر فى العصر الرومانى، حيث يبدو واضحا ان هذه الوظيفه اكتسبت عندئذ اهميه زائده. وكان الامبراطور يعين فيها مواطنا رومانيا من هيئه الفرسان ايضا. ونستطيع ان نقول على وجه الاجمال ان مدير الحساب الخاص كان مختصا بالاشراف على موارد الدخل غير النتظمه او غير العاديه، وبخاصه تلك المتحصله من الاملاك المصادره او التى لا صاحب لها، الى جانب جميع انواع الغرامات الموقعه على مخالفى القواعد الماليه. كذلك كان يختص بالفصل فى قضايا الخزانه العامه، واداره الأراضى التى تؤول الى الدوله حتى يتم بيعها. كذلك اسند اليه الاشراف على أراضى المعابد ودخلها، ومن اجل هذا حمل لقب كبير كهنه مصر بالرغم من انه كان موظفا مدنيا أبعد ما يكون عن الشئون الدينيه. وقد كان يعاون هذين الموظفين الماليين الكبيرين عدد من الموظفين والاتباع يتولون الاشراف على ادارات فرعيه ويحملون لقب وكيل (Procurator باللاتينيه وEpitropos باليونانيه) ومن اهم هؤلاء المشرف على مخازن الغلال بالاسكندريه وكان يشرف على جمع الغلال من اقاليم مصر وارسالها الى الاسكندريه تمهيدا لشحنها الى روما ومنهم ايضا المشرف على املاك الامبراطور الخاصه Procurator usiacus وكانت هذه الاملاك تضم مساحات كبيره من أرض مصر وكان الامبراطور يوليها اهتماما خاصا. وقد كان هذان الموظفان يعينان فى العاده من عتقاء الامبراطور Iiberti (اى من عبيده المحررين) وهم الذين كان الامبراطور يثق فيهم ثقه كبيره ولذلك استخدمهم فى اداره كثير من المرافق الاقتصاديه فى ولايات شتى فى الامبراطوريه
.

منقول